الماركسية والانتخابات البرلمانية

تيار الاشتراكيين الثوريين
2009 / 10 / 21 - 23:20     

تطورت في تاريخ الاشتراكية رؤيتين مختلفتين ومتعارضتين حول مسألة الانتخابات. الرؤية الأولى وهي الإصلاحية طرحت أن النظام البرلماني الحديث يتيح للطبقة العاملة فرصة تحقيق الاشتراكية من خلال انتخاب أغلبية اشتراكية للبرلمان. وقد ركزت هذه المدرسة على الطبيعة التدريجية والسليمة لعملية الانتقال إلى الاشتراكية وترى أن الحملات السياسية من الانتخابات وعمل أعضاء البرلمان الاشتراكيين كأهم عناصر الممارسة الاشتراكية.



أما الرؤية الثانية والتي طرحها ماركس وإنجلز وبلورها كل من لينين ولوكسمبورج فتطرح ضرورة الإطاحة الثورية بالدولة البرجوازية على أساس النضال الجماهيري للطبقة العاملة واستبدالها العمالية.



وقد أزدهر الاتجاه الإصلاحي في ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ووجد أنقى تعبير له في كتابات إدوار برنشتاين والذي طرح في كتاب الاشتراكية التدريجية:



"إن مهمة الاشتراكية الديمقراطية في تنظيم الطبقات العاملة سياسيًا وتطوير ديمقراطيًا والنضال من أجل كل الإصلاحات في الدولة التي ترفع من شأن الطبقة العاملة وتحول الدولة في اتجاه الديمقراطية"



ولم يكن برنشتاين وحده في هذه التصورات الإصلاحية فحتى كارل كاوتسكي أهم القيادات النظرية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني وقد كان ناقدًا لأفكار برنشتاين بشكل عام، كان يرى أن معنى الاستيلاء على السلطة السياسية هو كسب البرلمان. وقد كتب كاوتسكي في 1912:



"إن هدف نضالنا السياسي يظل كما كان دائمًا حتى الآن وهو الاستيلاء على سلطة الدولة من خلال كسب الأغلبية في البرلمان وتصعيد البرلمان للسلطة العليا داخل الدولة. وبالتأكيد ليس هدفنا تدمير سلطة الدولة."



وقد أعتبر كاوتسكي العمل الجماهيري، كالمظاهرات والإضرابات، وسائل استثنائية للنضال، معتبرًا التركيز على هذه الأساليب انحياز خاطئ يجب مواجهته. لكن هذا الاتجاه كان يمثل انحرافًا خطيرًا عن تراث الماركسية الثورية لنلقي نظرة أولاً على ما طرحه ماركس حول هذه المسألة.



في 1879 كتب ماركس وإنجلز رسالة نقدية إلى قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني يسألون فيها إذا كان الحزب قد "أصيب بالأمراض البرلمانية" وأصبح يصدق أن التصويب الجماهيري يغمر الأعضاء المنتخبين بالروح المقدس، وقد هاجمت أيضًا الرسالة مقالة شارك في كتابتها إدوارد برنشتاين.



كانت هذه المقالة تدعو الحزب للتحلي بالصبر والاتزان من أجل عدم تجويف البرجوازية بالشبح الأحمر، وطلبت المقالة أن يكون ممثلين الحزب في البرلمان من "المتعلمين"



وقد هاجم ماركس وإنجلز هذه الأفكار وبعنف وطرحًا أن على كتب هذه المقالة أن يترك الحزب إذا كان في نيتهم "استخدام مواقعهم الرسمية لمحاربة الطابع البروليتاري للحزب".



وطرح ماركس وإنجلز في رسالتهما أنه بالنسبة لبرنشتاين وغيره، البرنامج لا يتم التخلي عنه بل فقط تأجيله إلى أجل غير مسمى، فهم يتبنون البرنامج لأنفسهم ليس خلال حياتهم بل فقط للمستقبل البعيد بعد وفاتهم كميراث لأبنائهم وأحفادهم.



