من أجل انبعاث الروح الأممية ـ نداء صادر عن الأممية الرابعة


الاممية الرابعة
2004 / 5 / 23 - 06:46     

يبين طوفان الحديد والنار الذي انهال على العراق طبيعة "النظام العالمي الجديد" الذي جعل بوش نفسه بطله. فنهاية "الحرب الباردة" بين موسكو وواشنطن تفسح في المجال أمام "حروب حارة" جديدة، لا تقل إثارة للرعب عن تلك التي سبق أن شاهدناها في العقود الأخيرة، من كوريا إلى الجزائر، ومن فيتنام إلى أفغانستان.
فبالرغم من التراجع النسبي لقوة الولايات المتحدة الاقتصاديةـ تسعى لترميم كامل لمقدرتها على الفعل السياسي والعسكري عبر العالم، هذه المقدرة التي حدّت منها زمنا طويلا هزيمتها في فيتنام وانتصار الثورة في نيكاراغوا. إن غزو غرانادا، والعمليات العسكرية ضد ليبيا والتدخل في بناما، ومساندة الثورة المضادة في نيكاراغوا، والدعم المتزايد للدولة الصهيونية بمواجهة الانتفاضة الفلسطينية، والتهديدات المعبَّر عنها ضد كوبا، كل ذلك يعبر عن إرادتها إخضاع شعوب أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والمحيط الهادئ. ولقد أعطتها حرب الخليج العربي-الفارسي الفرصة لتأكيد نفسها من جديد، كدركي العالم.
لا يمكن بخس تقدير خطورة هذا الوضع. فلم يحصل منذ حرب فيتنام، أن جمعت القوى الإمبريالية على مسرح عمليات معيّن هذا القدر من الطاقات العسكرية، ولم يحصل مرة واحدة منذ حرب كوريا أن تمكنت من الدفع بها إلى القتال تحت غطاء الأمم المتحدة. لم تتمكن يوما من التدخل على هذا النطاق بكفالة من الاتحاد السوفياتي والصين. أما الاشتراكية-الديموقراطية، ممثّلة بالعديد من الحكومات الغربية فتشارك مباشرة في هذه العملية التي لا سابق لها، من وجوه عدة، من حيث الحجم.

قدرة على الـتعبئـة ضد التدخـلات الإمبريـاليــة

إن كل الذين يواصلون المعركة الأممية يجب أن يضطلعوا اليوم بمسؤوليات متزايدة. يجب أن يبادروا إلى المهمة الأكثر إلحاحا المتمثلة في وقف المعارك وسحب القوات الإمبريالية من منطقة الخليج. لكن عليهم أيضا أن يتهيأوا لقيام هذه القوات بشن عدوانات جديدة من نقاط أخرى من الكرة الأرضية، وذلك بمواجهة هذا التهديد عبر حشد إمكانيات كبرى دائمة للتعبئة ضد هكذا تدخلات.
لقد جرى زرع العديد من القواعد العسكرية الغربية من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، مرورا بأفريقيا. وفي الحواضر الإمبريالية، تشكلت قوات تدخل سريع قادر على الانتقال إلى أي مكان في العالم الثالث. هذه العدّة العالمية هي ما يجب تفكيكه إذا أردنا تفادي تكرار لا ينتهي للتدخلات الدموية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية.
إن الأزمة الاقتصادية العالمية تزيد من حدة التوترات، وتجعل من المرجّح جدا حصول مغامرات عسكرية جديدة في البلدان الواقعة تحت السيطرة. وتتفاقم الهجمات على الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتفرض الحكومات الغربية التقشف على الشغيلة، فيما تتضاعف انتفاضات الجوع في العالم الثالث. ويبقى القمع البيروقراطي مهدِّدا، كما الحال في الاتحاد السوفياتي والصين. والحال أنه تلزم فترة من الزمن قبل أن يجري تجاوز فقدان الاستشراق الذي تسببت به التجربة الستالينية، وجرائمها وإخفاقها. ضمن شروط، ثمة خطر كبير برؤية الحركات العمالية والشعبية وقد أصيبت بالإحباط، ووُضعت في موقع الدفاع، والمعارك الثورية وقد جرى عزلها، كما ثمة خطر في رؤية نضالات اجتماعية وسياسية جرى حرفها عن طريقها، تنحط لتأخذ شكل مواجهات إثنية وطائفية ودينية لا مخرج منها.

