اليسار الياباني مرشّح لتأثير أكبر على سياسات البلد


داود تلحمي
2009 / 8 / 15 - 10:33     

تعاني اليابان، مثلها مثل سائر الدول الرأسمالية المتطورة، من الأزمة الإقتصادية الحادة التي انطلقت من الولايات المتحدة، بشكلها الصاخب، منذ النصف الثاني للعام 2008، وانتشرت في أنحاء العالم بعد ذلك نتيجة تداخل إقتصاديات البلدان المختلفة في عصر سيادة العولمة والإعتماد الواسع للعديد من دول العالم، ومنها اليابان، على التجارة الخارجية، وتصدير سلعها الصناعية خاصةً.
واليابان، كما هو معروف، تحتل مرتبة متقدمة في قائمة اقتصاديات العالم. وهي، من حيث الناتج القومي الداخلي الإجمالي الإسمي، تُعتبر، حتى الآن، الإقتصاد الثاني في العالم، بعد الولايات المتحدة الأميركية. وإن كان احتساب القوة الشرائية الفعلية يجعل الصين حالياً في المرتبة الثانية العالمية من حيث القيمة الفعلية للناتج القومي الداخلي الإجمالي، قبل اليابان. وفي كل الأحوال، فإن الصين مرشحّة لتجاوز اليابان حتى في حجم الناتج القومي الإسمي خلال مهلة زمنية قصيرة، مع استمرار التنامي الكبير للإقتصاد الصيني، حتى في مرحلة الأزمة الإقتصادية، وإن بوتائر أقل من السنوات السابقة.
ومهما يكن من أمر، فإن اليابان، التي اعتمدت الى حد بعيد على صادراتها الصناعية المتقدمة لتأمين ازدهار اقتصادها خلال العقود الماضية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعاني في الأشهر الأخيرة من تراجع كبير في حجم هذه الصادرات، مثلها مثل كل الدول الصناعية المتطورة. ففي الربع الأول من العام 2009، بلغ حجم هذا التراجع مقارنةً بالفترة ذاتها من العام 2008 حوالي 42 بالمئة، وهي نسبة أعلى من متوسط تراجع صادرات الدول السبع الصناعية الرأسمالية الكبرى، واليابان إحداها طبعاً، وهي نسبة 23 بالمئة، وأعلى بالتالي من نسب تراجع صادرات أهم اقتصاديات العالم الرأسمالي، بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا.
وعلى خلفية تفاقم الوضع الإقتصادي، وتنامي البطالة المرئية وغير المرئية في البلد، تستعد اليابان لخوض انتخابات المجلس النيابي يوم 30 آب/أغسطس. ومجلس النواب هذا هو الأهم من بين مجلسي الهيئة التشريعية في البلد، ويأتي بعده في الأهمية مجلس المستشارين، أو مجلس الشيوخ، الذي تجري انتخاباته النصفية القادمة في العام 2010. فقد بلغت نسبة البطالة الرسمية في شهر حزيران/يونيو الماضي 5،4 بالمئة، وهي أعلى نسبة منذ ست سنوات. وبعض المحللين يعتبر أن هناك بطالة مقنّعة لا تشير إليها الإحصائيات الرسمية، بحيث قد تصل البطالة الإجمالية الفعلية الى أكثر من 12 بالمئة من قوة العمل في اليابان.
وبالرغم من أن المفاجآت دائماً ممكنة في بلد مثل اليابان، فإن استطلاعات الرأي، حتى كتابة هذه الأسطر، تشير الى أن الحزب الذي يحكم البلد منذ العام 1955، عملياً بدون انقطاع، اللهم سوى في فترة أشهر محدودة، أقل من عام، في أوائل التسعينيات الماضية (1993-1994)، وهو الحزب الليبرالي الديمقراطي، مرشح لخسارة الأغلبية في هذا المجلس، لصالح الحزب المنافس، الحزب الديمقراطي الياباني.
