حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (أخيرة)


يعقوب ابراهامي
2009 / 7 / 10 - 10:06     

في مقدمة لمقال ترجمه عن مجلة "نورثستار كومباس" ونشره في "الحوار المتمدن" يقول حسقيل قوجمان: "نظراً لأهمية المعلومات الواردة (في المقال) وخطورتها إن كانت صحيحة قررت ترجمته ونشره للقارئ العربي" .
هذه ليست المرة الأولى التي يترجم فيها قوجمان مقالاً عن مجلة "نورثستار" , ولكنها المرة الأولى التي يعترف فيها بصراحة أنه يشك بصحة ما يحتويه المقال. ألفت نظر القارئ إلى جملة "إن كانت صحيحة" . لماذا لم يتأكد قوجمان من صحة "الأكاذيب" الواردة في المقال قبل نشره؟ لماذا ترك عبء ذلك على القارئ؟ وماذا على القارئ أن يفعل؟ هل عليه أن يقوم بتحقيق صحفي؟ وإذا ظهر بعد التحقيق إن المقال عار عن الصحة, أناقل الكفر ليس بكافرٍ ؟

جنة عدن على الأرض:
حسقيل قوجمان لا يبدي حذراً مماثلاً تجاه "حقائق" أخرى نشرت في وسائل الدعاية الستالينية قبل أكثر من نصف قرن وهو ينقلها إلى قرائه, دون أن يسبق ذلك ب"إن كانت صحيحة". هو مثلاً يكتب بلا تردد "أن الطبقة العاملة في الأتحاد السوفييتي عاشت حياةً لم يشهد مثلها عامل واحد في العالم كله ". إنتبهوا إلى الدقة في التعبير : "لم يشهد مثلها عامل واحد في العالم كله". أنا شخصياً أعتقد إن القضية هنا هي قضية سياحية بحتة : رحلة واحدة إلى إحدى الدول الأسكندينافية (أنا أقترح السويد) تحل المشكلة.
حسقيل قوجمان يعرف أيضاً ماذا حدث لأقدم مهنة في العالم : "استطاعت الحكومة الأشتراكية القضاء على البغاء أو على أغلبيته لأن الحاجة الأقتصادية انتهت نهائياً من دفع الفتيات إلى ممارسة الدعارة وسيلة للعيش." .
لا أعرف من أين استقى قوجمان معلوماته. أقول فقط: أنا لدي معلومات أخرى ومن "مصادر موثوقة".

نقد ماركسي للنظام الرأسمالي أم كاريكاتور:
حسقيل قوجمان يتمتع بخيال خصب يقوده أحياناً إلى مواقع محرجة, وكل ذلك باسم نقد النظام الرأسمالي.
القطعة التالية لم تؤخذ من الأساطير التي روتها شهرزاد لشهريار في "ألف ليلة وليلة", بل من إحدى مقالات قوجمان في "الحوار" :
"وضعت الدولة الرأسمالية (البريطانية) قانوناً يحرم على العامل الهروب من المصنع . . . فوضعت قانوناً يعاقب العامل الهارب بإعادته إلى المصنع بعد قطع أذنه (!!!) أو وضع حلقة من الحديد حول عنقه (!!!) وفي حالة هروبه مرة ثانية يحكم عليه بالأعدام (!!!!!) " .
خيال خصب. ( نذكر القارئ المذعور إن الحديث هو عن الدولة الرأسمالية الحديثة لا عن عهد القنانة أو العبودية.) ولكن لماذا سكتت شهرزاد عن الكلام المباح قبل أن تخبرنا بما آل إليه مصير هذا العامل المسكين : أنفذ فيه حكم الأعدام ؟ أم استبدل بالأشغال الشاقة المؤبدة ؟ أو ربما اكتفوا بقطع أذنيه فقط؟

أقرأوا الآن نقداً حاداً كالسكين لعلاقات الأنتاج في المجتمع الرأسمالي, بقلم كارل ماركس نفسه، لا يلجأ فيه إلى "قصص مخيفة للأطفال" :
"إن البرجوازية ، حيثما ظفرت بالسلطة ، دمرت كل العلاقات الأقطاعية من كل لون ، التي كانت تربط الأنسان ب"سادته الطبيعيين" ، ولم تبق على أية رابطة بين الأنسان والأنسان سوى رابطة المصلحة البحتة ، رابطة "الدفع نقداً" الخالية من كل عاطفة. وأغرقت أسمى المشاعر الدينية ، والبطولات الفروسية ، والحماس العاطفي ، في ماء بارد من الحسابات الأنانية. وحولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية. وأحلت حرية التجارة الغاشمة وحدها محل الحريات المثبتة والمكتسبة التي لا تحصى. وبكلمة واحدة ، أحلت استغلالاً مباحاً وقحاً مباشراً وشرساً محل الأستغلال المغلف بأوهام دينية وسياسية." (لا آذانٍ مقطوعة ولا أيادٍ مبتورة).