واجـب الـتـضــامـن

لأجل المجابهة، من الملِحِّ القيام بأعمال تضامن جديدة.
إن التضامن الأممي هو واجب حيال كل المستغَلين والمستغَلات، وحيال كل الذين (وكل اللواتي) يناضلون. وهو ضروري لمعركتهم، يجب أن يكون في وسعهم الاعتماد عليه ـ بعد النصر مثلما قبله، لأن الضغط الذي تمارسه الإمبريالية لا يتراخى، كما بينت ذلك، مرة أخرى أيضا، السياسة التي اعتمدتها واشنطن ضد فيتنام ونيكاراغوا الثوريتين.
ليس هناك ما هو أكثر مأساوية من رؤية شعب من العالم الثالث يهب بشجاعة من أجل تحرره القومي والاجتماعي، لكنه يبقى وحيدا حيال التدخل الإمبريالي، من رؤية ثورة فتية ظافرة وقد أنهكها الحصار الديبلوماسي والاقتصادي للدول العظمى الغربية، وباتت منزوفة، لأن مساعدة الحركة العمالية العالمية إذا وصلت إليها فبالقطارة. كما رؤية إضرابات عمالية كبرى وقد جرى خنقها لأنه أمكن البورجوازية أن تجد في الخارج ما رفض أن يعطيها إياه شغيلة بلدها، ولأن الحركة النقابية تبدو عاجزة عن توحيد عملها الأممي.
إن واجب التضامن لا يعرف حدودا. والهزات الجارية منذ نهاية عام 1989 في أوروبا الشرقية تبين إلى أي حد ينبغي إعادة الطابع الديموقراطي للمشروع الاشتراكي، بالكامل، من أجل أن تدب الحياة فيه من جديد. لا يمكن أن يحصل ذلك من دون تأكيد دعم مستمر لمعركة الشغيلة في تلك البلدان، أو في الاتحاد السوفياتي أو في الصين، من أجل حقوقهم السياسية والاجتماعية. لقد عززت أزمة الستالينية، على المدى المباشر، موقع البلدان الإمبريالية، كما بين ذلك التوحيد الرأسمالي لألمانيا. لكن يجب أن تتيح لنا الأزمة التخلص من مماهاة الاشتراكية مع أنظمة بيروقراطية، وهكذا إعطاء المعركة الأممية بكاملها نفسا جديدا.

ضد الأفـكـار المسـبـقـة الأكـثـر تـخـلـفـا

ليس التضامن الأممي، بالنسبة لكل أولئك الذين يعملون من أجل تحويل جذري لمجتمعاتنا، ليس مطلبا عماليا وحسب. إنه يبقى قيمة سياسية ـ نقيض كره الأجانب، والعنصرية والشوفينية، والحقد على الآخر، مكوِّنا أساسيا لكل ثقافة أنَسيّة والاشتراكية. إنه يعبر عن التزام أخلاقي مثلما هو سياسي.
يبدأ التضامن الأممي هكذا في بلده بالذات، في الكفاح ضد الأفكار المسبقة الأكثر تخلفا: عبر الدفاع الحازم عن الشغيلة المهاجرين، كما عن المجموعات المضطهدة، وعن حقوقها السياسية وثقافاتها ولغاتها. عبر النضال من أجل حق الأمم الفعلي في تقرير مصيرها بنفسها.

