من الذي يسبق الاخر الانتاج المادي ام الفكري


ابراهيم علاء الدين
2009 / 9 / 1 - 13:00     

استكمالا لما طرحته في مقال نشر تحت عنوان " تطور الانتاج المادي جاء بالاديان الثلاثة" بتاريخ 30/8 على الرابط التالي :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=182916

استكمل اليوم الحوار في هذا الموضوع الذي لا اعرف لماذا تخلى الشيوعيين تحديدا عن الدفاع عن اهم ركن من اركان الفلسفة الماركسية وهو النظرية المادية للتاريخ وتركوا المثقفين "الاردايين" يصولوا ويجولوا في عرض عضلاتهم في التاكيد على ان الانتاج الفكري (أي البنى الفوقية) هي التي تحدد حركة التاريخ وهي التي تقرر وتحدد مستوى حضارة الشعوب.

وفي اطار استكمال عرض وجهة النظر التي اقر بانها مستمدة من النظرية الماركسية "النظرية المادية" اعود فاطرح السؤال من جديد وهو : هل هو الانتاج الفكري (البنى الفوقية) ام الانتاج المادي (أي البنى التحتية) هو الذي يحدد مسار تاريخ المجتمعات البشرية ودرجة تحضرها او حضارتها ؟؟...

وفي البداية لا بد من تعريف التطور والحضارة والمدنية .. والتي تعني لغويا " الاقامة في الحضر والحاضرة أي المدن خلاف البادية والقرى والريف".
اما وفق المفهوم المعاصر الشامل للحضارة فانها تنقسم الى قسمين:
الأول : مادي : وهو ما يطلق عليه المدنية أو الحضارة بمعناها العام الذي يتناول العلوم التقنية وتطبيقاتها الصناعية والإنشائية وغيرها.
والثاني : معنوي : وهو العنصر الذي يعتمد على العقائد فكراً وتصوراً ويقيناً، وعلى المبادئ والمثل والأخلاق المنبثقة منها والمرتبطة بها.
وحسب تعريف ابن خلدون فالحضارة هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنـزل وأحواله.
.اما وليام ديورانت الفيلسوف والمؤرخ الامريكي - مؤلف كتاب قصة الحضارة فيعرفها بقوله : انها نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة انتاجه الثقافي بعناصر أربعة :(1) الموارد الاقتصادية (2) النظم السياسية (3) العقائد الخلقية (4) متابعة العلوم والفنون.

فيما التعريف الاسلامي للحضارة فهو كما قال سيد قطب احد ابرز مؤسسي جماعة الاخوان المسلمين فهي : ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين، النمو والترقي للعنصر الإنساني والقيم الإنسانية وللحياة الإنسانية .

ويلاحظ من خلال تعريف قطب هذا انه يلتقي مع دعاة اعتبار الثقافة هي اساس الحضارة والتطور من العلمانيين والليبراليين .. أي ان دعاة الثورة الثقافية ان جاز التعبير من العلمانيين يلتقون مع التفسير الاسلام السياسي للحضارة ويعتبروا الثقافة والوعي هو اساس التطور. (وسوف اعرض تفسير الاسلاميين للبنى الفوقية والتحتية في مقال منفصل).

مفاهيم خاطئة
ويذهب بعض السطحيين من المستثقفين الى ان الحضارة هي بنايات شاهقة، وشقق حديثة، وشوارع عريضة مضاءة بالمصابيح الكهربائية تغص يها السيارات، وتمتليء مدنها بالعلب الليلية التي تعج ببنات الليل والراقصات المبتذلات والموسيقى الصاخبة، او بالمطاعم الاجنبية ومجالات اللهو، او بامتلاء اسواقها باحدث الازياء والاجهزة والادوات الاستهلاكية. واغذية معلية وماركات عالمية . ويرى هؤلاء ان هذه المظاهر هي البنى التحتية. وان المشكلة هي في البنى الفوقية التي اما انها لم تتمكن، او لا ترغب بأن تؤقلم افكارها وبرامجها وسياساتها مع هذه البنى او انها عاجزة عن بنائها بالشكل المطلوب.
وفي هذا الفهم خلل فادح بل خطيئة كبرى ودليلا على عقم وسقم هذا الفهم القاصر المحدود.
وهناك ايضا خلل كبير لدى عدد كبير من المثقفين العرب في توصيف اوضاع المجتمع وما اذا كان يمر في مرحلة التنمية .. او في مرحلة النمو .. علما بان الفارق هائل بين المرحلتين .. ولا ضرورة لبذل الجهد للبرهنة على ان كافة مجتمعاتنا العربية وعشرات المجتمعات الاخرى (دول العالم الثالث) ما زالت تمر في مرحلة التنمية مع تفاوت كبير في تدرجها من مجتمع الى اخر.
ومن نافل القول ان مرحلة التنمية اخطر بما لا يقاس من مرحلة النمو واكثر صعوبة وتقلبا وتحديات وتتطلب مجهودات كبرى لكنس كافة مخلفات عصور ما قبل الراسمالية من نمط انتاج وعلاقات انتاج ووسائل انتاج وبالتالي مجموعة القيم والافكار والاعراف التي تنتجها مجتمعات نهايات عصر الاقطاع.

