من هي القوى التي تغير المجتمعات.. وتبني الحضارات ...؟؟ (1)


ابراهيم علاء الدين
2009 / 9 / 12 - 23:27     

في متابعتي لسلسة المقالات الهادفة الى المساهمة المتواضعة في جهود العديد من المفكرين والكتاب والباحثين والمناضلين السياسيين في وضع قواعد فكرية يتم على ضوئها وضع برامج عملية، تمكن بلادنا وشعوبها من الانتقال من حالة الركود والتخلف في مختلف الميادين الى الحضارة والتقدم والازدهار، يأتي مقال اليوم ضمن فصل شامل ذو عناوين متعددة، في اطار محاولة الاجابة على السؤال الذي تضمنه عنوان المقال. " من هي القوى التي تغير المجتمعات.. وتبني الحضارات ...؟؟
ولكن قبل ان نصل الى تحديد قوى التغيير علينا ان نمهد لذلك بعرض عوامل التغيير والتطوير
ولأن المحور النظري الذي استمد منه وجهة نظري هو المحور المادي (الواقع هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي وليس العكس) فانه لا يخامرني شك بأن دعاة اولوية "العقل" الوعي على "المادة" الواقع المادي، في صناعة الحضارة سوف يواصلون استنكار ما يخالف قناعاتهم (طبعا لهم كامل الحرية في ذلك).
لكن لا بد في بداية هذه السلسلة من البرهنة من جديد على صحة منطلقنا النظري لأن كافة البرامج العملية التي سوف اقترحها في المقالات القادمة تقوم على قاعدة الدعوة لتغيير الواقع الموضوعي في البنى التحتية والواقع الاقتصادي في بلادنا، وان هذا التغيير سيؤدي حتما الى تغيير انساق البنية الفوقية، باعتبار ان الواقع المادي هو الذي يحدد مستويات وعي الانسان في كل مرحلة من مراحل تطوره.
ومنبع اهتمامي بهذا الجانب الذي يغلب عليه الطابع النظري والابتعاد عن التعاطي مع القضايا السياسية والاقتصادية الكبرى التي تزخر بها بلادنا يرجع الى ما تعيشه بلادنا من حراك ثقافي ولكنه كما قال الاستاذ تيسير الفارس "ولكنه حراك خجل اي لم يرقى الى مستوى التأثير الذي يخلق نتائج تكون لها أثر ما في تغيير الواقع" . (الحوار المتمدن).

هذا الحراك الثقافي الذي يستلب الكثير من المثقفين والكتاب في مناقشة قضايا نظرية معظمها لا يتجاوز العصور الوسطى، حيث ينهمك كثيرون في مناقشة جذر الاصولية الدينية الاسلامية بمعزل عن شؤون وقضايا الواقع وتناقضاته .. وكانهم انساقوا دون ارادتهم لما يقرره دعاة الاسلام السياسي والاصولية المتطرفة .. ليساهموا دون ارادتهم ايضا بتعزيز قواعد التطرف وحركات الاسلام السياسي التي تستخدم فزاعة "اعداء الاسلام" لترسيخ مواقعها ومكانتها في اوساط المجتمع.
وبالتالي فان هؤلاء المثقفين ومهما كانت دوافعهم نبيلة فانهم وضعوا انفسهم "ذراعا" في ماكينة الاعلام الاصولي ، يدفع هؤلاء المثقفين اعتقادهم بان المهمة الرئيسية المباشرة المطلوب حشد كافة الجهود لتأديتها هي تنوير العقل أي نشر الوعي باعتباره كفيلا بلجم الاتجاهات الاصولية ويضع مقدمات بناء الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية او الليبرالية.
ورغم ان كافة تفاصيل مجريات التاريخ وحتى يومنا هذا تؤكد بالتجرية والوقائع الحقيقية ان الوعي هو نتيجة وليس سببا ، وان تطور الافكار والعلوم والاداب الانسانية عموما ما كان لها ان تكون الا كنتيجة للتطورات المادية في الحياة الاجتماعية.
يقول ماركس " إن الفلاسفة لا يخرجون من الأرض كالفطر، بل إنهم ثمرة عصرهم وبيئتهم إذ في الأفكار الفلسفية تتجلى أدق طاقات الشعوب و أثمنها وأخفاها.
كما إن الفكر الذي يضع الخطوط الحديدية بأيدي العمال هو نفس الفكر الذي يخلق المذاهب الفلسفية في أدمغة الفلاسفة.
فالفلسفة كما يقول ماركس ليست خارجة عن الواقع... وبما أن كل فلسفة حقيقية هي زبدة زمانها فلا بد أن يحين الوقت الذي يكون فيه للفلسفة عقد مع واقع عصرها و علاقات متبادلة بينها وبين هذا الواقع لا من الداخل فقط من حيث محتواها بل وأيضا من الخارج من ناحية مظاهرها ، وعندها لن تعود الفلسفة تضاربا بين المذاهب بل مجابهة للواقع أي فلسفة العالم الحاضر...