وزن الـحـقـائـق العـالمـيـة

إن التضامن الأممي يستجيب أخيرا، لوزن الحقائق العالمية.
فما وراء البلدان والقارات، يتسم العالم الحالي بتبعية متبادلة متزايدة على صعيد الاقتصاد، والتوازنات البيئية، والعلاقات العسكرية، والتهديد النووي. إن للتبدلات الفظة التي تحدث بصورة متواصلة داخل السوق العالمية تأثيرات اجتماعية أكثر فأكثر تدميرا. وتنزل أشكال جديدة من التبعية، التكنولوجية والمالية، بثقلها على العالم الثالث. وتتضاعف الكوارث "الطبيعية" ذات المصدر البشري، وتُحدِث نتائج أشد فأشد خطورة. وتنطرح المشكلات الكبرى لزمننا ـ من السيطرة الإمبريالية إلى الفقر فخطر الحرب ـ تنطرح دفعة واحدة على الصعيد العالمي.
هذا ولم تترك البورجوازية في البلدان الإمبريالية نفسها تنخدع. فهي تضاعف الاستشارات والمؤسسات التي تتيح لها التصرف بصورة مشتركة من أجل إخماد النضالات الثورية والحفاظ على سيطرتها على البلدان التابعة. وتنصرف قمة البلدان السبعة الأغنى كحكومة مديرين عالميين حقيقية. ويستخدم صندوق النقد الدولي ابتزاز الدَّين لإملاء تدابير اقتصادية على حكومات العالم الثالث تحكم بالقحط والمجاعة على شعوب بأسرها. وتهدد الشركات متعددة الجنسية الشغيلة المنخرطين في النضال بنقل توظيفاتها إلى بلدان أخرى، من أجل ضرب نضاليتهم بشكل أفضل. أما الدول الكبرى الأوروبية فتعزز قدرات أوروبا رأس المال بمواجهة نضالات الطبقة العاملة وحاجاتها الاجتماعية. وهي تتفق جميعا على تدفيع هذه الطبقة أعباء الأزمة الاقتصادية، كما تتفق أيضا لإعادة النظر بمكاسب النضالات السابقة، سواء الضمان الاجتماعي، أو الحفاظ على مستوى القدرة الشرائية، أو حماية الاستخدام، أو الحقوق النقابية.
إن البورجوازية الأوروبية تتحدث عن ضمان الانتقال الحر للسلع والأشخاص داخل "السوق الواحدة". لكنها تقوّي في الوقت نفسه تدابير الرقابة وتضيّق بطريقة استبدادية من حق غير الأوروبيين في الدخول إلى أراضي الجماعة الأوروبية. هكذا سوف تكون مطاردة المهاجرين أشرس مما في أي وقت مضى. ويتعرض الوضع القانوني للاجئ السياسي لاعتداءات خطيرة، بالرغم من الإعلانات الإنسانية لزعماء الدول. أما بخصوص تعاون الشُّرَط الغربية في الصراع ضد "الإرهاب"، فقد بات أوثق مما في أي وقت مضى. إن العالم الذي تهيؤه لنا البورجوازية الإمبريالي سيكون أقل حرية من العالم الراهن.
إننا نواجه في الواقع وضعا غريبا فقبل أكثر من قرن، كانت الحركة العمالية والاشتراكية حاملة "الفكرة الجديدة"، فكرة التضامن الأممي. أما اليوم فهي تبدو عاجزة ولو عن التنسيق الفعال للنضالات الاجتماعية من أجل الحقوق الأولية للشغيلة، في حين نرى البورجوازية، بالرغم من حدة التناقضات التي تضع مكوناتها القومية المتنوعة بعضا في مواجهة البعض الآخر، تنتظم أكثر فأكثر على الصعيد العالمي.