النموذج الثقافي لـ "كيم ايل سونغ"

وكل من يتابع الانتاج الفكري العربي في هذا المجال بما فيه الانتاج الجديد سوف يجد الكثير من المثقفين يعبر عن قناعات راسخة بان اقامة نظم جديدة للبنى الفوقية العربية كفيل في نقل مجتمعاتنا العربية الى عصر ازدهار وحضارة وتحضر ويخلص هذه المجتمعات من ازماتها ومشكلاتها بل ومعضلاتها المتوارثة.
ويرى هؤلاء بان تغيير الزعماء السياسيين والمسؤولين الحكوميين والمجيء بغيرهم (لا ادري من اين ..! وكيف ..؟؟) هو المقدمة الضرورية لبدء اقامة مشروعات انتاج متقدم (البنى التحتية) ويمكن شعوب المنطقة من نيل حريتها وفرض مبدأ سيادة القانون ومباديء حقوق الانسان أي بناء الدولة المدنية بكل عناصرها .
وانذاك كما يذهب هؤلاء الحالمون سوف تنتهي الآفات الضارة التي تعشعش في ثنايا عقل الانسان العربي ويصبح انسانا يضاهي الانسان السويسري والفرنسي والامريكي وتعود لدول العرب مكانتها في صنع القرار الدولي. الى اخر الاحلام الت يتصل حتى ادق تفاصيل الحياة..!!
وهذه النظرة يبدو انها لم تتعظ من تجارب مركزية في هذا المجال ولا تعلم بان هناك "معلما اسمه كيم ايل سونغ" مؤسس كوريا الشمالية المعاصرة تبنى وجهة النظر هذه مستلهما التجربة الصينية مع بعض التعديلات في النكهة لاسباغ الصفة الكورية عليها، وندعو اصحاب نظرية البناء الفوقي اولا الى الاطلاع على نتائج التجربة الكورية بعد مرور50 سنة عليها.
فكيم ايل سونغ قام بعكس مفهوم ماركس للبنى الفوقية والبنى التحتية، واعتبر ان الوعي والمكونات الفكرية في المجتمع هي البنى التحتية، في حين تشكل المكونات الاقتصادية البنى الفوقية .. أي اعطاء الاولوية للوعي والانتاج الفكري وتقديمه على العامل الاقتصادي.
فيقول المعلم كيم : "ان العامل الاقتصادي هو في حقيقة الامر عامل واقعي وليس مادي كما يعتقد ماركس"
واضاف ان هذا الفهم سوف يؤدي الى تطوير العالم الثالث دون الحاجة للقاعدة الاقتصادية، حيث يكون الوعي هو الذات الفاعلة للتأريخ وارادة الانسان لها الاسبقية في تقرير مصيره على العامل الاقتصادي .
ويقول "فالانسان باستعمال عقله الواعي يستطيع ان يخلق القاعدة الاقتصادية بنفسه بدلا من ان يجلس في انتظار تحققها الى اجل غير مسمى" ويضيف سونغ " ولا يشكل ذلك ارتدادا الى المفهوم المثالي للتاريخ كما يضن خطأ الكثيرين بل مجرد وضع للشيء في موضعه الصحيح بما يتفق مع العلم الحديث ومن غير انكار للدور المهم الذي يلعبه العامل الاقتصادي (الواقعي) في التطور الاجتماعي لكن من دون تظخيم هذا الدور كما فعل ماركس. منت الذي ينتج الآلة؟".