والحزب الأخير، الحزب الديمقراطي، كان قد حقق نجاحاً بارزاً قبل عامين في انتخابات مجلس الشيوخ النصفية في تموز/يوليو العام 2007، حين جاء في المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد في تلك الإنتخابات، بحيث فقد الحزب الليبرالي الحاكم، ولأول مرة منذ العام 1955، أغلبيته في هذا المجلس، لصالح أحزاب المعارضة. كما خسر الحزب الليبرالي أيضاً موقعه الأول في الإنتخابات الأخيرة للمجلس البلدي للعاصمة طوكيو، والتي جرت يوم 12 تموز/يوليو 2009 الماضي، حيث حقق الحزب الديمقراطي المعارض تفوقاً ملحوظاً عليه في هذه الإنتخابات أيضاً.
وهكذا، فإن تفاقم الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وتزايد نسب البطالة، والقلق المتزايد لدى قطاعات واسعة من العاملين حالياً، وعدد كبير منهم يعملون بعقود عمل جزئية ومؤقتة، مما يجعلهم لا يستبعدون احتمال انضمامهم الى هذا الجيش المتسع من العاطلين عن العمل، كلها تفتح الأبواب أمام تغيرات، مباشرة أو مؤجَّلة، في الخارطة السياسية اليابانية، وفي مجمل الوضع الداخلي لهذا البلد الهام في الخارطة الإقتصادية العالمية.

تغيّرات متوقعة في الخارطة السياسية اليابانية...

ومن غير المستبعد أن تفتح هذه التطورات المجال أمام تنامي دور قوى اليسار في البلد، وفي المقدمة الحزب الشيوعي الياباني، القوة الأكبر في هذا المعسكر، والحزب الرابع من حيث الحضور الإنتخابي في البلد. وجدير بالإشارة أن انتخابات المجلس البلدي للعاصمة طوكيو في شهر تموز/يوليو الماضي أعطت للحزب الشيوعي نسبة 12،6 بالمئة من أصوات المقترعين، بحيث اقترب من نسبة القوة الثالثة، حزب كوميتو الجديد، الحزب اليميني المتحالف مع الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، والذي حاز في هذه الإنتخابات على 13،2 بالمئة من الأصوات، فيما حصل الحزب الديمقراطي المعارض على نسبة 40،8 بالمئة من الأصوات والحزب الليبرالي الحاكم على نسبة 25،9 فقط.
والحزب الشيوعي، الذي تأسس في العام 1922، بقي يعمل تحت الأرض، وتعرّض للملاحقة والإضطهاد طوال فترة تحكّم العسكر وسيادة النزعة الحربية في قمة الحكم في البلد، وذلك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان فيها. وقد شهد الحزب الشيوعي صعوداً ملحوظاً في الحضور الإنتخابي بعد ذلك، بالرغم من بعض التضييقات التي تعرض لها من قبل الولايات المتحدة ابان مرحلة المكارثية فيها وفي بدايات "الحرب الباردة"، نظراً لكون الولايات المتحدة قد فرضت احتلالاً عسكرياً مباشراً على اليابان استمر رسمياً حتى العام 1951، ثم استبدلته بـ"تحالف أمني ياباني- أميركي" شكّل عملياً امتداداً لمرحلة الإحتلال. حيث ربطت عبره البلد بسلسلة من القيود والإتفاقات العسكرية والأمنية والإقتصادية، المعلنة والسرية، مدعّمة بحضور عسكري كثيف في البلد يصل قوامه حالياً الى قرابة الأربعين ألفاً من العسكريين الأميركيين، والإداريين المرتبطين بهم، ينتشرون في أكثر من 130 قاعدة ومركز تسهيلات ودعم عسكرية، أبرزها قاعدة أوكيناوا الشهيرة، التي لا زالت حتى الآن أكبر قاعدة عسكرية أميركية في شرق آسيا. وقد تم في العام 1960 استبدال التحالف الأمني بـ"معاهدة التعاون والأمن المشترك بين الولايات المتحدة واليابان"، تتضمن بدورها بنوداً سرية، تم الكشف مؤخراً عن بعضها، وترمي بوضوح الى ضمان استمرار النفوذ الأميركي العسكري، وغير العسكري، في البلد. والجدير بالتذكير أن هذه القواعد العسكرية في اليابان كانت مصدر انطلاق كثيف للطائرات والسفن الحربية الأميركية خلال الحربين الأميركيتين في كوريا (1950- 1953) وفي فييتنام (1956-1975).
