حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (2)


يعقوب ابراهامي
2009 / 6 / 30 - 10:23     

هل الماركسية علم ؟
لا تخلو مقالة من مقالات حسقيل قوجمان في "الحوار" من الأشارة إلى أن الماركسية "عنم كسائر العلوم" بل هي "علم العلوم" . "الماركسية علم على من يريد أن يكون ماركسياً أن يتعلمه كما هو الحال في أي علم آخر" . ثم يقول : "على من يدرس الماركسية أن يؤمن بها كعلم" .
سأتناول في حلقة قادمة التناقض بين "الأيمان و"العلم" . سأحاول أن أثبت أنهما لا يمكن أن "يعيشا" تحت سقف واحد. سأحاول أن أبين أيضاً أن إصرار قوجمان المتوالي في كل مقالاته , بمناسبة وبغير مناسبة , على "إن الماركسية علم" , إن هو إلا ستار من دخان يخفي وراءه (عن نفسه وعن الأخرين) عقيدة "دينية" بغطاء علماني.
هل الماركسية علم ؟ لن أناقش حسقيل قوجمان في هذا الموضوع لسببين : ألأول هو أن هذا الموضوع الشيق والممتع للغاية يدخل في صلب المواضيع التي تدرس في "فلسفة العلوم" , وليست لي المؤهلات الكافية للأسهام به بصورة جدية (هذا لا يعني أن ليس لي رأي , وسأقوله ).
السبب الثاني هو أن نقاشاً كهذا يجب أن يستند إلى تعريف متفق عليه لما نعنيه بالكلمات : "علم" , "قانون علمي" , "نظرية علمية" , "برهان علمي" , ألخ . كل محاولاتي لمعرفة ما يعنيه قوجمان بهذه الكلمات باءت بالفشل , حتى صرت أعتقد أنه لا يقيم وزناً لمعنى هذه الكلمات. ولكن بدون تعريف دقيق لهذه المصطلحات , يصبح كل نقاش حول ما إذا كانت الماركسية علماً أم لا نقاشاً لا طائل من ورائه .
أضف إلى ذلك , إن الدقة في التعبير ليست من الأمور التي تميز كتابات حسقيل قوجمان بصورة خاصة . أو كما يقول السيد فؤاد النمري في تعليق غاضب على ما كتبته في الحلقة السابقة : "بعض عبارات الرفيق قوجمان تفتقر بعض الدقة" . (إنتبهوا إلى كلمة "بعض" المستعملة مرتين في جملة صغيرة واحدة . نسى فؤاد النمري , واعجباه , "قانوناً ديالكتيكياً" يقول إن "الكم" إذا تراكم يتحول إلى "كيف" ).
إقرأوا الجملة التالية وقولوا لي ماذا تفهمون منها: "الماء ككل الظواهر الطبيعية حركة" . الماء حركة؟ أية حركة؟ أنا لا أقول إن هذه الجملة عديمة المعنى . بل أقول : أنا لا أفهم ما معناها . لعلها , كما يقول النمري , "تفتقر إلى بعض الدقة" .
أو خذوا , على سبيل المثال , جملة أخرى , أقل افتقاراً "إلى بعض الدقة" وأقرب إلى موضوع بحثنا : "الماركسية هي علم دراسة الحركة في الطبيعة وفي جزئها الأنساني , المجتمع" .
قوجمان لا يقول : الماركسية هي علم دراسة الحركة في الجزء الأنساني للطبيعة , أي المجتع . كلا , الماركسية هي علم دراسة الحركة في الجزء الأنساني للطبيعة وفي جزئها اللاأنساني , سواء بسواء , 50% و 50% . الماركسية ليست , كما يعتقد أمثالنا الجهلاء , مجموعة من النظريات والفرضيات في علوم الأقتصاد والأجتماع والتاريخ ( نظريات وفرضيات أحدثت إنقلاباً في تاريخ الفكر البشري) , بل هي علم الفيزياء والكيمياء , علم الحيوان والنبات , إضافة إلى الأقتصاد والأجتماع والتاريخ. أهناك ابتذال للماركسية أكثر من هذا ؟ على هذه التربة نشأت , في عهد ستالين , ملاحقة العلماء السوفييت الذين دافعوا عن نظريات آينشتين "المثالية الرجعية".
( في حلقة قادمة سنروي كيف أن حسقيل قوجمان يأحذ هذا التعريف للماركسية مأخذ الجد وكيف أنه بعد أن "درس" كتاب ستالين حول "المادية الديالكتيكية والتاريحية" يعتقد أنه يعرف عما يجري في معهد الأبحاث الذرية CERN أكثر مما يعرفه علماء المعهد أنفسهم ) .
