الأزمة العالمية تحت مجهر الماركسية


المناضل-ة
2009 / 11 / 1 - 11:07     

ملاحظات حول ندوة دولية
الخميس 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2009



نظمت في مطلع شهر أكتوبر الجاري، بالمعهد الدولي للبحث و التكوين IIRF بأمستردام، أيام دراسية دولية حول أزمة الرأسمالية. كان هدفها تحليل طبيعة الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة و مظاهرها وعواقبها. جرى تصوير المداخلات وستكون متوافرة قريبا بالصفحة الالكترونية للمعهد http://www.iire.org، كما اتفق المشاركون على تشكيل شبكة اقتصاديين لمواصلة النقاشات والمبادلات وعلى اجتماع هذه الشبكة مجددا بعد عامين في ندوة أخرى.




جرى التطرق لثلاثة مسائل أساسية خلال مختلف دورات الأيام الدراسية.

في المقام الأول، ما طبيعة هذه الأزمة؟ هل يتعلق الأمر بأزمة اقتصادية كلاسيكية أخرى، أم يتعين علينا تأكيد طابعها غير المسبوق بفعل الدور الخاص للمالية اليوم في الاقتصاد العالمي؟ أم نحن إزاء أزمة "الرأسمالية المالية"؟ وهل تحافظ نظرية الموجات الطويلة على فائدة لفهم تطور الرأسمالية اليوم؟ وفي مقام ثان، ما العواقب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه الأزمة؟ هل نحن إزاء عودة للكينزية، أم على العكس تواصل الأجندة النيوليبرالية توجيه خطط الإنقاذ والإنعاش التي تنفذها الحكومات الرئيسية بالعالم؟ و هل بوسعنا القول إن حدة الأزمة ستنعكس على نحو آلي في تنام للنزاعات الاجتماعية، وفي إعادة انتشار خطابات اليسار؟

وأخيرا، ما نوع العلاقة القائمة راهنا بين الأزمة الاقتصادية والأزمة البيئية و الأزمة الغذائية؟

لتناول هذه المسائل، وأخرى غيرها، استفدنا من مساهمات ممتازة قدمها باحثون في الاقتصاد، ومناضلون ماركسيون، و بيئيون أكفاء.

افتتح فرانسوا شيسنيه الندوة بطرح النقاش حول دور ما يسمى "تمييل" ("fianciarisation" ) الاقتصاد في الأزمة الراهنة. وقد حصل اتفاق عام حول رأيه الذي مؤداه أنه لا يمكن الاقتصار على توصيف الأزمة الراهنة ل بما هي " أزمة مالية"، ولا اعتبارها ثمرة لهذا "التمييل". إذ تمد الأزمة الراهنة جذورها عميقا في عملية تراكم الرأسمال، كاشفة كل تناقضاتها، على نحو يستدعي البحث عن الأسباب النهائية لهذه الأزمة في دينامية النشاط المنتج ذاته، أي في استخراج فائض القيمة وفي توزيع الثروات بين الرأسمال والعمل.

وعند توصيف أسباب الأزمة وعلاقاتها مع سيرورة تراكم الرأسمال، انبثق نقاش هام بين المشاركين في الندوة. إذ دافع البعض عن تفسير سيرورة فيض التراكم sur-accumulation [أي بعبارة أخرى نقص مردودية الاستثمارات الرأسمالية في النشاط المنتج]، فيما أكد آخرون على أهمية إضافة واعتبار ظاهرة نقص الاستهلاك sous-consommation ( نتيجة نموذج توزيع للثروات ناكص لدرجة الإفضاء إلى قرض الطلب الفعلي، المحافظ عليه طيلة سنوات باستدانة الأسر).

قدم كل من أوزليم أوناران (من تركيا ، وكلاوديو كاتز )من الارجنتين(، و برونو جوتان )من فرنسا(، تقارير حول الوضع الاقتصادي بأوربا وبأمريكا اللاتينية وبآسيا. وأتاحت هذه العروض إضاءة أفضل لبعد الأزمة، وكذا ما تحدث من أثر خاص بمختلف مناطق العالم. كشفت هذه التقارير، مع ما ُسجل من فروق، غياب أي شكل من الانغلاق بين مختلف المناطق والطابع العالمي للأزمة.

ومن جانبهما، حلل كل من ميشال هوسون (من فرنسا)، و كلاوس انجيرت (من ألمانيا)، الأزمة الراهنة على ضوء نظرية الموجات الطويلة. تتيح هذه النظرية إدراك أهمية وجود عوامل داخلية (أي خاصة بمنطق الرأسمال وتناقضاته الداخلية) تمكن من فهم كون الطور الهابط من التراكم الرأسمالي البادئ في مطلع سنوات 70 لم ينته بعدُ.