أما الآن فهم يركزون كل طاقاتهم في كل أنواع التافهات، في المضايقات المحدودة للنظام الاجتماعي الرأسمالي حتى يبدو كأن شيئًا ما يتم فعله بدون تخويف البرجوازية في نفس الوقت. خلال الأربعين عامًا الماضية كنا نؤكد أن الصراع الطبقي هو الرافعة الأساسية للتاريخ وبالتحديد أن الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة. لا يمكننا بالتالي التعاون مع من يحاولون إلغاء الصراع الطبقي من الحركة. وقد بلورنا عند تأسيس الأممية شعار "أن تحرير الطبقة العاملة لابد أن تحققه الطبقة العاملة نفسها. وبالتالي لا يمكن أن نتعاون مع من يقول علنا أن العمال ليس لديهم الثقافة لتحرير أنفسهم وأنه يجب أولاً تحريرهم من أعلى على يد أعضاء الطبقات العليا والمتوسطة الخيرية.



وقد عاش إنجلز ليرى تعاظم القوة البرلمانية للحزب الألماني. ففي عام 1884 حصل الحزب على أكثر من نصف مليون صوت. وفي 1890 تضاعفت الأصوات وتضاعفت مرة أخرى في 1898 وأيضًا في 1911 حيث وصلت إلى 4 ملايين.



وكان إنجلز شديد بنجاحات الحزب في البرلمان وقد رأى أن هذه النجاحات هي وسيلة جيدة لتوسيع التأثير السياسي للحزب ولزيادة العضوية.



وفي مقدمته لكتاب "الصراع الطبقي في فرنسا" والتي كتبها إنجلز عام 1895 لخص ما رآه هامًا في استخدام الانتخابات البرلمانية من قبل الاشتراكية الديمقراطية الألمانية:



"إذا كانت الميزات الوحيدة للانتخابات الحرة هي أنها تسمح لنا بحصر أعدادنا كل ثلاث سنوات ومن خلال الزيادة الكبيرة والسريعة لأصواتنا تزيد بنفس الدرجة ثقة العمال في النصر وإحباط أعداؤنا وتصبح بالتالي أفضل أداة للدعاية وإنها توضح لنا بشكل دقيق مدى قوتنا وقوة أعداؤنا وبالتالي تصبح مؤشر لا يعلو عليه لتحديد تحركاتنا فهي تحمينا من التسرع غير المناسب أو التأخر غير المناسب. إذا كانت هذه هي الميزات الوحيدة التي تجنبها من الانتخابات لكانت كافية. ولكنها فعلت أكثر من ذلك بكثير، ففي الدعاية الانتخابية يتاح لنا وسيلة فريدة في الارتباط بالجماهير في المناطق التي لازالوا فيها بعيدين عنا وأيضًا في اضطرار الأحزاب الأخرى أن تدافع عن مواقفها في مواجهة هجومنا أمام الجماهير"



ولكن إنجلز أيضًا رأى خطورة في النجاحات الانتخابية فقد ولدت هذه النجاحات ميل لدى قيادات الحزب للتخلي عن الأهداف البعيدة والاكتفاء بالأهداف المباشرة. فقد كان النمو التدريجي للقوة الانتخابية ومعه توسع الاقتصاد الألماني وسنوات طويلة من الهدوء النسبي في الصراع الطبقي يقوى من نفوذ الاتجاه الإصلاحي في الحزب وكان هذا صحيحًا خاصة في حالة الشرائح العليا من النقابيين وبيروقراطي الحزب والممثلين البرلمانيين الذين رأوا أن أي تحرك متهور ومتطرف سيؤدي إلى إمكانية قمع من الدولة والمخاطرة بالتنظيمات التي تم بناؤها بجهد ودأب عبر السنوات السابقة.



وفي نقد مشروع برنامج 1891 انتقد انجلز بشدة برنامج ايرفورت الذي كان قد أنتجه الحزب وكان جوهر نقده هو أوهام الحزب حول التغيير من خلال البرلمان وقد حذر انجلز من الانتهازية التي تنتشر في جزء من صحافة الاشتراكية الديمقراطية.. وتريد الآن أن يطرحوا كل مطالب الحزب بالطرق السلمية وفي إطار النظام القانوني الحالي في ألمانيا. هذه كلها محاولات لإقناع الذات وإقناع الحزب بأن المجتمع الحالي يتطور نحو الاشتراكية بدون أن نسأل أنفسنا إذا كان ذلك يؤدي بالضرورة إلى الخروج عن إطار النظام الاجتماعي القديم وبالتالي ضرورة كسر ذلك الغشاء القديم. إن هذا النضال والحركة من أجل النجاح اللحظي بدون التفكير في العواقب التالية، وهذه التضحية يستقبل الحركة من أجل حاضر 185 ممكن الممكن أن يكون نابعًا من نوايا صادقة ولكنه انتهازية. ولعل الانتهازية الصادقة هي اخطر أنواع الانتهازية على الإطلاق.



