من هي قوى التغيير – 3


ابراهيم علاء الدين
2009 / 9 / 22 - 00:57     

ذكرت في الجزء الاول من هذا البحث ان مجتمعات عصر الاقطاع افرزت ثقافتها وقوانينها وذكرت بعضا منها يتعلق بوضع المرأة في مختلف حضارات عصر الاقطاع وفي مناطق مختلفة من العالم، وذكرت ان الدين، أي دين، باعتباره منظومة قانونية واخلاقية لتنظيم العلاقة بين الانسان والاله، وبين الانسان والانسان لا بد له وان يكون نتاجا للواقع المادي في الزمان والمكان، وكما شهدت البشرية الاف الاديان وكلها اندثرت مع الانتقال الى الاستقرار والزراعة والحاجة الى الدولة المركزية، فان ما تبقى منها قد يندثر يوما مع الارتقاء والتطور في انماط الانتاج وربما تأتي ديانات جديدة تتناسب مع تلك التطورات، لكن في المدى المنظور(تاريخيا) فان الوقائع المادية والتجربة التاريخية تقول ان أي مجتمع يتمكن من تطوير نمط انتاجه ويخرج من النمط الاقطاعي الى النمط الرأسمالي لا بد وان يضع المنظومة الدينية في بيوت العبادة ويستعيض عنها بقوانين وضعية تتناسب والتطور في نمط الانتاج وما يفرضه من علاقات انتاج (أي علاقات اجتماعية).

وكما انتج المجتمع الاقطاعي منظومته القانونية والاخلاقية، وجميعها كانت في سياق تثبيت سلطة الاستبداد الاقطاعية، فان ذاك المجتمع افرز ايضا مفكريه وعلمائه ومخترعيه ومبدعيه في كافة الميادين.
فالمجتمع الاقطاعي اعتمد خطاب اليقين، وعارض بشدة خطاب السؤال، والدين هو الذي جاء باليقين من عند الله فيجب ان تتمحور كافة الجهود وفق ما تمليه التعاليم السماوية سواء جاء بها الانبياء رسل الله او الانبياء الوضعيين الذين ادعو انهم هم الاله (كالهندوسية والزرادشتية والبوذية الخ). وبادعاء الحكام والسلاطين انهم يمثلون سلطة الله على الارض اذن يجب الخضوع للحاكم واي معارضة او خروج عليه فان ذلك يعتبر معارضة وخروج على الله تستوجب قتل المعارضين والخارجين عن سلطة الحاكم.
وهذا ادى الى ان تكون أي جهود في نطاق البحث في الفقه (التشريع) او الثقافة العامة (الادب) او البحث العلمي (الاختراع) يجب ان تخضع للحاكم وان تتم وفق مشيئته ولمصلحة السلطة السياسية، والتي كانت تمثل بنفس الوقت السلطة الاقتصادية مالكة الارض والعبيد. (سلطة الاستبداد).
ولما كانت السلطة الاقطاعية تحتاج على الدوام الى ما يسند قوتها في كل الميادين فان على المفكرين ان يسخروا جهودهم في هذا الاتجاه، ولكن ما هي الميادين التي يحتاج اليها السيد الاقطاعي (السلطة الاستبدادية)..؟؟ وللاجابة على ذلك يمكننا تقسيم الاحتياجات الى ما يلي:
اولا : تثبيت السلطة
ثانيا : السعي نحو اطالة العمر الشخصي والتمتع بصحة سليمة للحاكم وللطبقة الاقطاعية السائدة، ولقوة العمل "العبيد" بنفس الوقت.
ثالثا : التنمية الاقتصادية (وهذه تشمل الانتاج من ناحية " تطوير الزراعة وزيادة انتاج الارض من الخيرات والطعام" وتوفير قوة عمل كافية وقوية.
رابعا : حماية حدود الدولة
خامسا : توسيع نطاق الملكية (بالسيطرة على اراض جديدة).
سادسا : القدرة على التعامل مع المحيط الطبيعي (البيئي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي
ولا يمكن توفير هذه الاحتياجات الا بامتلاك المعرفة، لكن بنفس الوقت لا يمكن التعرف على هذه الاحتياجات الا على اساس من المعرفة كذلك، وهذا يطرح اشكالية جوهرية مفادها هل الواقع المادي يفرض امتلاك المعرفة، او معرفة الواقع المادي تتطلب امتلاك معارف جديدة لتطوير الواقع المادي..؟؟ وفي كلا الحالين مطلوب المعرفة .. !! وسواء كانت المعرفة هي الاساس التي تمكن المجتمع من التعرف على الواقع، او ان الواقع المادي هو الذي ينتج المعرفة ففي كلا الحالين الواقع المادي موجود.