سـيــاسـة بـديـلـة

بعد مرحلة أولية من النمو، تضرب الأزمة بصورة قاسية تلك البلدان التي جرت مركزة اقتصادها بصورة بيروقراطية، من الصين وصولا إلى الاتحاد السوفياتي. ولقد فقد المنظور الاشتراكي، بالنسبة للكثيرين، صدقيته. إن الأمل بمجتمع أكثر عدالة وإنسانية هو الذي يوضع هكذا موضع الاتهام وإعادة النظر. ويستفيد من ذلك إيديولوجيو الوضع القائم من أجل الإشادة بفضائل السوق الرأسمالية، في الوقت الذي يعاد فيه النظر في البلدان الإمبريالية بالحق في العمل وفي الصحة للجميع، ويجد عدد متزايد من مجتمعات العالم الثالث نفسه مهددا بتفكك حقيقي، في الوقت الذي نجد فيه أيضا منطق الإنتاج من أجل الربح يشكل سببا أساسيا في أصل الأزمة البيئية الإجمالية العميقة التي تهدد كوكبنا.
من أجل إعادة الصدقية إلى الاشتراكية، يجب تحطيم التفرع الثنائي الزائف الذي لا يجد غير احتمالين وحيدين هما اقتصاد السوق الرأسمالي والتخطيط البيروقراطي. يجب إبراز شكل آخر للتطور يضمن بالفعل للشغيلة التحكم بالأولويات الاجتماعية-الاقتصادية ويكون محركه تلبية الحاجات الإنسانية. هذا الطريق الثالث، الاشتراكي والديموقراطي حقا، يستتبع تعديلا عميقا في العلاقات بين الأمم، وليس سياسات النمو القومية وحسب.
لا غنى عن التضامن الأممي من أجل أن توضع في التطبيق هكذا سياسة تطور بديل. واليوم، يمكن التقدم على هذا الطريق، وذلك بأن نضع، في أوروبا بمواجهة خيار رأس المال السوق الواحدة لعام 1992، خيار الشغيلة، عن طريق الانخراط في معركة إجمالية من أجل الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية لشعوب القارة، في الشرق كما في الغرب. وعبر حفز النضال ضد الديون، وهو النير الذي ينزل الآن بثقله على بلدان شرق أوروبا كما على البلدان التابعة، وهو عنصر أساسي في الأزمة الاقتصادية العالمية. وعبر تعميق المعركة من أجل حقوق الشغيلة والشباب، ومن أجل تحرير النساء، والمساواة بين الأمم، والدفاع عن البيئة، وضد الطاقة النووية وخطر الحرب. وأخيرا لا آخرا، عن طريق تحديد سياسة أخرى لمساعدة العالم الثالث، في البلدان الإمبريالية.
إن السياسة الغربية المتمثلة ب"مساعدة" البلدان التي في طريق التطور، كما يسمونها، تتحدد تبعا لمصلحة الشركات متعددة الجنسية. وهي ترمي أيضا إلى توطيد التحالف بين الحواضر الإمبريالية والبورجوازية الكولونيالية الجديدة، التي تتغذى من الفساد واختلاس الأموال العامة. إنها تؤبد هكذا حالات التبعية-التبعية الدولية من جانب البلدان الخاضعة داخل السوق العالمية وتبعية الشعوب للأنظمة السائدة. إن عواقب هذا الوضع ربما هي الأخطر حاليا في أفريقيا، لا سيما أن بلقنة القارة تولد دويلات عاجزة عن تأمين بقائها الذاتي على المستوى الاقتصادي. وعلى الاشتراكيين الثوريين الأفارقة أن ينسقوا قواهم ليضعوا بمواجهة هذا التطور الفدرالية الحرة لشعوب أفريقيا من أجل إعادة الاتصال بوحدة أفريقية مناضلة ومعادية للإمبريالية.
إننا نشهد في أمريكا اللاتينية هجوما للإمبريالية الأمريكية تحت غطاء خطة بوش التي تزعم إقامة منطقة "تجارة حرة" من الألاسكا شمالا وصولا إلى ارض النار في الجنوب. ويرمي هذا المشروع إلى توطيد هيمنة الولايات المتحدة. وستكون عواقبه كارثية بالنسبة لكل الطبقة العاملة في هذا الجزء من العالم، بما فيه داخل الولايات المتحدة وكندا. يجب خوض معركة إجمالية على صعيد القارة للحيلولة دون وضع هذه الخطة موضع التطبيق، وللدفاع عن المكاسب الاجتماعية وتعزيزها.
سيكون عام 1992 عام الذكرى الخمسمئة لبداية غزو أمريكا اللاتينية. وبمواجهة من يريدون إعادة اعتبار للمشروع الكولونيالي في هذه المناسبة، من المهم التعبير، في حواضر الإمبراطوريات العالمية القديمة، بوجه خاص، عن راهنية تضامننا المناهض للإمبريالية. ويهم أيضا إلقاء أضواء أوسع على المعركة التي تخوضها الجماعات الهندية في القارة ضد تدمير بيئتها الطبيعية، وضد القمع وفرط الاستغلال، الذي تتعرض له، كما ضد تفكيك هذه الجماعات وثقافتها ـ لا بل ضد الإبادة المباشرة.

