الدرس الثاني عشر في التربية الشيوعية


حسب الله يحيى
2009 / 6 / 30 - 10:14     

في الوقت الذي إنصرف فيه أربعة عوائل لدفن أبنائها : الذين اعدموا فجر يوم 24 / 8 /1964 وهم ( وعد الله يحيى النجار ومحمود التمي وطارق الشهواني وهاشم جعب ) كنت أقبع في سرداب التوقيف الذي بنى في اعلاه مركز شرطة باب الشط في الموصل ..
هناك في الموقف إستقبلني بحفاوة رجل بهي الطلعة وقد عرفت فيما بعد أن إسمه : مثري العاني .
كنت حذراً من وجودي بين الموقوفين .. فقد كانت عائلة العاني في الموصل تصطف في موقع مناويء لما نحمله من أفكار ورؤى .. لكن هذا (المثري) كان ثرياً بطيبة غير معهودة .. فقد عٌني بي وقدم لي الطعام والمنام في سجن يفرط (نزلاؤه) بالاحتفاظ بأصغر شيء ويتنازعون من أجله نزاعاً خشناً ..
وفي وقت يجتمع فيه القتلة والمجرمون واللصوص والمفسدين في الارض مع أولئك الذين جاءت بهم أفكارهم المضيئة الى هذا المكان المظلم المليء بالتناقضات .
لم أكن اعرف التهمة الموجهة لي ، لكنني كنت أحس ان عظامي تتكسر وهناك من يشد ازري ويقدم لي أقراصاً مهدئة وماءاً بارداً .. ويداوي جراحي التي لم يكن بوسعي لمسها ولا رؤيتها .. ذلك انها اصابت أماكن غير مرئية مني ..
كان الوقت صعباً والآتي مكتوم والاسباب مجهولة .. لكن هذا المثري النبيل كان يعرف كل شيء من دون أن يقول لي أي شيء كأنما كان يسعى لأخفاء ما يعلم عن مصابي في اعدام أخي ورفاقه في سجن الموصل فجراً..
كنت أراه يجلس الى جانبي،يحدق في وجهي وكلما فتحت عيناي وجدته على تماس بي وهو يكتم ألماً بان في وجهه وعبر عن حفاوته ومودته وعطفه ..
ومضت أيام لم أكن أعرف عددها على غير مايعهده الموقوف .. ذلك أنني كنت منشغلاً بمعالجة آلام جسمي ومعرفة ما حّل بأخي في ذلك الفجر وما إذا كان الأهل قد تسلموا جثته وواروه تراباً ظل يقدسه ويقدس أهله ..
ما من أحد زارني .. هل نسوني ، وهل نسيتهم ، وهل ألزموهم بنسياني .. لا أعرف !
وعندما إستدعاني صوت بإسمي .. نهضت بمساعدة صاحبي المثري .. الذي همس في أذني ..
- حسيب .. إطمئن معاون المركز إنسان طيب .. لاتخف ، سيساعدك .
لم أجب وإنما نظرت اليه نظرة إمتنان .
إستقبلني المعاون بطريقة ودية ، وطلب لي طعاماً وشراباً .. شكرته وجعلني أطمئن اليه .
- إبني حسيب لاتخف .. سيطلقون سراحك إن شاء الله بعد أيام .. أنصحك .. لاتقل شيئاً امام المحقق .. لاتقل له إنك اندفعت الى الحراس وهاجمتهم وحاولت سحب السلاح منهم .. لا تقل هذا أبداً .. قل له إنك اندفعت عاطفياً نحو أخيك المرحوم .. وبالتأكيد سينظر الى الأمر نظرة إنسانية .
ومضى يقول بفيض من المحبة :
- ابني حسيب عليك أن تفتخر بأخيك ورفاقه .. لقد ذكر الحراس أنه توجه الى المشنقة بشجاعة .. وكان كل واحد من الاربعة يريد أن يسبق صاحبه .. وكأن الواحد منهم سيصعد سلم طائرة ويطير في اجواء بهية .