اذن طالما ان الواقع موجود في لحظة زمنية محددة، والمعرفة بهذا الواقع موجودة موجودة في ذات الوقت، فان البعض قد يقول ان كليهما متلازمان في الزمان والمكان، وفي ذلك مجافاة للحقيقة، لانه في الوقت الذي يكون فيه الواقع موجودا، تكون معرفة هذا الواقع نسبية، وهذه "الحقيقة من وجهة نظري" هي التي كانت الدافع الرئيسي وراء تطوير المعرفة ومن ثم الابداع.
وهذا ما عبرت عنه سابقا في هذا البحث بقولي ان الواقع المادي هو الذي يفرز الوعي "المعرفة" وبتعبير اخر الانتاج المادي "البنية التحتية" هي التي تنتج الانتاج الفكري " البنية الفوقية.
ومن المعروف ان نظرية المعرفة " أو الإبستمولوجيا Epistemology" هي علم نقدي "دراسة العلوم النقدية" وهي احد فروع الفلسفة الذي يدرس طبيعة ومنظور المعرفة. وهذه النظرية وبهذا المفهوم صاغها الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فيربر، يعرفها الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند بانها فلسفة العلوم.
ويعد لالاند أبرز ممثل للعقلانية الكانطية في ظل الجمهورية الثالثة، في فرنسا ومن موضوعاته الرئيسة التي عالجها: النوايا أو المقاصد الحرية، الحقيقة، ماهية العقل، في وجهية المكون والمتكون، قانون الطبيعة وتمثله، أخلاق العقل، الاستيعاب والاجتماعيات والجماليات.
وقد شهدت ساحات النقاش جدلا بين العلماء حول تحليل طبيعة المعرفة وارتباطها بالرموز والمصطلحات مثل الحقيقة، والاعتقاد، والتعليل (التبرير). وكذلك وسائل إنتاج المعرفة ، كما اهتم العلماء بالشكوك حول مجالات المعرفة المختلفة . وتركزت معظم الجهود حول الاجابة على سؤال : "ماهي المعرفة؟" "كيف يتم الحصول على المعرفة..؟.
وتنوعت مدارس "نظرية المعرفة" منها التجريبيون الذين نسبوا المعرفة إلى الحواس, والعقليون يؤكدون أن بعض المبادىء مصدرها العقل لا الخبرة الحسية, والواقعيون يقولون ان طبيعة المعرفة, موضوعها مستقل عن الذات العارفة, ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلى في طبيعته لأن الذات لا تدرك إلا الأفكار. وكذلك تختلف المذاهب في مدى المعرفة: فمنها ما يقول أن العقل يدرك المعرفة اليقينية, ومنها ما يجعل المعرفة كلها احتمالية, ومنها ما يجعل معرفة العالم مستحيلة. (الموسوعة الحرة).
وكما يلاحظ ان هناك تباينا في وجهات النظر بين ان تكون المعرفة تعني "الوعي" أي الادراك، وبين انها فلسفة علوم فقط،"أي جزء من الادراك".
ولما كنت اميل الى استخدام تعبير المعرفة بمعنى الوعي "وغالبا ما يكون نسبيا لان الحقيقة المطلقة لا وجود لها ولن يكون لها وجود" فانني سوف احاول قبل الدخول في شرح دور الواقع المادي في عصر الاقطاع في دفع النخبة الى معرفته (معرفة الواقع) ومن ثم معرفة احتياجاتهم، ومن ثم العمل على اكتساب المزيد من المعرفة لتطوير الواقع المادي. (الترابط الجدلي بين الواقع والوعي (المعرفة – الفكر).
لقد اعتبر ماركس (المادية التاريخية) ان الواقع الاقتصادي (العوامل الاقتصادية) هي الاساس في بناء المجتمع، وهو العامل الاساسي في التطور الاجتماعي، اما الواقع الفكري (وعي الافراد والوعي الاجتماعي بكافة اشكاله العلوم الفلسفة الفن الاخلاق الدين وما يرتبط بها من نظريات اجتماعية ومؤسسات سياسية وتشريعية) فهو بنية فوقية وهو انعكاس للواقع الاقتصادي.