مـسـؤولـيـة الثـورييـن

ليست المعركة الأممية معركة سهلة، إنها تصطدم بعوائق مهمة. مزامنة هذه النضالات وتلاقيها أمران لا يفرضان نفسهما بالطبع، فالوضع يختلف كثيرا من بلد إلى بلد. فلكل حركة شعبية، واجتماعية ثورية تاريخها الخاص، وإطار تطورها القومي الخاص.
إن الحركة العمالية، بوجه خاص، لا تمتلك حاليا أي شكل تنظيمي قادر على منافسة تنظيم الشركات الكبرى متعددة الجنسية. فالبورجوازية تعرف أن تلعب بشكل متقن تماما على الانقسامات داخل صفوف البروليتاريا، وتسعى بشكل منهجي لتحطيم طاقة هؤلاء على التضامن الأممي. وهي تستغل الخوف من البطالة، والتنافس بين الأجراء. وهذا واقع عظيم الخطر اليوم، في حين تضرب الأزمة بصورة حادة سكان العالم الثالث وشعوبه بشكل إجمالي، وتنزل بثقلها الشديد على الطبقة العاملة في البلدان الغربية وتساهم في إنعاش النزاعات الإثنية أو الدينية، والنزاعات العنصرية الأكثر لا عقلانية.
والمعركة الأممية صعبة بوجه خاص، لأنها يجب أن تخاض ضد التيار. فمنذ زمن بعيد، يشهد التضامن الأممي الثوري حالة اندحار. لقد دفنته الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية التي تقوقعت إلى حدود الدول القومية ودعمت الحروب الاستعمارية أو العالمية التي انخرطت فيها بورجوازيات بلدانها. كما قضى عليه تبقرط الأممية الثالثة وخضوعها للستالينية، وتبعية الأحزاب الشيوعية عبر العالم لدبلوماسية موسكو، وقسمت الحركة الشيوعية العالمية، ناهيكم عن الانعزال المأساوي الذي وجدت نضالات تحرر قومي نفسها فيه. هذه "العزلة المأساوية" للفيتناميين إزاء القصف الأمريكي، التي كان إرنستو "تشي" غيفارا يشهِّر بها بالأمس في ندائه المؤثر في منظمة القارات الثلاث، وهذه "العزلة المأساوية" التي نجد فيها اليوم الفلسطينيين وشعوبا أخرى مناضلة.
هذا وينبغي الاعتراف بأن المنظمات العمالية والتقدمية لا تولي الاهتمام ذاته الذي توليه الحكومات البورجوازية لتنسيق معاركها. فرغم التحضير للسوق الواحدة وقرب الاستحقاقات، لم تستطع الحركة النقابية الأوروبية، إلى الآن، أن تشن داخل مجلس الدول الأوروبية حملة إجمالية بهدف الدفاع عن مصالح الشغيلة، ذكورا وإناثا.