كل هذا يحول دون إجراء حوار جدي حول الموضوع.
أما رأيي في الموضوع فأنا أميل إلى الأعتقاد بأن الماركسية (بشكلها الستاليني على الأقل) ليست علماً لأنها , كما يقول الفيلسوف بوبر Popper , تفتقر إلى أهم ما يميز النظرية العلمية وهي أن تكون قابلة للتفنيد (Refutable أو Falsifiable ) , أي أن يكون بإمكاننا أن نقول : هذه النظرية خاطئة , إذا كانت النتائج العملية (في المختبر أو في الواقع) مغايرة لما تنبأت به النظرية.
خذوا قانون الجاذبية لنيوتن. هذا قانون علمي لأنه قابل للتفنيد : أقطعوا غصن الشجرة . إذا لم تسقط التفاحة الشهيرة على الأرض فإن هذا يعد تفنيداً لقانون الجاذبية. نظرية الجاذبية لا يمكنها أن تفسر سقوط التفاحة وعدم سقوطها في آن واحد.
أما الماركسية (الستالينية) فهي تفسر الشئ ونقيضه في آن واحد. عبر عن ذلك حسقيل قوجمان جيداً حين قال: إن قيام الأتحاد السوفييتي وانهياره يبرهنان كلاهما على صحة النظرية الماركسية .
وماذا يفعل الستالينيون عندما يجدون إن قوانين النظرية لا تكفي لتفسير الواقع , أو تبرير ما يريدون فعله ؟ "يكتشفون" فجأة قوانين جديدة . هكذا "اكتشف" ستالين "قانون تعاظم الصراع الطبقي كلما تعاظم البناء الأشتراكي" فأعدم خيرة الشيوعيين , وهكذا , مع الفارق , "اكتشف" قوجمان "قانون فناء الضدين" الذي تحدثنا عنه في حلقة سابقة.
باختصار , إذا أردنا أن نأخذ بطريقة الفيلسوف بوبر , على الذين يعتقدون أن الماركسية علم أن يقولوا لنا أي حدث إذا وقع , أو لم يقع , يبرهن على خطأ النظرية الماركسية , أو أجزاء منها. نظرية لا يمكن تفنيدها هي نظرية دينية لا علمية.
( لفت أحد القراء (شكراً لك, محمد) نظري إلى ناحية هامة أخرى تحول دون اعتبار الماركسية علماً , وهي إن العلم بطبيعته موضوعياً , غير منحاز طبقياً , بينما الماركسية بطبيعتها منحازة طبقياً. هذه نظرة هامة الى الموضوع ينبغي دراستها.)
حسقيل قوجمان إذن يعتقد إن الماركسية علماً, وهذا حقه. لست ملماً بآخر التطورات الفكرية بهذا الموضوع , ولكني أستطيع أن أقدر أن نفراً من خيرة المفكرين يشاركونه رأيه هذا. المشكلة هي أن قوجمان لا يكتفي بذلك. حسقيل قوجمان هو "المفكر الماركسي" الوحيد في العالم الذي يقول : "إن الماركسية هي علم دقيق لا يقل دقة عن العلوم الطبيعية الأخرى كالفيزياء وغيرها".
على المرء إن يقرأ ذلك ثانية كي يصدق : "الماركسية لا تقل دقة عن الفيزياء" . نغض الطرف عن التعبير الجميل: "لا تقل عن" . كل من أنهى الدراسة الأبتدائية يعلم أن جملة "لا تقل عن" معناها: "قد تزيد على". هذا يدخل في باب "بعض العبارات التي تفتقر إلى الدقة" . نتغاضى عن ذلك ونتساءل: ترى , هل فتح حسقيل قوجمان كتاب فيزياء مرة واحدة في حياته ؟ هل حاول مرة واحدة أن يحل معادلة رياضية ؟ وما هي معاييره لقياس الدقة ؟ عن أية دقة يتحدث ؟ هل هي الدقة التي يحدد بها العلماء سرعة الضوء وحجم الألكترون ؟ أم هي الدقة التي يكتب بها قوجمان مقالاته الفلسفية الثي "تفتقر إلى بعض الدقة" ؟
هل نحن هنا أمام خطأ مطبعي , زلة قلم , أم إن حسقيل قوجمان يعتقد حقاً إن الماركسية (الستالينية) "لا تقل دقة" عن علوم الفيزياء التي أوصلت الأنسان إلى القمر وأنزلت المركبات الفضائية على سطح المريخ ؟
وحتى يأتينا الجواب نتساءل : ترى , هل أن "أيمان" حسقيل قوجمان المطلق بستالين وبالماركسية الستالينية قد أفقده القدرة على التمييز بين الخيال والواقع ؟ نترك ذلك لحلقة قادمة.