الستالينيون (1) : دكتاتورية البروليتاريا بين المأساة والمهزلة


يعقوب ابراهامي
2009 / 8 / 29 - 07:29     

"التاريخ يعيد نفسه مرتين: في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة." (كارل ماركس)
هذه المقولة الشهيرة لكارل ماركس تصدق على تاريخ الأفكار أيضاً، لاسيما على فكرة "دكتاتورية البروليتاريا".

النبوءة: " حرية لمؤيدي الحكومة فقط ، لأعضاء حزب واحد فقط ، مهما يكن عددهم كبيراً ، هذه ليست حرية على الإطلاق. الحرية تعني دائماً ، وبصورة مطلقة ، حرية المرء في أن يفكر بصورة مغايرة . . . إن الإشتراكية لا يمكن فرضها أو إدخالها بمرسوم من الأعلى . . . لا أحد يعرف ذلك أكثر من لينين نفسه ولا أحد كتب عن ذلك أحسن منه ، ولكنه خاطئ كل الخطأ في الإجراءات التي يتخذها. . . إن السبيل الوحيد للأنتعاش هو مدرسة الحياة العامة نفسها. السبيل الوحيد هو: ديمقراطية واسعة بلا حدود ورأي عام بلا قيود. الإرهاب هو الذي يفسد المعنويات ويهبط العزائم."

"بدلاً من هيئات تمثيلية يتم تشكيلها في انتخابات شعبية عامة ، حول لينين وتروتسكي مجالس السوفييت إلى الممثل الوحيد للحياة السياسية في البلاد. ولهذا فإن الحياة داخل مجالس السوفييت نفسها ستتعرض هي الأخرى للشلل. إذ بدون انتخابات عامة ، بدون حرية لا قيود لها للصحافة والأجتماع ، بدون صراع حر بين الأراء ، ستموت المؤسسات الشعبية ، ستبدو وكأنها حية ولكن البيروقراطية ستكون في الواقع العنصر الحي الوحيد فيها. أما الحياة العامة فستغرق شيئاً فشيئاً في نوم عميق."

" ستقع السلطة والقيادة في أيدي عدد من قادة الحزب ذوي الطاقات العالية والخبرة الواسعة. ومن بين هؤلاء بضعة أنفار متفوقين سيتولون الزعامة ، وسيدعون من حين لآخر نخبة مختارة من أفراد الطبقة العاملة لحضور اجتماعات ينحصر واجبهم فيها على التصفيق لخطابات الزعماء والموافقة بالأجماع على القرارات المقترحة."

"هذه هي في حصيلة الأمر عصابة ، دكتاتورية ، وهي بالتأكيد ليست دكتاتورية البروليتاريا ، بل دكتاتورية حفنة من السياسيين. إنها دكتاتورية بالمعنى البرحوازي للكلمة . . . بل يمكننا القول أكثر من ذلك : إن هذه الظروف ستؤدي إلى توحيش الحياة العامة كمحاولات الأغتيال وقتل الرهائن الخ . . . "

" إن الحياة العامة في الأقطار ذات الحرية المحدودة هي حياة فقيرة ، بائسة ، جامدة ، مجدبة. إذ بانعدام الديمقراطية تنقطع مصادر الحياة لكل الغنى والتقدم الروحي." (روزا لوكسمبورغ ، 1918).

كم ساذجة تبدو لنا اليوم هذه المرأة المدهشة. روزا لوكسمبورغ ، الشيوعية الفذة ، ذات الحس النبوئي ، المفعمة بحب الإنسان والحياة (والتي سيقتلها الفاشست الألمان بعد حوالي السنة ويلقون بجثتها في النهر) لم يخطر ببالها قط أن "الحفنة من القادة" ستتحول إلى "الزعيم الواحد" ، وأن "التصفيق والموافقة بالإجماع" ستنقلب إلى مراسيم وتراتيل وثنية. أما "السبات العميق" للحياة العامة فسيصبح "حمام دم" يغرق فيه أعضاء الحزب الشيوعي أنفسهم.