تــراث حــي

إلا أن التضامن الأممي ليس وهما، بل هو إمكانية فعلية. لقد تجلى بقوة خلال معارك كبرى في هذا القرن. فغداة الحرب العالمية الأولى، تلت إندفاعة أممية هائلة انتصار الثورة الروسية وتكوين الأممية الثالثة. وقد مثلت الحرب الإسبانية (1936-1939) مأساة حقيقية. إن انتصار الفرانكاوية والاتجاه نحو الحرب العالمية لقيا التشجيع بسبب عزلة المعسكر الجمهوري العالمي. لكن ملحمة الألوية الأممية، التي كانت تضم مناضلين من التيارات التقدمية والثورية، والتي انخرطت في الحرب الأهلية إلى جانب شعوب شبه الجزيرة الإيبيرية، بغض النظر عن توجهات أعضائها السياسية، تبقى مثلا حقيقيا للمجتمع.
مذاك، وبالرغم من البطء والإخفاقات، والتخليات، قدّم التضامن المعادي للإمبريالية، مرارا، دعما فعالا لنضالات التحرر الوطني، كما في حالة شبكات المساعدة للثورة الجزائرية، والتعبئة العالمية ضد حرب فيتنام، وحديثا للحركة المناهضة للتمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية، أو لدعم الثورات في أمريكا الوسطى. كما أن التضامن العمالي تجلى مرارا، وإن بصورة غير كافية، للأسف، إذا أخذنا بالحسبان الرهانات والحاجات، كما في حالة الدفاع عن الحركة البولندية عام 1980، أو خلال إضراب المناجم في بريطانيا (1984-1985). كما تشهد قوة الحركة المضادة للصواريخ والمناهضة للحرب، في النصف الأول من الثمانينات، على طاقات التضامن الأممي التي يُمكن الاعتماد عليها.
لقد رمز عام 1968، عام هجوم التيت في فيتنام، والنضالات الطلابية في المكسيك والأرجنتين، والإضراب العام في فرنسا والنضالات العمالية الكبرى في إيطاليا، و"ربيع براغ" في تشيكوسلوفاكيا، رمز إلى الروح الأممية لتجذر الشبيبة في الستينات. إن هذا الاستعداد الأممي لدى الشبيبة يمثل طاقة ثمينة، وهو يتجلى اليوم أيضا في الحركة المناهضة للتمييز العنصري وفي التضامن مع العالم الثالث، كما تشهد على ذلك فِرق العمل في نيكاراغوا، والحملات ضد الديون التي جرى شنها في العديد من البلدان.
هذا التراث الحي، وهذه الطاقة الأمميتان يعبران عن نفسيهما اليوم في تطور الحركات الاجتماعية الجديدة كما في اللقاءات العالمية للحركات النسائية، وفي البعد الأممي المباشر لأعمال التعبئة ضد المفاعلات النووية، ومع السلم وحماية البيئة، وفي تنسيق النضال ضد الديون في أمريكا اللاتينية، وفي المبادرات الإقليمية للحركات التقدمية في آسيا والمحيط الهادئ. وهما يتجسدان ايضا، في العديد من مناطق العالم، بشعور جديد بالتضامن بين جماعات وشعوب محلية خاضعة للاضطهاد والإبادة الثقافية، وفي دعم النضالات الأخيرة المعادية للاستعمار، كما تشهد على ذلك حالة الكانكي (كاليدونيا) الواقعين تحت السيطرة الفرنسية.
بالرغم من الصعوبات، تشكل المعركة من أجل انبعاث التضامن الأممي معركة ضرورية وواقعية في آن. وهي تمد جذورا في تراث عمالي قديم وحي، وتغتني بتجارب جديدة. إنها تستفيد من الطاقات المهمة لدى الشبيبة والحركات النسائية والنضالات المعاصرة. وعلينا مسؤولية المضي بها إلى النصر.

فلـنَـتـنـظّـم

لأجل هذه الغاية، يجب أن نتنظّم. فمن دون عمل متفق غليه، يولد التضامن الاممي ميتا. ومن أجل العمل معا ينبغي حشد أكبر عدد من الناس.
وفي النقابات، يجب ألا تكون العلاقات الدولية وقفا على القيادات الفدرالية والكونفدرالية. ينبغي تنظيم لقاءات بين المندوبين المباشرين للشغيلة في شركة متعددة الجنسية واحدة، أو في فرع واحد. يجب أن يصبح التضامن ما بين النقابات هو القاعدة، وأن يتجاوز الحدود.
كما يجب القيام بالشيء نفسه في الحركات الاجتماعية، عن طريق مضاعفة اللقاءات بين المنظمات غير الحكومية والشعبية، والجمعيات الفلاحية والمشتركة، والحركات النسائية، والطلابية والشبيبية.
يجب نسج شبكة كثيفة من العلاقات الأممية على كل المستويات، من المجموعات القاعدية إلى البنى القومية، ومن الجمعيات إلى الأحزاب، من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق.