لينين وروزا لوكسمبرج:


كان هناك اختلاف كبير بين بنية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية وبنية الحزب البلشفي في روسيا. ففي حين كان الحزب الألماني يهدف إلى تمثيل الطبقة العاملة الألمانية ككل بكل اتجاهاتها وألوانها السياسية من الإصلاحي إلى الثوري كان لينين يناضل من أجل بناء حزب مستقل عن أجل مستقل عن أي اتجاه إصلاحي الحركة الاشتراكية في روسيا.



كان البلاشفة يقومون ببناء منظمة للعناصر المتقدمة والطليعية في الطبقة العاملة وليس للطبقة العاملة ككل. وقد ساجل لينين بعنف ضد المناشفة الإصلاحيين الذين دعوا لبناء حزب واسع شرعي وطرحوا أن العمال الروسي يجب ألا يخيفوا البرجوازية. وفي مواجهة ذلك أصر لينين على ضرورة بناء حزب ثوري مستقل يستثنى الإصلاحيون منه.



وفي ألمانيا انتقدت روزا لوكسمبرج بعنف الاتجاه الانتهازي في الحزب الألماني. كانت لوكسمبورج واضحة في فهمها لحدود البرلمانية وأنه حتى إذا استطاع الحزب الحصول على أغلبية في البرلمان لن يكون ذلك انتصارًا للاشتراكية. فالطبقة الحاكمة ستلجأ إلى مؤسساتها الوفية مثل البوليس والجيش وبيروقراطية الدولة وستوحد ضد البرلمان إذا لزم الأمر في هذا المجتمع تكون المؤسسات التمثيلية ديمقراطية في الشكل ولكن في المضمون تكون أدوات لمصالح الطبقة الحاكمة. ويظهر ذلك بشكل ملموس في أنه كلما مالت الديمقراطية نحو التناقض مع طابقها الطبقي وتحولت إلى أداة المصالح الحقيقية للسكان في تلك التضحية بالإشكال الديمقراطية منه قبل البرجوازية وممثلها في جهاز الدولة.



وهذه المسألة ليست مجرد مسألة نظرية ولكنها مثلت خبرات تاريخية هامة للحركة العمالية في القرن العشرين. أبرزها كان في تشيلي في 1973 حيث أطيح بحكومة اشتراكية كانت قد وصلت إلى السلطة عن طريق البرلمان، أطيح بها من خلال انقلاب دموي شاركت فيه البرجوازية والجيش وبيروقراطية الدولة.



ولكن لوكسمبرج على رغم موقفها الثوري وفهمها العميق لمخاطر وحدود الإصلاحية لم تأخذ خطوات لخلق تنظيم ثوري مستقل أمله في أن الحركة الجماهيرية نفسها ستطيح بالجناح الإصلاحي وتعيد توجيه الحزب نحو الثورة الاشتراكية وعندما بدأت لوكسمورج تحاول في عام واحد تحقيق ما حققه لينين في ما يقرب من عشرين عامًا.



كان البلاشفة هم أول من استخدم الانتخابات البرلمانية بشكل ثوري حيث كان استقلالهم التنظيمي عن المناشفة يسمح لهم باستخدام البرلمان كمنبر للممارسة الدعاية والتحريض الثوريين.



في غضون ثورة 1905 أعلن القيصر عن إنشاء برلمان (الدوما) في محاولة منه لاحتواء الحركة الثورية. لم يكن هذا جهازًا تشريعيًا حقيقيا بل كان مجرد "مجلس شوري" يستطيع القيصر حله في أي وقت. وكان موقف البلاشفة هو المقاطعة النشطة للدوما الأولى.