والنظام الإنتخابي الياباني يقوم على صيغة مختلطة من إنتخابات الدوائر الفردية على غرار النظام الإنتخابي البريطاني (300 مقعد من أصل 480 في مجلس النواب)، وانتخابات التمثيل النسبي للقوائم على أساس تقسيم البلد الى 11 دائرة كبرى (180 مقعداً في مجلس النواب، أي أقل من 40 بالمئة من مجمل مقاعد المجلس). وكان الحزب الشيوعي الياباني قد حصل على 10،4 بالمئة من الأصوات في الإقتراع النسبي في الإنتخابات النيابية التي جرت في العام 1976. وانحدرت هذه النسبة الى 7،7 بالمئة في انتخابات العام 1993، ثم عادت وارتفعت الى 13،1 بالمئة في انتخابات العام 1996. وعادت وتراجعت بعد ذلك، فحصل الحزب في آخر انتخابات للمجلس النيابي في العام 2005 على 7،3 بالمئة. وقد بقي، رغم ذلك، في المرتبة الرابعة في المجلس النيابي بعد الأحزاب الثلاثة المشار إليها أعلاه (الحزب الليبرالي، الحزب الديمقراطي، حزب كوميتو الجديد). وهذا الحضور المستمر لهذا الحزب، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، له علاقة باستقلاليته الواسعة خلال العقود الماضية التي سبقت هذا الإنهيار تجاه الحزب الشيوعي السوفييتي وابتعاده عن الإنحياز لأي من طرفي الخلاف السوفييتي – الصيني الذي تفاقم منذ أواخر الخمسينيات الماضية، كما له علاقة بقدرة الحزب على التركيز على أولويات المجتمع الياباني وقطاعاته المغبونة التي يسعى الحزب الى الدفاع عن مصالحها.
وجدير بالذكر أنه كان هناك، بعد الحرب العالمية الثانية، حضور بارز لحزب كبير يمكن أن يصنّف في خانة يسار الوسط، حمل اسم الحزب الإشتراكي. وقد تجاوزت قوته الإنتخابية في بعض الدورات نسبة الـ 30 بالمئة من الأصوات، ولكنه انهار عملياً في أواسط التسعينيات، بعد مشاركة قصيرة مع أحزاب أخرى معارضة في الحكم لبضعة أشهر في أواخر العام 1993 وأوائل العام 1994، ثم اختار في ذلك العام أن ينسلخ عن الأحزاب المعارضة الأخرى ويتحالف مع الحزب الليبرالي في حكومة إئتلافية بين الحزبين اضطر فيها الحزب الإشتراكي الى التخلي عن الكثير من برامجه وطروحاته الخاصة في الشأنين الداخلي والخارجي، مما قاد الى انهيار الحزب في انتخابات العام 1996. فغادره جمهور واسع من أعضائه، وترك وراءه حزب يسار وسط جديداً حمل اسم الحزب الإجتماعي الديمقراطي، فيما انضم عدد غير قليل من أعضاء الحزب الإشتراكي السابقين الى الحزب الديمقراطي، الذي تشكّل في العام 1998. وفي واقع الحال، بقي الحزب الإجتماعي الديمقراطي حزباً صغيراً منذ ذلك الحين، يحصل في العمليات الإنتخابية على نسب أقل من نسب الحزب الشيوعي. حيث حصل في الإنتخابات النيابية الأخيرة في العام 2005 على نسبة 5،5 بالمئة من الأصوات في الجانب النسبي من الإقتراع.