في هذا الاتجاه كان النقاش حول تطور معدل الربح خلال العقود الأخيرة بالغ الأهمية. علاوة على أن نظرية الموجات الطويلة تتيح تقدير إمكان استعادة معدل أرباح مرتفع وموجة طويلة صاعدة للرأسمالية يتطلب ليس تركيب عوامل داخلية بل أيضا أخرى خارجية المنشأ ( أي مرتبطة بأحداث اجتماعية- سياسية، وبصراع الطبقات)، ما ينعكس حتما في هجمات جديدة على الحقوق النقابية ، وحقوق العمال والحقوق الديمقراطية المكتسبة تاريخيا من قبل عالم الشغل.

كان مختلف المتدخلين متفقين على استحالة توصيف التدابير الاقتصادية ( الضريبية والنقدية ،الخ) التي اتخذتها الحكومات بوجه الأزمة بما هي سياسات من النمط الكينزي، بل كوصفات عادية لتشريك الخسائر وخصخصة الأرباح. هذا فضلا على أن هذه التدخلات الكثيفة للحكومات غير قبلة للتكرارا بلا نهاية ، على المدى القصير، وستكون عاجزة عن مواصلة إنقاذ عملية التراكم من تناقضاتها الخاصة ( لا سيما عجزها عن تأمين مردودية للاستثمارات في دائرة الإنتاج)، ما سيفضي إلى وضع "خروج من الأزمة" مطبوع بمرحلة ركود طويلة، وبطالة وصراعات حول توزيع الثروات. لا يسعنا إذن القول إن ثمة تغير دال في الأجندة السياسية التي توجه عمل السلطات العامة.

في هذا الاتجاه، جاء عرض ايريك توسان (من بلجيكا) ليعيد إلى الأذهان انعدام أي آلية حتمية بين واقع دفع ثمن الأزمة من قبل الطبقات العاملة والشعبية أساسا و انعكاس هذه الظاهرة في تنام للنضالات الاجتماعية . إذ يجب اعتبار عوامل أخرى، سياسية وإيديولوجية وتنظيمية، لتعزيز تلك النضالات وحفزها.

وأدخل استير فيفاس (من اسبانيا) و دانيال تانورو (من بلجيكا) بعدا تحليليا أساسيا في الندوة ، متمثل في ملاحظة أن الأزمة الاقتصادية غير معزولة، بل بالعكس مصحوبة بتفجر أزمات أخرىـ مستديمة و هيكلية هي أيضا- مثل الأزمة الغذائية والأزمة البيئية.

حلل ايستير فيفاس الأسباب الظرفية والهيكلية للأزمة الغذائية، و أكد على دور النموذج الصناعي الراهن للإنتاج الزراعي ولإنتاج الماشية بما هو أحد المسؤولين الرئيسيين عن الغازات ذات مفعول الدفيئة وعن تبدل المناخ. واستكشف فيفاس العلاقات بين الأزمة الغذائية والمالية وقدم الاثنتين بما هما نتيجة التوسع العالمي للرأسمالية.

من جانبه، أكد دانيال تانورو على كون الإجراءات المتخذة لمواجهة تبدل المناخ " ناقصة و غير واقعية وخطيرة ولاعقلانية"، و أبرز أنها ليست سوى استجابة لمصالح "رأسمالية خضراء" لتحقيق أرباح مع الأزمة البيئية الراهنة. يجب على الاشتراكية البيئية، في نظر تانورر، أن تضع في المقدمة إلغاء الإنتاج غير الضروري، وتحويل شغيلة القطاعات الملوثة إلى قطاعات أخرى، وضرورة نموذج تنمية زراعية معاد توطينه و تدابير معادية للرأسمالية جذرية.

أتاحت التحاليل المعروضة خلال الندوة ملاحظة – باقتناع وصرامة قويين- أن البشرية تواجه اليوم أزمة ذات طابع منظومي ( مالية و اقتصادية و غذائية و بيئية...). إن حدة الأزمة وعمقها، مع تحميل كلفتها لذوي الأوضاع الأكثر هشاشة ( العمال والطبقات الشعبية في العالم برمته)، أتاحا اختتام الندوة بالتذكير بالراهنية الضرورية لمشروع تحرري معاد للرأسمالية و بيئي واشتراكي.

المصدر: من تقرير أعده ناشو الفاريز و دانيال البارسين و ايستير فيفاس المناضلين باليسار المعادي للرأسمالية بالدولة الاسبانية

تعريب جريدة المناضل-ة