وقد استند ماركس في نظريته هذه على ما سبقه من فلاسفة ماديين اكدوا على ان المادة سابقة على الوعي واعتبروا ان الثاني انعكاس للاول، كما اعتبروا ان جميع الوظائف العقلية للوعي ليست سوى انعكاس للوظائف الفسيولوجية للدماغ ، وبناء على ذلك اعتبر ماركس ان التطور الاقتصادي يجب ان يحصل اولا، كي يحصل التطور الاجتماعي. لكنه يؤكد بنفس الوقت على الترابط الجدلي بينهما فيقول في رده على هيغل " ان النظرية تصبح قوة مادية حين تعتنقها الجماهير".
كما يؤكد انجلز على موقف ماركس، في ذات الوقت يشدد على الترابط الجدلي بينهما فيقول في رسالته الى (بلوخ وشميدت في ايلول 1890) " حسب المفهوم الماركسي للتاريخ يشكل الانتاج في نهاية التحليل الفترة المحددة للتاريخ، فلا ماركس ولا انا ذهبنا ابعد من ذلك. فاذا ادعينا ان الفترة الاقتصادية وحدها هي التي تحدد التاريخ، نكون قد حولنا هذا المبدأ الى عبارة فارغة من المعنى، مجردة وعقيمة. ان الوضع الاقتصادي يشكل الاساس، الا ان الاشكال السياسية ونتائج الصراع الطبقي وما تعكسه في ادمغة الذين ساهموا فيها من نظريات فلسفية وسياسية وحقوقية، ومن اراء دينية، تحمل بدورها تاثيرها في حلبة الصراعات التاريخية، فعن طريق هذا التداخل في التاثير بين جميع هذه الاشكال تفرض الحركة الاقتصادية نفسها كشيء ضروري في خطوطها العامة – فالتاثير السياسي للسلطات العامة على التطور الاقتصادي يمكن ان ياخذ اشكالا ثلاثة : اولا : يعجل التطور او يقاومه، ثانيا : يحول دون بعض اتجاهاته، ثالثا: يملي على هذا التطور بعض الاتجاهات الاخرى".
اما لينين فقد اعتبر ان قوانين التطور الموضوعي لن تستطيع ان تحقق شيئا دون ارادة البشر (في سياق تعزيز دور الطليعة – الحزب) مؤكدا على الدور الحاسم للنظرية الثورية في تغيير المجتمع، وقال "ان الحتمية الموضوعية الماركسية تتحقق ليس فقط من خلال تطور القوى الانتاجية وتناقضها مع العلاقات الانتاجية فحسب بل تتطلب ايضا نشر الوعي الثوري وتكوين الحزب والمنظمات الجماهيرية واتقان فن التكتيك والعمل السياسي والنظري". واعتبر الشيوعيون عموما ان نظرية لينين حول العفوية والوعي تطويرا على النظرية الماركسية.
اما ستالين فقال " ان تطور القوى المنتجة والتغيرات في ميدان علاقات الانتاج تجري خلال مرحلة معينة بصورة عفوية مستقلة عن ارادة الناس"، وفي ذلك تاكيد تام لوجهة نظر ماركس وانجلز لكنه اضاف "ولكن ذلك لايدوم الا الى حين، الى ان تصبح القوى المنتجة الجديدة قد تطورت الى درجة كافية من النضج، حينذاك تتحول علاقات الانتاج الموجودة والطبقات التي تمثلها الى حاجز وعائق كبير لا يمكن ازاحته من الطريق الا بالنشاط الواعي للطبقات الجديدة وبعملها العنيف أي بالثورة، ويظهر اذاك بشكل رائع الدور العظيم الذي تلعبه الافكار الاجتماعية الجديدة، والمؤسسات السياسية الجديدة، المدعوة الى الغاء علاقات الانتاج القديمة، ومحوها بالقوة".
واتفق ماوتسي تونغ مع لينين في اهمية الدور المؤثر والاساسي للبنية الفوقية على البنية التحتية، فدعا الى التركيز على النضال الايديولوجي، والى ضرورة القيام بثورة في البناء الفوقي لاكمال الثورة السياسية والاقتصادية، وقادته اطروحاته تلك الى ما سمي ب "الثورة الثقافية".