أما الحزب الديمقراطي، الذي تحدثنا عن احتمال فوزه في الإنتخابات النيابية، والذي تشكّل، كما ذكرنا، في العام 1998، فقد ضمّ في صفوفه، الى جانب عدد من أعضاء الحزب الإشتراكي المنحل، عدداً كبيراً من الذين كانوا أعضاء في الحزب اليميني الرئيسي الحاكم، الحزب الليبرالي الديمقراطي، وتيارات يمينية أخرى، مما يبقيه بالأساس حزباً أقرب الى الوسط أو يمين الوسط، مع بعض التنوع في طروحاته، حيث تتنقل خياراته السياسية والإقتصادية والإجتماعية بين مواقف تبدو أحياناً على يمين الحزب الليبرالي، وأخرى تجعله يبدو أكثر تجاوباً مع بعض تطلعات الفئات الوسطى في المجتمع الياباني والمطالب الإجتماعية للفئات الأضعف في المجتمع.
وفرص نجاح الحزب الديمقراطي في الإنتخابات تزايدت، في الأشهر الأخيرة، مع انتشار فضائح الفساد في الحزب الليبرالي الحاكم وضعف قياداته المتعاقبة، وفشل سياساته الإقتصادية في إخراج البلد من أزمته المتفاقمة في الأشهر الأخيرة. ولكن ليس من المضمون أن يحقق الحزب الديمقراطي بمفرده أغلبية من المقاعد في المجلس النيابي، مما سيضطره الى التحالف مع بعض القوى الصغيرة لضمان هذه الأغلبية. والحديث يجري خاصةً عن تحالف مع الحزب الإجتماعي الديمقراطي (يسار الوسط)، الذي سبق وأشرنا إليه، وربما مع حزب آخر من الأحزاب اليمينية الصغيرة التي يمكن أن تنجح في الإنتخابات. وهو تحالف سبق وأقام الحزب الديمقراطي مثله في مجلس المستشارين (مجلس الشيوخ) منذ الإنتخابات النصفية في العام 2007، حين تفوّق في عدد مقاعده على الحزب الليبرالي الحاكم، دون أن يحقق أغلبية بمفرده في هذا المجلس. ومجلس المستشارين، كما سبق وذكرنا، هو المجلس المكمِّل، حسب النظام السياسي الياباني، لمجلس النواب، على غرار مجلس اللوردات في بريطانيا ومجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الأميركية.

اليسار يستقطب آلاف الشبان في الأشهر الأخيرة

وقد شهد الحزب الشيوعي، بشكل خاص، طوال العام الماضي والأشهر الأخيرة تنامياً في صفوفه بوتيرة وصلت الى أكثر من ألف عضو جديد شهرياً، معظمهم من الجيل الشاب. وذلك يعود بدرجة رئيسية الى كون الأزمة الإقتصادية هدّدت بشكل رئيسي فرص العمل أمام الشبان، الذين وجدوا أنفسهم أمام عروض عمل مجحفة، على أساس نظام العقود الجزئية أو المؤقتة، بدون ضمانات اجتماعية وبدون حصانة لاستمرارية العمل. وجدير بالذكر أن عدد أعضاء الحزب الشيوعي يتجاوز حالياً الأربعمئة ألف عضو، مما يجعله من حيث العضوية الحزب الثاني في البلد بعد الحزب الليبرالي. وقد حصل الحزب في انتخابات العام 2005 على أصوات قرابة الخمسة ملايين ناخب. كما ان صحيفة الحزب المركزية، "أكاهاتا"، أي "الراية الحمراء"، يبلغ حجم توزيعها الحالي زهاء المليون وسبعمئة ألف نسخة يومياً، وهو رقم معتبر، حتى بالمقارنة مع الصحف غير الحزبية العديدة في اليابان.