ونسيت أوجاعي وسالته :
- هل كانوا يريدون الموت بعد ان يئسوا من الحياة ؟
- لا .. لا ابني ، هذا الطراز من الثوار والمعارضين والمبدئيين ، لايريدون أن يضعفوا أمام الموت .. ولا يريدون أن يساوموا الموت على حساب المباديء والافكار التي يؤمنون بها ويضحون من أجلها .
- وكيف كان موقف وعد الله .. ؟
- كان اكثرهم شجاعة ، كان يتقدمهم ويشد ازرهم .. كان الاعدام بالنسبة اليه يعادل الحياة .. كانت الحياة نفسها هي التي ستجعل الآخرين يجدون في تضحيته ورفاقه سبيلاً الى حياة أفضل وأكثر إشراقاً وبهاء وأبهى عطاءً .
كان الرجل متحمساً وينظرني باحترام غريب ويعمد الى أن يقدم لي كل ما بوسعه .. موحياً اليّ بأنني عوض أخي .. او أنه بمثابة حليف صميمي لأخي ، وان مايقدمه لايساوي شيئاً أمام ماقدمه أخي من تضحية .
وعدت وسألته :
- هل كنت هناك لحظة تنفيذ الاعدام ؟
إبتسم إبتسامة حزن وحسرة .. وقال :
- لا .. ولكن كل حراس السجن والسجناء ومدير السجن واللجنة المشرفة على الاعدام .. كانوا يتناقلون ماحدث بكثير من الاعجاب والابهار .. فما حدث بالنسبة اليهم ، كان حالة نادرة لم يألفوها في عمليات الاعدام السابقة التي نفذوها من قبل ..
بقيت صامتاً .. فيما راح يشرح لي موقف أخي وكيف كان يريد أن يتقدم زملاءه حتى يبعث فيهم الشجاعة والاقدام .. وما كانوا أقل منه شجاعة وإنما كانوا صفوة تشترك في البذل والعطاء والتضحية دفاعاً عن قيم ومباديء لايريدون أن يضعفوا أمامها ولا ان تأخذ من كبريائهم وشخصياتهم .
عندئذ وجدت نفسي وأنا أرفع رأسي مفاخراً :
- لماذا أوقفوني أنا .. وليس لديهم إدانه واحدة ضدي..؟
أجابني مطمئناً :
- إبني حسيب .. إطمئن كل ما أرادوه .. الحذر ، الحذر من وقوع فوضى أو اعمال عنف مضادة ..
- وهل كنت أشكل مثل هذا الخطر وهذا الحذر .. ؟
- على كل .. هذا تصورهم ، كانوا يخشون من عوائل الذين تم اعدامهم .. وكان نصيبك أن تكون في هذا الموقف .
لاتخشى شيئاً من التحقيق .. المحقق سيفهم موقفك بالتأكيد ، وسأهمس بأذنه ..
ومن منطلق الفخر قلت :
- أنا لا أتوسلهم ..
- لا .. لا .. إبني لاتندفع هكذا .. الامور تحل بالحكمة .. الموت حق على البشرية جميعاً ، ولكن تجاوز الموت والتعلق بالحياة مسألة تسعد الانسان وتنقله من عالم الى عالم آخر .
أخجلني جوابه وجعلت أبحث في عينه عن إلفة ما ..
إستقبل الرجل نظراتي بحفاوة .. قال :
- إذهب الى مكانك .. سيتم إستدعاؤك ..
وحين استدعاني كان المحقق قد أعد لي السؤال والجواب معاً ..!
أما السؤال فكان : لماذا اندفعت أمام الحرس عند خروج جثة اخيك الذي تم إعدامه .. هل كنت تريد أن تنظر اليه النظرة الاخيرة أم ماذا ؟
وكان الجواب : نعم لم أكن أقصد سوى القاء نظرة أخيرة الى أخي .. كانت محبتي تسبقني اليه ..
سألني : هل انت مقتنع باجابتك ؟
- بالتأكيد .. مقتنع كل القناعة .
- إذن .. وقع .
ووقعت على الاجابة التي أملاها عليّ محقق كان يعرف ان الامر لايتجاوز هذه الحدود ..