المأساة : "أنا أطالب بإبادة هذه الكلاب السائبة رمياً بالرصاص ، كلهم جميعاً وكل واحد منهم بلا استثناء . . . نحن نطالب بإبادة هذه الحشرات الطفيلية بلا رحمة . . . إنهم أسوأ المجرمين ويستحقون عقاباً واحداً لا بديل له : الموت رمياً بالرصاص ، الإبادة. . . ستمر الأيام ، العشب سوف ينمو فوق قبور هؤلاء الخونة المكروهين ، يغطيهم احتقار الشعب السوفييتي الأبدي . . أما نحن ، فبعد أن خلت الطريق من قذارات وأوساخ الماضي ، سنسير خلف قائدنا ومعلمنا المحبوب ، ستالين العظيم."
(أندريه فيشينسكي ، المدعي العام السوفييتي ، في مرافعة أمام محكمة "نزيهة" ، يشرح لقضاة "محايدين" ، بلغة "قانونية" ، وإن كانت "شعرية" أحياناً ، لماذا يجب القضاء على كل رفاق لينين الذين قاموا مع لينين بثورة أكتوبر).

المهزلة : " مختلف أصناف الدول تنكر هويتها وتطلق شعارات لا تهدف إلا لتضليل شعوبها باستثناء دولة دكتاتورية البروليتاريا التي لا تنكر هويتها ولا تخفي أهدافها ولذلك هي الأكثر ديموقراطية . . .
استنكر خروشتشوف كل المبادئ التي قام عليها مشروع لينين والدولة السوفياتية من بداية تأسيسها . أنكر الدور القيادي للبروليتاريا وأطاح بدولة دكتاتورية البروليتاريا التي هي الأساس الوحيد الذي يقوم عليه البناء الإشتراكي بإجماع ماركس وإنجلز ولينين. ومن هنا يتوجب على الشيوعيين إزاحة الديموقراطية البورجوازية من طريقهم نحو دولة دكتاتورية البروليتاريا . . ."
(فؤاد النمري ، يشرح للقراء لماذا يجب أن يفضلوا أحكام الإعدام على العيش في ظل الديموقراطية البرجوازية.)

أضواء على فضاعة "المأساة" وكبر "المهزلة" :
إحصاءات موثوقة تؤكد أنه خلال حكم ستالين وحده حوكم حوالي أربعة ملايين انسان وأدينوا بجرائم ضد الدولة. من بينهم 700000-800000 حكم عليهم بالموت وقتلوا رمياً بالرصاص. هذا الرقم لا يشمل الذين ماتوا تحت التعذيب ، في السجون وفي معسكرات الأعتقال.
تقريباً كل القادة البلاشفة الذين قاموا بدور بارز في ثورة أكتوبر ، أو كانوا أعضاء في حكومة لينين الأولى ، أبيدوا عن بكرة أبيهم (في أغلب الأحيان مع عائلاتهم).
من بين أعضاء المكتب السياسي اللينيني الذي قاد ثورة اكتوبر ، ستة كانوا على قيد الحياة عندما بدأ "الأرهاب الكبير". أربعة منهم نفذ فيهم حكم الإعدام . الخامس ، ليون تروتسكي ، أغتيل على أيدي عملاء ستالين عام 1940 في ملجأه في المكسيك. الوحيد الذي نجا هو ستالين نفسه.
من بين سبعة الأعضاء الجدد الذين أنتخبوا للمكتب السياسي بين ثورة أكتوبر عام 1917 ووفاة لينين عام 1924 أربعة نفذ فيهم حكم الإعدام ، واحد انتحر (إثناء المحاكمة) ولم يبق إلا إثنان هما مولوتوف وميكويان.
من بين 1966 مندوبي مؤتمر الحزب الشيوعي ال-17 عام 1934 (المؤتمر الأخير قبل "الإرهاب الكبير") قبض على 1108 مندوباً. نصيب معضمهم كان الموت.