قوجمان لا يتذكر أين ومتى ماتت الملايين جوعاً :
ومما يزيد الطينة بلة إن قوجمان , إضافة إلى خياله الخصب, يبالغ في الأعتماد على ذاكرته, والأعتماد المفرط على الذاكرة, في سننا المتقدم, قد يوقع المرء في مآزق هو في غنى عنها. أنا أعرف ذلك من تجربتي الشخصية. خذوا على سبيل المثال ما يلي:
"يعرف التاريخ على سبيل المثال أحراق الحنطة بدلاً من الفحم في المعامل في الوقت الذي يموت الآلاف والملايين جوعاً لعدم وجود النقود لديهم لشراء القمح المتراكم لدى الرأسماليين".
متى وأين وقع ذلك؟ متى أحرقوا الحنطة بدلاً من الفحم؟ قوجمان "يتذكر" أنه قرأ ذلك في كتب التاريخ. في أي كتاب؟ ما أسم المؤرخ؟ في أية سنة حدث ذلك؟ في أي قرن ؟.
أما "الألاف و الملايين الذين ماتوا جوعاً" فيبدو إن الذاكرة قد خانت قوجمان هذه المرة. أنا أذكره : لقد حدث ذلك في اوكراينا ومنطقة الفولغا في روسيا في الثلاثينيات من القرن الماضي , عندما قتلت المجاعة , التي سببتها سياسة ستالين تجاه الفلاحين (فرض المزارع التعاونية و"تصفية" الكولاك), أكثر من سبعة ملايين أنسان, أضافة ألى عشرات آلاف العائلات المشردة والمهجرة. وفي الوقت الذي مات الملايين جوعاً ، واصلت السلطات الرسمية تصدير القمح إلى خارج البلاد بغية الحصول على العملة الصعبة لتمويل مشاريع السنوات الخمس.

دكتاتورية البروليتاريا:
من مكانه الآمن في عقر "الدكتاتورية الرأسمالية", ومتمتعاً بكل حريات الرأي والتعبير التي تضمنها هذه "الدكتاتورية", يدعو حسقيل قوجمان الطبقة العاملة إلى إقامة الدكتاتورية البروليتارية :

"ويبقى العلاج الناجع الوحيد لأنقاذ البشرية من هذا الداء الفتاك (النظام الرأسمالي) هو العملية الجراحية التي شخصها الطب الأجتماعي ، الثورة البروليتارية، وتبقى الوسيلة الوحيدة لضمان عدم نشوئه مجدداً ، الوسيلة التي شخصها علم الطب الأجتماعي ، دكتاتورية البروليتاريا."
(أنا أعرف أين تعلم قوجمان "الطب الأجتماعي" ، فقد "درسنا" في نفس المدرسة .)

لسنا الآن في مرحلة الدراسة النظرية. نحن الآن بعد "تجربة" تاريخية دامت أكثر من سبعين عاماً. رأينا خلالها كيف تحولت دكتاتورية البروليتاريا ضد الرأسماليين والمستغلين (بكسر الغاء) إلى دكتاتورية الحزب الشيوعي ضد البروليتاريا ، وكيف تحولت هذه بدورها إلى دكتاتورية "السكرتير العام" ضد أعضاء الحزب الشيوعي نفسه . في هذه "التجربة" التاريخية رأينا كيف أن الأنسان الذي حطم أغلاله لأول مرة في التاريخ تحول ، تحت ظل هذه "الدكتاتورية البروليتارية" ، بأجهزتها القمعية ومخابراتها السرية ، إلى إنسان خائف في مجتمع مبني على النفاق والتزلف. كل العالم رأى كيف قضت هذه "الدكتاتورية البروليتارية" على خيرة الشيوعيين ، خنقت حرية التفكير وملأت السجون ومعسكرات الأعتقال ب"أعداء الشعب".
بعد هذه الخبرة القاسية يدعونا ممثل "الماركسية الستالينية" إلى إعادة التجربة ثانية.
بقى أمر واحد لم يشرحه لنا الناطق باسم "الماركسية الستالينية" وهو : كيف سيقيم "دكتاتوريته البروليتارية" في عهد الآنترنيت والتويتر ؟ هل سيبدأ بقطع القنوات الفضائية ؟ أم سيستشير حكام إيران وكوريا الشمالية ليتعلم من خبرتهم؟

كارل ماركس : "لا شيئاً إنسانياً غريب عني" .
جاء كارل ماركس ليحرر روح الأنسان من أكبالها. الجريمة التي اقترفها التيار الستاليني في الحركة الشيوعية ، بحق الطبقة العاملة العالمية ، والتي أدت في نهاية الأمر ألى انهيار الحركة الشيوعية ، هو أنه أخلى الماركسية من محتواها الأنساني. وماركسية بلا محتوى إنساني هي ماركسية ميته ، ماركسية بلا روح ، هي "عقيدة دينية"..

أختم هذه السلسلة من المقالات بملاحظتين :
1. وعدت قرائي القلائل بأن أتحدث عن "حسقيل قوجمان والأنفجار العظيم" . عدلت عن ذلك ، إلا إذا ألح علي قرائي الأعزاء وطالبوني بالأيفاء بوعدي. أستطيع أن أعدهم فقط إن ذلك قد يكون مقالاً ممتعاً.
2. سيكون مدعاة فخري أن يرد حسقيل قوجمان على ما كتبت. أنا أقول هذا بكل صدق ، مع رجاء واحد : أن يكون رده لاذعاً وبلا رحمة.

تعليق على تعليق:
قال النمري (لا فض فوه) : "في تقسيم العمل الدولي أثناء حركة التحرر الوطني كانت وظيفة اسرائيل مقاومة الشيوعية. أنتهت وظيفة اسرائيل فاستاء الأبراهامي كثيراً وأخذ على نفسه إكمال المهمة القذرة. لا أعتقد ان الأبراهامي يجيد غير هذه المهمة."

قال الشاعر العربي : كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها ، وأوهى قرنه الوعل