وإذا لم يهضم الأفراد المنعزلون الفلسفة الحديثة ويهلكون لسوء هضم فلسفي فليس ذلك دليلا ضد الفلسفة كما أن الضرر الذي يلحق بعض المارّة من جراء انفجار آلة تسخين لا يُعدّ دليلا ضد علم الميكانيك. (شكرا للحوار المتمدن).

والعلماء كالفلاسفة لا ينبتون كالفطر هكذا دون اتساق تام مع البيئة الاقتصادية والاجتماعية، او كنبتة شيطانية معزولة عن الواقع، بل ان وعيهم يبدأ منسجما مع الواقع ثم تبدأ رحلة البحث عن الجديد ولكن في اطار متطلبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، أي ان الواقع هو الذي يدفع شخصا ما لان يصبح عالما في مجال ما، كما ان حركة ومصالح المجتمع او بعض مكوناته وخصوصا الطبقات المسيطرة هي التي تلعب الدور المركزي في تطوير العلوم بتوفير الرعاية والحماية لمن تبدو عليه علامات النبوغ.
كما ان التطورات العلمية التي شهدتها البشرية لم تبدأ بالجملة من نقطة واحدة (زمانيا وجغرافيا) بل كانت نتيجة تفاعلات هائلة استغرقت الاف السنين وشاركت بها معظم المجتمعات البشرية وان بنسب متفاوتة.
فالفلسفة اليونانية مثلا لم تكن حدود انتشارها داخل اسوار اثينا واسبرطة وطروادة، بل امتدت الى مختلف انحاء العالم القديم .. سواء عبر الغزوات والحروب والاحتلال، او عبر التجارة والعلاقات السلمية، وتاثرت وأثرت بثقافة المصريين والفرس وبلاد الشام وشمال افريقيا وكذا الامر بالثقافة الهندية والصينية ...
واذا كانت فلسفة افلاطون او ارسطو قد ظلت لقرون عديدة تشكل جذر القاعدة الفكرية للفلاسفة والعلماء حتى عصر النهضة الاوروبية فلان تلك الفلسفة كانت تتطابق مع عصر الاقطاع، وهو العصر الاطول في التاريخ المكتوب والذي يمتد لنحو 5 الاف سنة ، هو عمر الحضارة الانسانية فتعبير الحضارة لم يطلق الا على الدول او المجتمعات البشرية التي انتقلت من عصر الرعي الى الاستقرار الحضري في عصر الزراعة (عصر الاقطاع) .
ولم تتقاطع الفلسفة اليونانية مع الديانة اليهودية او المسيحية او الاسلامية لأنها وان كانت وثنية غير انها لم تنكر وجود اله هو صاحب الخلق. ولذا لم يقف اتباع الديانات الثلاث موقفا معاديا من منها، خصوصا وأن هذه الديانات لم تأت باعراف وقيم اجتماعية تتناقض مع قيم وقواعد المجتمع الاقطاعي، وانما كانت اقرب الى الحركات او الثورات السياسية ضد طبقة متسيدة مسيطرة على وسائل وقوى الانتاج (الارض – العبيد) او التجارة – والعبيد كما في الاسلام، والتي تطورت لاحقا مع انتقال مركز السلطة الى الشام الى (الارض – العبيد) وان لم يستخدم اسم العبيد تحايلا فقط.

ومن نافل القول ان عصر الاقطاع هو العصر الذي بدأ فيه الانسان يعتبر الارض هي اداة الانتاج الرئيسية، وحول الارض وملكيتها تكونت المجتمعات وبناها الفوقية من فلسفة وعلوم وقوانين وفنون وقيم واعراف وبما ينسجم ويتفق مع حاجاته، وفق قانون "الحاجة ام الاختراع" ، لكن الصدف ايضا كان لها دورا.

وفي اطار الصراع على ملكية الارض وملكية العبيد دارت معظم المعارك في التاريخ حتى بداية العصر الراسمالي الحديث، وفي ذات الاطار نشط العلماء والفلاسفة في خدمة الطبقة الحاكمة بما يمكنها من تثبيت السيطرة .. ولما كانت طبيعة الصراع في ذاك الزمان تعتمد على القوى الجسدية والعضلية للانسان .. وطالما كانت الطبقة المسيطرة هي الاقلية في المجتمع فهذا ما دفع القوى الراغبة بالسيطرة على الارض والاتباع – العبيد - الى الاستعانة بآلهة سرمدية خرافية وكان هذا مبعث الديانات السماوية وغير السماوية .. ورغم عدم قناعتي بالاساطير الدينية الا ان القصة التي تقول ان قبيلة بني اسرائيل لم تؤمن بابراهيم نبيا الا بعد ان وعدها بارض فلسطين لها ولذريتها من بعدها. وفي هذا الاطار كذلك كانت الدعوة المسيحية الى تحرير العبيد اليهود من اسر الكهنة ومن ثم من العبودية للرومان، فكان اتباع موسى قبيلة بني اسرائيل العبيد لاسيادهم القبط، وكان اتباع المسيح الاوائل من العبيد والرعاع .. وهكذا كان الاسلام ثورة على اسياد مكة التجار فكان البؤساء والدهماء والعبيد اول من آمن بالدعوة المحمدية.