التضـامـن الأمـمـي والأمـمـيـة

ما يصح بالنسبة للنقابات والجمعيات، يصح بالنسبة للأحزاب السياسية. فهي أيضا بحاجة لمنظمة أممية من أجل تغذية وعي وممارسة أمميين حقا.
لقد انخرطت الأممية الرابعة، منذ زمن طويل، في تشكيل هكذا أممية. وليس ذلك انطلاقا من هم التماثل. فلكل منظمة قومية توجهها السياسي، وعلاقاتها الوحدوية، ومسؤوليتها وقدرة القرار لديها. وكل واحدة تسعى لأن تتغذى من التاريخ ومن تقاليد النضال الخاصة بشعبها.
إذا كانت منظماتنا انضمت إلى الأممية الرابعة، فذلك لِهَمٍّ يتعلق بالتضامن الأممي، ولأنها تلاحق الأهداف ذاتها، وتكافح جميعا من أجل ديموقراطية اشتراكية. من أجل ألا تضيع الدروس الأساسية لتاريخ الحركة العمالية، بل تنتقل إلى أجيال جديدة، في بلدان جديدة. لكي تلتقي، على قدم مساواة حقيقية، منظمات مناضلة من كل القارات ولكي يعرف الجميع التجارب الجديدة للنضالات المعاصرة. من أجل التَّرَبِّي بروح أممية، ولكي يتحول إلى واقعٍ هذا العنصر الجوهري بالنسبة لكل منظور ثوري إجمالي. من أجل الدفاع بشكل أفضل عن منظمات تتعرض للقمع، والمساعدة بشكل أفضل في تطوير القوى الثورية حيث لا تزال غير موجودة أو في وضع جنيني. ولتحديد الوجهة السياسية، أيضا، لشدة ما هو صحيح ان ثمة حاجة لمعرفة نضالية للواقع العالمي من أجل فهم الانقلابات الجارية.
وذلك أيضا لأجل إعداد المستقبل، عن طريق وضع مدماك أول في عملية بناء أممية تصبح المنظمات الأعضاء فيها أحزابا ثورية تتمتع بانغراس جماهيري حقيقي. إننا نعرف أننا لسنا هذه المنظمة. ففروعنا من الضعف بحيث لا تدعي ذلك. لكننا نأمل أن نتمكن، بفضل تقاليدنا السياسية وبنيتنا الأممية، من لعب دور فعال في التحضير لأممية الغد هذه.
إن هذه هي الأصعب على الأرجح، من بين المهام الأممية جميعا. ما من تيار ثوري من القوة اليوم، على الصعيد العالمي، بحيث يحققها لوحده. إلا أننا نعتقد أن هذه المهمة هي الأهم أيضا. وهذا هو السبب في أننا نتمنى أن نكسب لهكذا منظور منظمات ثورية أخرى وتيارات سياسية أخرى. من أجل العمل معا على بناء أممية ثورية تمد جذورها في النضالات الجماهيرية في كل القارات.

مـتـضـامـنـون فـي الـوحــدة

إن أول عمل من أعمال التضامن الأممي، هو التضامن النشط. ولا حاجة للانتظار إطلاقا، في هذا الميدان، للعمل معا. بهذه الروح توجه الأممية الرابعة إلى كل المنظمات الثورية والتقدمية، والى كل المنظمات الثورية والتقدمية، والى كل المناضلات والمناضلين نداء للعمل المشترك.

الروح الأممية القائمة على التضامن وحدوية بطبيعتها

إن السعي وراء الفعالية هو وحده ما ينبغي أن يشكل الدليل بالنسبة إلينا. والفعالية تتطلب الوحدة: يجب تجميع قوانا للدفاع عن كل اللواتي يناضلن، وكل الذين يناضلون، كل اللواتي وكل الذين يتألمون، كل اللواتي وكل الذين يتعرضون للقمع.
يجب أن يتيح التضامن لكل أحد أن يتجاوز عبر العمل كل العصبيات الإيديولوجية والتنظيمية. وبغض النظر عن التباينات السياسية، ينبغي أن يجمع التضامن في حملات مشتركة كل المنظمات والحركات، كل اللواتي وكل الذين على استعداد للانخراط فيه.
بمواجهة القمع، ودفاعا عن النضالات البشرية وحقوق الإنسان، لا يجب أن يشق التضامن أي عامل تقسيمي. وإذا كان التضامن وحدويا بأشكاله فهو يجب أن يكون وحدويا بأهدافه، بتقديمه الدعم لكل اللواتي وكل الذين يكافحون، من دون مفاقمة الانقسامات التي تعبر عن نفسها أحيانا بين الروافد المتنوعة لنضال شعبي.

يجب أن يعرف التضـامن كيف يدوم

يجب أن يتناسب مع النضالات طويلة الأمد للمستغَلات والمستغَلين تضامن طويل الأمد. ويجب أن تضمن الوحدة دينامية الالتزام الأممي وديمومته.

