حسقيل قوجمان -يؤمن- بماركسية بلا كارل ماركس (1)


يعقوب ابراهامي
2009 / 6 / 27 - 09:46     

كلمة "يؤمن" في عنوان المقال لم يقع اختيارها اعتباطاُ. سأحاول أن أثبت أن حسقيل قوجمان "يؤمن" بالماركسية كما يؤمن رجل الدين (كل رجل دين) بكتابه المقدس: حقائق مطلقة لا تقبل التفنيد ولا سبيل, أو حاجة, للبرهنة على صحتها.
سأحاول أن أثبت كذلك إن "ماركسية" قوجمان هي ماركسية بلا كارل ماركس, لا لأن "المفكر الماركسي" قوجمان, على ما يبدو, لم يقرأ كارل ماركس فحسب, بل لأن "ماركسيته" هي ماركسية جامدة متحجرة ميته, خالية من كل محتوى إنساني, وبعيدة كن البعد عن روح وتفكير ذلك العملاق , الذي يتشدق قوجمان باسمه , والذي كان يقول أن "ليس في الدنيا شيء إنساني غريب عني".
سأحاول أن أثبت كل ذلك بالأستناد إلى مقالات حسقيل قوجمان نفسه في "الحوار المتمدن". ولكني يجب أولاٌ أن أعرف القراء بنفسي.

صديق عزيز: أنا هو "القارئ والصديق العزيز" الذي أشار إليه حسقيل قوجمان في مقالتين نشرتا في "الحوار المتمدن" تحت عنوان "حول انتقادات موجهة إلي" وفي عدد من مقالات أخرى نشرت في مناسبات مختلفة.
صداقة حسقيل قوجمان عزيزة علي. هذه صداقة شدت عراها سنوات طوال قضيناها معاٌ في سجون العراق, في نقرة السلمان والكوت وبعقوبة. كنا شباباُ (بل صغاراُ) متحمسين وحسقيل قوجمان كان لنا قدوة تحتذى (لن أنسى رباطة جأشه وهدوء أعصابه, في تلك الليلة الحالكة في سجن الكوت, حين كنا نعرف, وكان هو أول من يعرف, أنه عنى رأس قائمة المستهدفين برصاص حراس السجن, وأنه لن يبقى حياُ حتى صبيحة اليوم التالي).
بين أضراب عن الطعام ومناوشات مع حراس السجن كنا نتناقش وندرس الماركسية. كان ستالين إلهنا ومرشدنا الأعلى إلى أن وردتنا الأنباء عن خطاب خروشوف في المؤتمر الحادي والعشرين.
أنا أنهيت سنوات سجني الطويلة وانخرطت في صفوف اليسار الأسرائيلي أعمل من أجل تحقيق ما أحلم به: السلام الأسرائيلي-العربي, بعد أن قطعت كل صلة لي بالشيوعية "الستالينية" على أثر احتلال براغ على أيدي القوات الروسية.
أما حسقيل قوجمان فقد حرره الشعب العراقي في ثورة تموز, وبعد محن وعواصف شتى (لست ملماً بها) حطت به الرحال في آخر المطاف في أحدى معاقل الرأسمالية (لندن) يكتب من هناك عن فظائع الدكتاتورية الرأسمالية ومآثر الدكتاتورية البروليتارية. (أما لماذا فضل الأقامة في انجلترا (الدولة الرأسمالية) على العيش بحرية ورخاء في دولة ديمقراطية شعبية (كوريا الشمالية, مثلاُ), فهذا سرٌ لا ندركه.)
قبل أكثر من سنة عثرت صدفةً على موقعه في "الحوار المتمدن". فرحت للصدفة السانحهة لمواصلة نقاش أنقطع منذ حوالي خمسين عاماً. وبدأت بيننا سلسلة من الأتصالات: أنا أكتب له رسالة شخصية وهو يجيبني على صفحات "الحوار". كنت في الواقع أحاول أن أجد حلاً للغز أشغلني ولا زال يشغلني كثيراً : كيف يستطيع إنسان عاقل, يشهد الجميع على قابلياته الفكرية, أن يبقى "ستالينياً" , بل ويفخر بذلك , رغم كل الذي انكشف ؟ ولذلك عندما اقترح علي أن ننقل نقاشنا إلى صفحات "الحوار" رفضت , لا لأنني "زعلت" كما ظن , بل لأنني لم أعتقد إن ذلك سيساعدني على حل "اللغز" . وإذ "أستجيب" اليوم لطلبه فلأني أدركت أخيراً أن ليس من حقي أن أبقي له الكلمة الأخيرة . وماذا سيقول اصدقاؤنا المشتركون القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة ؟ (هذا ناهيك عن "كبريائي" المجروحة حين اتهمني بالجهل : "إن صديقي لا يعرف معنى كلمة مادة" . يبدو إن حسقيل قوجمان قد نسى , ضمن ما نسى , إنني أنا الذي ترجمت في السجن , من اللغة الفرنسية , كتاب بوليتزر عن الفلسفة , ولذلك ليس من المعقول أن لا أعرف معنى كلمة مادة ) .