الكابوس : "انني أستحق أقصى العقوبة . . . وأتفق مع مدعي الدولة بأني أقف على عتبة ساعة وفاتي . . . أني أعترف بأني مذنب في الخيانة للوطن الأشتراكي . . . إن أشد العقوبات يكون مبررا لأن الأنسان يستحق أطلاق النار عليه عشرات المرات بسبب مثل هذه الجرائم . . . اني أعترف بهذا أعترافا مطلقا وبدون أي تردد . . . أني أركع أمام البلاد, أمام الحزب, أمام الشعب كله . . . أن القطر كله يقف وراء ستالين, أنه أمل العالم, أنه الخلاق."
(بخارين ، "حبيب الحزب" كما وصفه لينين ، يركع أمام ستالين ، "يعترف" بأنه كان عميلاً للمخابرات الألمانية و"يطلب" الحكم عليه بالإعدام).

كيف يجب أن يتعامل إنسان شيوعي مع هذا المشهد المرعب ؟
من كل مشاهد محاكمات "الإرهاب الكبير" التي أتخيلها دائماً في ذهني (كامينيف يتوسل أن يرحموا إبنه ، وزينوفييف يتساءل مدهوشاً لماذا لم يف ستالين بوعده بأن لا يحكم عليهم بالإعدام) فإن صورة المفكر الشيوعي بخارين ، حبيب الحزب ، المعروف في العالم كله (رومان رولان وجه نداءً إلى ستالين بأن يفرج عنه) يعترف ب"خيانته" ويركع أمام ستالين ("أمل العالم ، إنه الخلاق") ، هذه الصورة هي كابوس لا يفارقني.

إذا كنتم تسألوني ما هي أكبر جريمة اقترفها ستالين بحق الشيوعية فسأقول لكم : هذه هي الجريمة. إنه جرد الشيوعية من إنسانيتها.

ولكن هناك من لا يرى الفضاعة في هذه التمثيلية المخيفة. إقرأوا:
سؤال : هل تعتقد (أقصد من صميم قلبك) إن بخارين وزينوفييف وكامينيف كانوا عملاء لخدمة المخابرات الألمانية؟
جواب : "نعم . أنا اؤمن بذلك من كل قلبي."

هل كان يمكن أن يحدث غير ذلك؟
أو بتعبير آخر : هل الخطأ هو في النظرية أم في التطبيق؟ أنا أعتقد أن لا أهمية لهذا السؤال.
تجربة دكتاتورية البروليتاريا قد فشلت وجلبت المآسي لا لشعوب الإتحاد السوفييتي فحسب بل في كل مكان طبقت فيه بهذا الشكل أو ذاك ("الديموقراطيات" الشعبية ، الصين ، كمبوديا ، الخ). نحن أمام تجربة تاريخية كبيرة ولا يفيد هنا الحديث عن صحة النظرية والخطأ في التطبيق.
بدلاً من أن تقيم نظاماً إشتركياً وتخلق إنساناً متحرراً جديداً ، أقامت دكتاتورية البروليتاريا مجتمعاً قائماً على الخوف والتزلف والنفاق.

لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً :
أما فؤاد النمري فلا زال يعتقد : " جميع الذين أعدمهم ستالين خلال سنوات " الرعب الأحمر " كانوا من الذين سيبيعون الثورة الإشتراكية إلى هتلر . لو قيّض لأولئك الخونة بيع الثورة إلى هتلر لرضخ العالم كل العالم بما في ذلك الغرب الرأسمالي تحت الجزمة النازية الهتلرية ربما لألف عام كما كان هتلر يخطط ."

وعلى أقل من هذا كان وزير خارجية نابوليون الأول ، شارل-موريس دي تاليران ، الملقب ب"الشيطان الأعرج" ، يقول : "هذا ليس جريمة ، إنه أكثر من جريمة ، إنه خطأ فادح".