وقد لخصت المادية التاريخية هذه المسألة الشائكة بدرجة عالية من الوضوح على الشكل التالي:
الواقع الاقتصادي ينعكس في الدماغ من خلال الحواس، ثم يتحول هذا الانعكاس الى وعي باعتبار ان الوعي ما هو الا انعكاس للفعالية الفسيولوجية للدماغ، ليعود هذا الوعي ليقوم بدوره في الواقع الاقتصادي.
اذن يشترط حصول التطور الاقتصادي كشرط مسبق لحصول التغير الاجتماعي ويقول ستالين " يجب ان لا نبحث عن المفتاح الذي يسمح لنا بالكشف عن قوانين تاريخ المجتمع ، في ادمغة الناس ، او في آراء المجتمع وافكاره ، بل يجب ان نبحث عنه في اسلوب الانتاج الذي يمارسه المجتمع خلال كل دور من ادوار التاريخ ، اي في الحياة الاقتصادية للمجتمع".

وبعد ان استعرضت وجهة نظر المادية التاريخية والتي تؤكد على ما قاله ستالين ان المفتاح الذي يسمح لنا بالكشف عن قوانين المجتمع لن نجده في ادمغة الناس (أي بوعيهم) ، بل انه موجود في اسلوب الانتاج أي في الحياة الاقتصادية، فان توضيح الفكرة بجلاء يتطلب عرض سريع للافكار النقيضة الافكار المثالية "الميتافيزيقية" التي ترى بان المفتاح موجود في عقول الناس وافكارهم.
فانصار العقل او العقلانيين "المثاليين" يعتبروا ان الانسان باستعماله عقله الواعي يستطيع ان يخلق القاعدة الاقتصادية بنفسه، وبالتالي فهم يدعون الى اعطاء الاولوية للعمل الفكري وتقديمه على البناء الاقتصادي (دون اهمال الاخير) ويطرحوا مفهوم الثورة الفكرية. ويدعون الى الاعتماد على النفس (النموذج النضالي والكفاح الثوري هو الكفيل بالوصول الى الحل).
ويدعم هؤلاء وجهة نظرهم بتاكيدهم على اعتبار الغرائز الانسانية ومنها غريزة التملك تنبع في الاصل من ذات الانسان، وليس من فعل المؤثرات والعوامل الخارجية المحيطة به.
ويذهب البعض منهم الى الدعوة لقلب المفهوم الماركسي للبنى التحتية والفوقية من خلال اعتبار الوعي "الانتاج الفكري" هو البنية التحتية، فيما الانتاج المادي هو البنية الفوقية"ويدعون الى اعطاء الاولوية للعامل الفكري وتقديمه على العامل الاقتصادي، واعتبار الوعي هو العامل الحاسم في التطور التاريخي.
ويعتقد هؤلاء انه بالامكان تغيير الوعي الاجتماعي (عقائده وافكاره وقيمه واعرافه ودينه وسلوكه وقوانينه ومؤسساته وطرق معيشته الخ) من خلال الكفاح النظري والنقد بمستوياته (برفق او بحدة) ولا يبدي اصحاب هذه المدرسة ادنى اهتمام بنمط الانتاج في المجتمع باعتباره (تحصيل حاصل) ليس الا.. معتبرين ان الفكر او الوعي مسألة مستقلة عن الواقع المادي.

وكم كان موقفنا سيكون مختلفا، وكم كنا سنبدي تعاطفا وتاييدا وربما التزاما بنظرية اصحاب هذه المدرسة لو برهنوا لنا على نجاح نظريتهم في أي مكان او مجتمع في هذا العالم. وكم سيكون مخطئا ذاك الذي قد لا تسعفه علومه وثقافته ووعيه لو اشار الى ان التحول الهائل الذي شهدته اوروبا في الثلاثمائة سنة الماضية تمت بمعزل عن التطور في نمط الانتاج، وان هذه الثورة العلمية والتقنية الهائلة ما هي الا نتيجة طبيعية وحتمية للتحول في نمط الانتاج من الاقطاعي في العصور الوسطى الى الراسمالي في القرن الثامن عشر.
ونود ان نلفت انتباه انصار مدرسة اولوية الفكر على المادى ان التجارب التي قامت على اساس ان الفكر يغبر المجتمع انتهت باقامة نظم ديكتاتورية قمعية فاشية كما حدث في عدد من دولنا العربية (العراق سوريا مصر ليبيا الجزائر، كذا الامر في عدد من الدول الافريقية، ولعل ابرز نموذج على هذا النوع من الانظمة هو نظام كيم ايل سونغ في كوريا الشمالية).
وربما يمكن اضافة تجربة الاتحاد السوفياتي الى هذه التجارب الفاشلة.

للحديث بقية 4
ابراهيم علاء الدين
[email protected]