ويتسائل سونغ قائلا "اليس العقل الواعي بالاعتماد على نفسه اساسا قبل اعتماده على الدماغ كما اثبت ذلك العلوم الحديثة؟""..."من مقالة الخيال المبدع عند الانسان"
ويضيف "فوق ذلك يتعزز دور العقل الواعي والعامل الفكري كلما زاد التقدم التكنولوجي من خلال ازدياد اهمية دور علم الرياضيات وهو اكثر العلوم تجريدا في عملية الانتاج بدخول الاجهزة الالكترونية والكومبيوترات الى العملية الانتاجية".
واعتبركيم إيل سونغ ، ان اهمال العمل الفكري والتركيز على البناء الاقتصادي هو من اهم اسباب انهيار الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي السابق ودول اوربا الشرقية والسبب الرئيسي الاول لانهيار الاشتراكية في الصين.

الفلسفة الماركسية
لكن الفلسفة الماركسية ربطت في وحدة جدلية بين النظرية والممارسة حيث الواقع الاجتماعي والتاريخي ليس الا فعل البشر فيه وعملهم التحويلي له .. أي انها تعطي الاولوية في الفعل للمعرفة وليس للتأمل والتجريد".
ويؤكد صادق جلال العظم بأن القاعدة الاقتصادية تفرض نفسها " على المديين المتوسط والطويل، في التحليل الأخير، على صيرورة الكل الاجتماعي المعني وطبيعته وحركته، بحيث سيجد الباحث، الذي يلجأ إلى المنهج العلمي نفسه " مضطراً، في التحليل الأخير، إلى تفسير الظواهر الكبرى لحياة أي مجتمع تاريخي حقيقي بإرجاعها إلى نمط إنتاجه والتطوّرات الطارئة عليه ".
ثم يضيف ملاحظة هامة، وهي أن عملية الفصل بين السياسي- الإيديولوجي، من جهة، والاقتصادي، من جهة ثانية، هي " من خصائص المجتمع الرأسمالي المميّزة، حيث يتم انتزاع الفائض الاقتصادي عادة بوسائل "اقتصادية"، أي عبر آليات السوق الحرة، ودون تدخل سياسي مباشر"، في حين أن أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية " لم تعرف هذا الفصل، لأن انتزاع الفائض كان يتم فيها بوسائل "غير اقتصادية" أصلاً

وتؤكد المادية التاريخية ان على كل مجتمع بشري أن ينتج لكي يستمر على قيد الحياة، فإنتاج وسائل العيش - بالمعنى الضيق أو الواسع للكلمة، أي كفاية الحاجات الاستهلاكية- وأدوات العمل ومواده الضرورية لهذا الإنتاج، هو الشرط المسبق لكل تنظيم أو نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا.
والمادية التاريخية باعتبارها علم المجتمعات الانسانية ترى ان الطرق التي ينظم الناس انتاجهم المادي بموجبها هي اساس كل تنظيم اجتماعي في كل عصور التاريخ البشري. ويحدد هذا الأساس بدوره كل النشاطات الاجتماعية الأخرى، سواء كانت تتعلق بادارة العلاقات بين البشر او الانتاج الفكري والقوانين والاخلاق والدين، وكافة ما يندرج في تكوين البنية الفوقية في المجتمع.
ولا تقول المادية التاريخية أبدا أن الإنتاج المادي ( العامل الاقتصادي ) يحدد بصورة مباشرة وفورية مضمون نشاطات البنية الفوقية، وشكلها. بل تؤكد على العلاقة الديالكتيكية والجدلية بين البنائين التحتي والفوقي ودور كل منهما في توفير مقومات تطور الاخر. مع ضرورة التاكيد على ان التطورات التي تجري في البنية الفوقية لا تخلقها مباشرة علاقات الانتاج الاجتماعية ، كما انها لا تتحقق باستقلال عنها، وانما عبر تداخلات شديدة التعقيد وخلال حقبة زمنية تحددها درجة التطور ذاتها في البنيتين التحتية والفوقية.
وللحديث بقية