ولخدمة الاسياد ملاك الارض والعبيد (السلطة) جرى تقسيم العمل بين الرجل والمرأة منذ وقت مبكر في التاريخ.. فلأن الارض تحتاج الى القوة الجسدية والعضلية لاستغلالها والحفاظ عليها من عدوان المعتدين وايضا للسيطرة على اراض جديدة مما تطلب تجييش المجتمع، فقد تم تعظيم مكانة الرجل وتحديد مجال عمله خارج المنزل .. فيما تم تحديد موقع المرأة في المنزل لخدمة الرجل الذي يخدم سيده.
واذا كان الرجل بحكم قوته البدنية يستطيع حماية نفسه، فان المرأة فرض عليها ان تختبيء خلف ستار العفة كي تحافظ على نفسها. وحرمت من حقوقها ولم تكن ابدا مساوية للرجل فما نراه اليوم في المجتمعات الاسلامية ، ومجتمعات العالم الثالث عموما، من مفاهيم وقيم وحقوق تتعلق بالمرأة ما هي الا امتدادا لتلك القوانين السائدة منذ خمسة الاف عام .. حيث ان مجتمعات العالم الثالث لم تنتقل حقيقة من نظم وقواعد ونمط انتاج المجتمع الاقطاعي.
ولعل الانسجام الواضح في تعامل مختلف الحضارات مع المرأة يشكل دلالة صارمة على ان القوانين الاجتماعية تحددها طبيعة نمط الانتاج الاجتماعي وليس الانتماء العرقي او الجغرافيا او اللغة او الوعي او العقل .. حيث ان نمط الانتاج ينتج ذات الثقافة (البنية الفوقية) حتى لو تباعدت المسافات والازمان.

فالاشوريين هم اول من فرض الحجاب على المرأة .. وشريعة حمورابي عاقبت المرأة اذا خالفت زوجها باغراقها بالماء، فيما الاغريق فرضوا عليها حجابا كاملا (كالنقاب الاسلامي) لا يظهر منها الا عينها ، وقال عنها ارسطو " إن الطبيعة لم تزود المرأة بأي استعداد عقلي يعتد به ".
ولما فرضت ظروف الحرب على اسبارطة ونالت المراة بعض الحقوق نظرا لحاجة قوة عملها انتقد ارسطو رجال اسبرطة واتهمهم بالتهاون ، ، وكان الفقهاء الرومان القدامى يعللون فرض الحجر على النساء بقولهم: لطيش عقولهن.
ومع ان المراة الفرعونية حصلت على بعض المكانة الا كانت تلقى في النيل بعد تزيينها "عروس النيل" كقربان، وكان الرجل في عصر الفراعنة يتزوج اخته وامه . اما في الصين القديمة فكان الرجل له الحق ببيع زوجته كجارية وينظر لها الصينيون على انها معتوهة محتقرة مخانة لا حقوق لها.
فيما تحرق المراة نفسها حية اذا مات زوجها وجاء في تشريع الهندوس : ليس الصبر المقدر والريح ، والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار أسوأ من المرأة. كما كانت محتقرة منبوذة في الزرادشتية في بلاد فارس ، وفرض عليها احتجابها حتى عن محارمها ومنعت من ترى احدا من الرجال اطلاقا.
وفي اليهودية لم تنل المرأة ميزة أو حق.. بل كان بعض فلاسفة اليهود يصفها بأنها " لعنة " .... وكان يحق للأب أن يبيع ابنته إذا كانت قاصراً وجاء فى التوراة " المرأة أمر من الموت ... وأن الصالح أمام الله ينجو منها ". و " شهادة مئة امرأة تعادل شهادة رجل واحد ".
وفي القرن الخامس أجمعت المسيحية أن المرأة خلو من الروح الناجية من عذاب جهنم ما عدا أم المسيح ، وتساءلوا هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسان؟ .
اما الاسلام فقد اعتبرها "ناقصة عقل ودين" وتابعة للرجل في كل شيء وحقها بالارث نصف الرجل وشهادتها نصف الرجل وليس لها الحق بالولاية. كما كان العرب قبل الاسلام يقتلون الفتيات لعدم حاجتهم لهم كقوة عمل او خوفا من العار او الفقر.
وفي انجلترا كان يحظر على المراة قراءة الكتاب المقدس ولم يكن لها حق بالتملك حتى عام 1882، ووفق القانون كانت المراة في انجلترا تابعة لزوجها ولم يرفع عنها الحظر الا عام 1883.
ولم تخرج المراة في ايطاليا من عداد المحجور عليهم الا في عام 1919، وفي المانيا وسويسرا لم تعدل قوانين الحجر عل النساء الا في اوائل القرن العشرين. واصبح للزوجة مثل ما لزوجها من حقوق.

وللحديث بقية