ولكن عندما بدأت الموجة الثورية في التراجع غير لينين موقفه ودعا إلى ضرورة مشاركة الاشتراكيين في الدوما "كان علينا أن نفعل كل شيء في قدرتنا لمنع إقامة جهاز تمثيلي وهمي. هذا صحيحة ولكن بما أنه قد تم إقامته رغم كل جهودنا فلا يمكننا التأخر عن مهمة استخدامه. وكان على لينين خوض معارك ضارية ضد أعضاء الحزب الذين رأوا أن على أساس المبادئ الماركسية يجب مقاطعة الدوما بشكل مطلق. وقد طرح لينين أنه في ظروف متغيرة وغير ثورية تكون المقاطعة بلا معنى.



"إن المقاطعة أداة نضالية تستهدف بشكل مباشر الإطاحة بالنظام القديم أو على الأقل عندما لا يكون الهجوم قويًا بالشكل الكافي لهذه الإطاحة إلى إضعافه بحيث لا يكون قادرًا على إقامة هذه المؤسسة أو تفعيلها. وبالتالي فمن أجل أن تكون المقاطعة ناجحة تستلزم بالضرورة نضالاً مباشرًا ضد النظام القديم وانتفاضة وتمرد جماهيري واسع النطاق.



إذا فكان يجب المشاركة في الانتخابات والابتعاد عن فكرة المقاطعة السلبية التي تؤدي إلى العزلة. ولكن في نفس الوقت كان لينين يرى أن المشاركة في البرلمان هي جزء صغير منه نشاط الحزب الثوري وأنه أقل أهمية من النضال ف أماكن العمل والشوارع.



"لن نرفض الدخول في الدوما الثانية عندنا تم إعلانها لن نرفض استخدام هذا المجال ولكننا لن نبالغ في أهميتها المحدودة فعلى العكس على أساس الخبرة التاريخية النضال الذي نخوضه في الدوما أقل أهمية وفي أولوية ثانية بعد الأشكال الأخرى للنضال كالإضرابات والانتفاضات، الخ."



كانت المشاركة تعني بالنسبة للينين استخدام الحزب للحملات الانتخابية لممارسة الدعاية في أوساط الجماهير لم يكن الحزب يصل إليها وبالنسبة لأعضاء الحزب الذين ينتخبون استخدام الدوما كمنبر للدعاية الثورية ولفضح الأحزاب البرجوازية والليبرالية والمساعدة في التنظيم للنضالات خارج الدوما وعلى العكس الوضع في الحزب الألماني حيث كان أعضاء الحزب البرلمانين هم أقوى أعضاء الحزب بينما كان البلاشفة يرون الأعضاء البرلمانيين كخادمين للحركة العمالية ويضعونهم تحت سيطرة وإشراف دقيقتين من قبل قيادة الحزب.



وقد لخص تروتسكي في "أطروحات حول الأحزاب الشيوعية والبرلمان" والتي أعدها للأممية الشيوعية لخص فيها عقود من خبرة الاشتراكيين الثوريين في روسيا والعالم وأوضح الرؤية العامة التي يتبناها الثوريين تجاه مسألة البرلمان والانتخابات:



"الشيوعية ترفض البرلمانية كشكل لمجتمع المستقبل... وهي ترفض إمكانية الاستيلاء على البرلمان بشكل دائم أن هدفها هم تدمير البرلمانية... وبالتالي يمكنا الحديث عن استخدام الأجهزة البرجوازية بهدف تدميرها أن المسألة لا يمكن أن تطرح إلا بهذا المعني وفي هذا السياق"



"إن فهم وسيلة نضالية للبروليتاريا ضد البرجوازية أو ضد سلطة الدولة البرجوازية هو أولاً وقبل كل شيء النضال الجماهيري أن النشاط في البرلمان يتضمن أساسًا التحريض الثوري من خلال المنبر البرلماني وفضح الأعداء والتوحيد الأيديولوجي للجماهير الذين خاصة في المناطق المتأخرة مازالوا يعانون من أوهام ديمقراطية ويلجئون للمنبر البرلماني."



"هذا العمل يجب أن يكون خاضعًا تمامًا لأهداف ومهام الجماهيري خارج البرلمان".