يجب تحرير التضـامن من الإكراهـات الدولانية

إن وزن الدول كبير، في العالم الحالي. والمنظمات الثورية كما الحركات الشعبية قد تجد نفسها مندفعة للسعي وراء دعم حكومة أجنبية، أو وراء حيادها. يجب أن تساعد حركة التضامن في هذا الميدان كما في الميادين الأخرى. لكن مع ذلك، ينبغي ألا يكون التضامن تابعا للتقلبات الديبلوماسية لعاصمة من عواصم ما يسمى "المعسكر الاشتراكي"، أكانت موسكو أو بيكين، أو تلك الخاصة بالاشتراكية-الديموقراطية الأوروبية. يجب أن يكون مستقلا بالفعل عن الدول، وأن يثبت أنه يعبِّر حقا عن قيمة أممية وأنه ليس في خدمة المصالح الخاصة لحكومة أو حزب، على وجه الحصر.
يجب دعم النضالات الشعبية دون شروط مسبقة، أكانت نضالات من أجل التحرر في السالفادور، أو الفليبين، أو الباسك، أو أريتيريا، أو فلسطين. أكانت النضالات العمالية ضد أوروبا رأس المال، أو نضالات السود في أفريقيا الجنوبية ضد سياسة الميز العنصري. وسواء كانت نضالات الشغيلة في بولندا، أو في روسيا، أو الصين من أجل حقوقهم السياسية والاجتماعية.
إلا أن التضامن يجب ألاّ يخفي الحقائق، فلأجل النضال اليوم، بروح أممية، ضد السياسة الإمبريالية الحربية في الشرق الأوسط، يجب أن يكون جرى سابقا فضح الديكتاتورية العراقية التي أقدمت على تصفية المعارضين، وعلى تدبير المجازر للأكراد، والاستمرار في فضحها. يجب ألا تتم تغطية الجرائم التي ارتكبها صدام حسين.

يجب أن يتعلم بعضنـا من البعض الآخر

إن الأممية فرصة لا تعوّض لتعلم البعض من البعض الآخر.
إن كل منظمة بحاجة لاستخلاص الدروس من تاريخ الحركة العمالية، ومن نضالات التحرر القومي، ونجاحات المعارك الشعبية وإخفاقاتها، ومن الثورات والثورات المضادة. لا غنى عن النقاش السياسي وتبادل التجارب بين شتى الحركات والأحزاب القومية.
نحن مقتنعون بأن برنامجنا وتحليلاتنا تستحق أن تعرف. إنها تعبر عن واقع نضالي عالمي معاش، وعن استمرارية تاريخية ثمينة. لكننا نعرف أيضا أننا ندين بالفضل لتجارب تيارات أخرى، وأننا تعلمنا من حركات أخرى... وهذا صحيح، في الوقت الراهن، على سبيل المثال، بالنسبة للتفكير النسوي، ولذلك المتعلق بحماية البيئة.
يجب أن يتيح التعاون الأممي، من أجل اغتناء الجميع، تواجه التحليلات والتوجهات، والاستراتيجيات والبرامج... إن هذه الحاجة الملحة هي التي عبرت عن نفسها خلال الاجتماع الكبير لمنظمات اليسار في أمريكا اللاتينية، الذي انعقد في يوليوز 1990، في ساو باولو بالبرازيل.
إن الروح الأممية تتطلب احترام الوحدة السياسية والتنظيمية لكل حزب تقدمي. والمطلوب علاقة معاملة بالمثل وتعاون متبادل. فغالبا ما تكون الخلافات السياسية مهمة بين شتى المنظمات السياسية، ولا ينبغي تجاهلها، لكن يجب نقاشها لأجل تجاوزها. يجب أن يساعد العمل المشترك على تجاوزها. فبغض النظر عن الفروق والخلافات، نحن ننتمي إلى المعسكر ذاته، معسكر المستغَلين والمضطهَدين.

مـدرسـة ديمـوقـراطـيـة

بعملنا معا من ضمن التضامن، سوف نبين أننا نعرف كيف نحترم التعددية في الحركة التقدمية والثورية، ونتجاوز الممارسات التكتلية التي أساءت إليها أيما إساءة. ففي الوحدة، سنتمكن بشكل أفضل من احترام الديموقراطية واستقلال المنظمات العمالية والشعبية.
سوف نساهم هكذا في إعطاء صدقية جديدة للمشروع الاشتراكي، عبر المثل.
إن الأممية الحقيقية مدرسة حية للديموقراطية الاشتراكية.
فلنحشد قوانا ولنناضل معا لبعث تضامن حقيقي !


نقلا عن العدد 174-175 من "ما العمل؟" لسان حال التجمع الشيوعي الثوري بلبنان. أبريل 1991.