ومن المفترض، على هذه الأرضية، أن يشهد الحزب الشيوعي تحسناً في حضوره الإنتخابي الإجمالي في البلد، وإن كان من المحسوم سلفاً أنه سيبقى في المعارضة، ولن يشارك في الحكم. لكن يمكن أن يكون له دور عملي أوسع في التأثير على الخارطة السياسية اليابانية وسياسات الحكومة القادمة، من خلال التعاطي مع الحكومة الجديدة التي يمكن أن يشكّلها الحزب الديمقراطي، كما هو متوقع، بمشاركة حزب أو حزبين صغيرين آخرين، بصيغة "المعارضة البناءة"، كما أسماها برنامج الحزب الشيوعي الإنتخابي. بحيث يدعم الخطوات والقرارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي يراها ذات طابع إيجابي، ويستمر في حرية حركته في الإعتراض على السياسات السلبية الأخرى المحتملة لهذه الحكومة.
والقضايا الرئيسية التي يتركز اهتمام المواطنين اليابانيين عليها في هذه الآونة هي، بالدرجة الأولى، طبعاً، قضايا داخلية، إقتصادية واجتماعية. ففي استطلاع أخير للرأي في اليابان، اعتبر 66 بالمئة من المستطلعة آراؤهم قضية الضمانات الإجتماعية قضية ذات أولوية بالنسبة لهم، في حين اعتبر 55 بالمئة الإقتصاد وفرص العمل في مرتبة متقدمة، واعتبر 40 بالمئة من المستطلعة آراؤهم مسألة الإصلاح الضريبي، وخاصة ضريبة الإستهلاك، التي تمس بالدرجة الأولى المواطنين العاديين، ضمن مجال اهتماماتهم الأولى. في حين لم تكن القضايا الخارجية، كما هو الحال في معظم الدول المتطورة إقتصادياً غير المتورطة في حروب خارجية، ذات أولوية بارزة في سُلّم الأولويات لدى المواطنين اليابانيين.
والقضايا الخارجية، بالنسبة لليابان، هي، بالدرجة الأولى، مسألة العلاقة العسكرية والسياسية مع الولايات المتحدة واستمرار النفوذ الأميركي على السياسات اليابانية في شتى المجالات، ومن ثمّ مسألة التسلح النووي لكوريا الشمالية، غير البعيدة جغرافياً والمعتبرة مناهضة بقوة لليابان، وكذلك مسألة المشاركة العسكرية اليابانية في المهمات الخارجية، وبالأخص الآن في دعم حرب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان. دون أن نغفل الأهمية المتزايدة للعلاقات الإقتصادية المتشعبة والمتسعة في السنوات الأخيرة بين اليابان والصين، وتنامي دور الصين الإقليمي في شرق آسيا، على حساب دور الولايات المتحدة بدرجة رئيسية، كما يرى بعض المراقبين في المنطقة.
وللحزب الشيوعي موقف من كل هذه القضايا، وخاصة من المعاهدة القائمة مع الولايات المتحدة، بملاحقها السرية، التي انكشف بعضها مؤخراً، وخاصة الملحق الخاص بالسماح بدخول السفن والطائرات الأميركية التي تحمل أسلحة نووية الى موانئ وقواعد اليابان بدون إخطار مسبق لحكومة البلد. ويدعو الحزب الشيوعي الى إلغاء هذه المعاهدة، ووقف سياسة التبعية للولايات المتحدة القائمة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويطالب بسياسة إستقلالية على الصعيد الدولي، كما يدعو الى نزع السلاح النووي في المنطقة والعالم. خاصةً وأن اليابان، كما هو معروف، هو البلد الوحيد في العالم الذي تعرّض للقصف بالسلاح النووي، وذلك في الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، حين قام سلاح الجو الأميركي بقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي في آب/أغسطس 1945، متسبباً بمقتل مئات الآلاف من المواطنين اليابانيين، سواء مباشرةً بفعل القصف، أو لاحقاً بفعل آثار الإشعاعات النووية والأمراض الناجمة عنها.