ملاحظة أخيرة : كل "الأقتباسات" (الموضوعة بين قوسين) هي من كتابات حسقيل قوجمان في "الحوار المتمدن" إلا إذا ذكر خلاف ذلك. أنا لا أشير إلى كل مقالة بعينها كي لا أضجر القارئ.

ونبدأ بالسؤال التالي:
هل "المفكر الماركسي" حسقيل قوجمان قرأ كارل ماركس ؟ هذا سؤال غريب عندما يوجه إلى من يصف نفسه , ويصفه الآخرون , بالمفكر الماركسي . ولكن أموراً عديدة تدفع إلى الأعتقاد أن قوجمان لم يقرأ كارل ماركس (هذا , طبعاً , إذا كنا لا نريد أن نقول : قرأ ولم يفهم) .
إليكم ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:
1. يقول حسقيل قوجمان : " ألأسم الأول الذي أطلقه كارل ماركس عنى الماركسية هو الأشتراكية العلمية ." " إن ماركس لم يطلق على نظريته اسم النظرية الماركسية إنما أسماها ألأشتراكية العلمية ."
أنا أتحدى حسقيل قوجمان أن يجد في كل كتابات كارل ماركس إشارة واحدة , واحدة فقط , إلى مصطلح "الأشتراكية العلمية" . فمن أين اخترع ذلك ؟
2. يقول حسقيل قوجمان : " لاحظ كارل ماركس إن هذه القوانين الديالكتيكية تسري على تطور الطبيعة والمجتمع فاقتبسها من هيغل وطبقها على المجتمع والمادة . "
ليس في الجملة السابقة كلمة صحيحة واحدة , بل أكاد أقول إن حسقيل قوجمان يفتري هنا على ماركس.
لا أستطيع أن أجزم أن ماركس لم يستخدم أبداً مصطلح "قوانين الديالكتيك" في كتاباته . أنا شخصياً لم أقرأ له ذلك في أي من كتاباته. ولكني لم أقرأ كل كتابات كارل ماركس . وعلى حسقيل قوجمان , الذي ينسب هذا إلى كارل ماركس أن يقول لنا , إذا كان يريد أن نصدقه , أين ومتى استخدم ماركس عبارة "قوانين الديالكتيك" . أعتقد إن هذا ليس بعسير على "مفكر ماركسي" قرأ كارل ماركس .
وعلى كل حال , إذا كان ماركس قد استخدم أحياناً عبارة "قوانين الديالكتيك" (وهذا كما قلت مشكوك فيه ) فإنه , على أغلب الظن , لم يستخدمها بالشكل الذي يستخدمها فيه قوجمان. (في المقدمة ل-"الرأسمال" يتحدث ماركس عن طريقة التحليل الديالكتي لا عن "قوانين الديالكتيك" ) .
هذا أولاً . أما ثانياً فإن حسقيل قوجمان يزعم أن كارل ماركس طبق "قوانين الديالكتيك" على المادة. لا على المجتمع فحسب , بل "على المجتمع والمادة" . كل إنسان يعرف القراءة يفهم بأن المقصود بكلمة "مادة" هنا هو الطبيعة الجامدة , أو غير الحية , (كالماء والهواء والألكترون الخ) . هل يستطيع "المفكر الماركسي" قوجمان , الذي قرأ وفهم كارل ماركس , أن يجيء لنا بمثل واحد فقط طبق فيه ماركس "قوانين الديالكتيك" على المادة ؟ لماذا يفتري على كارل ماركس إذن؟ إن ماركس كان إعقل من أن يطبق "قوانين ديالكتيكية" على المادة . (مثالاً رائعاً على تطبيق "قوانين الديالكتيك" على المجتمع والمادة أعطانا حسقيل قوجمان نفسه , في إحدى مقالاته الأخيرة , حين أثبت , إن كنت قد فهمته جيداً , إن تحول الماء إلى بخار , في درجة حرارة معينة , دليل على الدور القيادي للطبقة العاملة . وبهذا برهن على أن الورق الألكتروني , شأنه شأن الورق الأعتيادي , يحتمل كل ما يكتب عليه .)
3. يقول حسقيل قوجمان : " ثمة قانون من القوانين الديالكتيكية قليل الذكر . . . قانون يسمى "قانون فناء الضدين" "
في أي كتاب من كتب ماركس وجد "مفكرنا الماركسي" هذا القانون ؟ يقول إن "القانون" قليل الذكر . أي إنه قد ذكر أحياناً . أين؟ ومن؟ ومتى؟ أمن المحتمل أن "قانون فناء الضدين" هو من اختراع حسقيل قوجمان نفسه وتواضعه هو الذي دفعه إلى أن ينسبه إلى مؤسسي الفكر الماركسي ؟ ولماذا اكتفى بهذا القانون الواحد فقط ؟ أنا أكتشفت "قانون فناء الضد الواحد" و "قانون فناء الضد الثالث" و "الرابع" وهلمجرا .
نكتفي هنا بهذا القدر. وفي حلقة قادمة سوف نتساءل : هل الماركسية علم ؟ وهل يميز حسقيل قوجمان بين الخيال والواقع ؟