منعطف في مسار اليابان؟

ويرى المراقبون المتابعون للشأن الياباني أن خسارة الحزب الليبرالي الديمقراطي، الحاكم منذ العام 1955، في الإنتخابات ستشكّل منعطفاً هاماً في تاريخ البلد. ليس فقط بسبب اختلاف بعض سياسات الحزب الديمقراطي المرشّح للفوز عن سياسات الحزب الليبرالي، وهي اختلافات ليست واسعة في كل الأحوال، بل لأنها تفتح آفاقاً جديدة ليست مألوفة أمام تغيير في أوضاع البلد الداخلية وفي علاقاته الخارجية، وإن ليس بشكل سريع وواسع في المراحل الأولى.
والعديد من وسائل الإعلام المعنية سجّلت اهتمام المعنيين في الإدارة الأميركية الحالية ببرنامج الحزب الديمقراطي الياباني، وسعيهم للتدقيق في تفاصيله، للإطمئنان بأنه لا يذهب بعيداً في المطالبة بتوسيع هامش استقلال السياسة الخارجية اليابانية والإبتعاد عن العلاقة الخاصة بالولايات المتحدة. خاصةً وأن المستفيد الأكبر من أي ابتعاد ياباني، ولو محدود، عن الولايات المتحدة، الى جانب شعب اليابان نفسها طبعاً، هو الصين المجاورة، التي تتزايد علاقاتها الإقتصادية مع اليابان ويتزايد التداخل بين اقتصادها واقتصاد اليابان وعموم المنطقة باضطراد، الى حد بات يُشعِر تايوان، التي كانت حتى مطلع السبعينيات الماضية تدّعي تمثيل الصين كلها وكانت تحتل مقعدها في منظمة الأمم المتحدة، ببعض القلق من احتمال ابتعاد اليابان عنها، إرضاءً للصين، وفق ما نقله موقع "تايوان نيوز" على شبكة الإنترنت بتاريخ 16/7/2009.
وهذه المتابعة الأميركية للسياسات المحتملة للحزب الديمقراطي الياباني في حال فوزه في الإنتخابات جعلت قادة هذا الحزب يخففون في برنامجهم الإنتخابي من لهجتهم في مجال الدعوة الى إعادة النظر في المعاهدات الأميركية- اليابانية القائمة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن مفارقات خيارات الحزب الديمقراطي انه، في الوقت الذي يبدو فيه، من هذه الزاوية، أبعد في مجال حميمية العلاقة مع الولايات المتحدة من الحزب الليبرالي، كان يدعو، في الوقت ذاته، الى عقد اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وهي دعوة كانت تزعج قطاعات المزارعين في اليابان، الذين يخشون من منافسة غير متكافئة من قبل السلع الزراعية الأميركية. وهو ما جعل الحزب الديمقراطي أيضاً يخفف من دعوته الى عقد هذه الإتفاقية ويكتفي بالحديث عن مناقشة المشروع.
وأهمية التغيير المحتمل في الطاقم السياسي الحاكم في اليابان لا تكمن في الإختلاف الكبير المتوقع في سياسات الحزبين الكبيرين المتنافسين، كما ذكرنا. بل في كون "وصول الحزب الديمقراطي الى الحكم هو بداية التغيير وليس نهايته"، كما نقل موقع "شينخوا" الصيني على شبكة الإنترنت يوم 12/8/2009 عن المعلق الأميركي على الشأن الياباني توبياس هاريس.
ورهان اليسار في اليابان هنا، وبخاصة الحزب الشيوعي، القوة الأكبر في هذا المعسكر، هو أن تنفتح أمامه فرص جديدة للتأثير على سياسات الحكومة الجديدة، وهي فرص كانت ضعيفة أو غائبة في ظل حكم الحزب الليبرالي. فقد أشار الحزب الشيوعي مثلاً في تصريحات مسؤوليه وفي برنامجه الإنتخابي الى أنه سيدعم توجهات الحزب الديمقراطي لتحسين أوضاع المسنين ما فوق سن الخامسة والسبعين في اليابان في مجال التأمين الصحي، والذين يتعرضون للغبن في ظل سياسات الحزب الليبرالي، كما سيدعم دعوات الحزب الديمقراطي للحد من هيمنة بيروقراطية الدولة المتضخمة التي بناها الحزب الليبرالي طوال نصف قرن ونيّف على قاعدة الولاءات والزبائنية. والمهمة الأخيرة لن تكون سهلة أبداً أمام الحكومة الجديدة، لأن بإمكان الجهاز البيروقراطي الكبير والضارب الجذور أن يعرقل تنفيذ الكثير من السياسات الجديدة، خاصة وأن اليابان، خلافاً للولايات المتحدة ولدول أوروبا الغربية، لم تعرف ثنائية أو تعددية حزبية تتناوب على الحكم وتغيّر بالتالي في جهاز الدولة طوال العقود الخمسة الماضية. فهناك جهاز إداري بناه حزب واحد على قاعدة الولاءات والحسابات الإنتخابية للحزب الحاكم ونوابه، ولن يكون سهلاً إحداث تغيير سريع في بنية هذا الجهاز، وبالتالي تمرير سياسات جديدة من خلاله.
من جانب آخر، أكد الحزب الشيوعي الياباني أنه سيواصل تحركه المناهض لدور الشركات المالية والصناعية الكبرى المهيمنة على اقتصاد البلد والمسيطرة على مقدرات المواطنين ومصادر عيشهم. كما سيواصل الحزب تحركه المناهض لاستمرار التحالف العسكري الأميركي- الياباني. وكلا الموضوعين ليس من المتوقع أن يركّز عليهما الحزب الديمقراطي، بحكم تركيبته السياسية المتنوعة وحساباته اللاحقة للبقاء في الحكم. لكن احتمال تحالف الحزب الديمقراطي مع الحزب الإجتماعي الديمقراطي، الذي أشرنا إليه أعلاه، قد يدفع الحزب الأول الى بعض الترضيات للحزب الصغير الذي يحتاجه لتوفير الأغلبية في البرلمان. وبعض الترضيات المحتملة تتعلق بسياسات إجتماعية ترتبط بالضمانات الصحية وظروف العمل، وبعضها قد يتعلق بالسياسات الخارجية والعلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة.
لكن الطرف الأميركي لن يجعل الأمور سهلة على هذا الصعيد، وسيسعى الى الحفاظ على أعلى درجة من حضور "القوة الناعمة"، كما باتت تسمّى، أي على التأثير على السياسات دون اللجوء الى القوة، وهو أسلوب مارسته الولايات المتحدة مع اليابان ومع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كما تمارسه مع دول أخرى في أنحاء العالم منذ نهاية الحرب العالمية، ومؤخرأً منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، لتوسيع نفوذها الكوني، سواء في آسيا أو في أوروبا، وخاصة الشرقية في العقدين الأخيرين، أو في المشرق العربي – الإسلامي أو مناطق العالم الأخرى.
وهنا، تنفتح، في كل الأحوال، صفحة جديدة في تاريخ اليابان المعاصر. ويبقى أن نرى كيف يمكن أن يمارس اليسار الياباني تأثيره على سياسات البلد في شبكة العلاقات والأوضاع المعقدة التي يعيشها البلد، وفي ظل تنامي دور ونفوذ الجار العملاق، الصين، الذي بات طرفاً يُحسب له حساب، ليس في اليابان وحدها، وإنما في مناطق العالم الأخرى، وحتى في الولايات المتحدة نفسها، التي بات اقتصادها يعتمد، الى حد كبير، على سياسات دول أخرى صاعدة ومؤثرة في عالم القرن الحادي والعشرين، والصين في المقدمة منها.