عن علمية الماركسية مرة أخرى


حميد باجو
2009 / 6 / 25 - 10:10     

نشر عذري مازغ مقالا في موقع "الحوار المتمدن" تحت عنوان "في علمية الفكر الماركسي"، يرد فيه على بعض ما كتبته سابقا في نفس الموضوع. و من جهتي أعتبر هذه فرصة مرة أخرى لمتابعة النقاش حول قضايا حساسة طالما وقع سوء تفاهم بشأنها بيننا كيساريين، لذلك أطلب من الرفيق مازغ أن يسع صدره لما سأرد به عليه من اعتراضات وتفكيك لما أورده في مقاله، علما أني لا أدعي امتلاك الحقيقة أو التخصص في الموضوع، أكثر ما هنالك مجموعة من الأفكار كونتها عن الماركسية منذ أن بدأت أحتك بها بداية من أواخر السبعينات من القرن الماضي.
1
أول ما أثارني في المقال أعلاه، هو تلك الثقة العمياء التي يتحدث بها مازغ، وكأن ما يقوله هو الحقيقة بعينها وغيره مجرد هرطقة أو ادعاءات إيديولوجية يروجها "خصوم الطبقة العاملة". وللاستئناس فقط، يصادف هذا وأنا أقرأ الآن عن الصراعات الفكرية القديمة في الإسلام، وكم تعجبت أن تكون نفس الطريقة في الكلام ونفس الإطلاقية في الأحكام هي ما كان يطبع عددا من الفرق الكلامية آنذاك، وخاصة من بين الخوارج المتعصبين لمذاهبهم كالأزارقة مثلا، والذين وصلوا إلى حد تكفير من يعارضهم حتى في بعض التفاصيل الفرعية، تماما كما يفعل بعض ماركسيينا اليوم من تخوين واتهام بالتحريفية في حق كل من خرج عن مذهبهم الضيق. فهذه اليقينية والحتمية في النظر والتفكير أو ما يطلق عليه عموما: الدوغمائية، هو ما كان سببا في ابتعادي عن الماركسية اللينينية بعد أن تحمست لها في شبابي، وهو ما بقيت أنتقده دائما عند أصدقائي الماركسيين.
يبدأ مازغ مقالته ب"الفكر الوحيد الذي بقي يقاوم وبشراسة غير معهودة هو الفكر الماركسي ..." ، ولست أدري لماذا هو يحصر هذه المقاومة في الفكر الماركسي وحده، وإلا ماذا سنقول مثلا عن الفكر الأصولي الذي لا زال فارضا نفسه لحد الآن ولا زال أصحابه يستميتون في الدفاع عنه حد الانفجار، وماذا نقول عن الفكر الليبرالي الذي إن تناقشت مع أصحابه لن تزحزحهم ذرة عما يعتقدونه أنه الصواب، وقس على ذلك كل الأنساق الفكرية وكل الإيديولوجيات الأخرى، التي لكل واحدة منها أتباع يستميتون من أجلها بنفس القوة والإيمان الذي يستميت به الماركسيون من أجل ماركسيتهم.
ثم يستمر: " كم المرة التي أعلن فيها نهاية التاريخ كنتيجة حتمية لإقبار هذا الفكر لينهض من جديد من تناقضات الرأسمالية ..." . وإذا كان هذا الأمر صحيحا، أينسى مازغ بأن هذا نفسه ما يفعله الماركسيون في كل مرة وهم يعلنون عن موت الرأسمالية، وذلك منذ تجربة كومونة باريس وثورة أكتوبر وأزمة 1929 ....، لكن التاريخ كان دائما يخيب ظنهم لتعود الرأسمالية أكثر عنفوانا واندفاعا. بل أن مازغ ها هو يعاود الكرة مرة أخرى ويعلن بدون تحفظ: "لقد استنفذت الرأسمالية كل إمكان صيرورتها" ، وأنها لم تعد " تستطيع التكيف مع الأزمات" وأن ها هو "التاريخ معلنا نهاية المجتمع الرأسمالي الذي استنفذ كل إمكاناته ... ". دائما نفس الإطلاقية والمنظور الحتمي للتاريخ. فمن الذي خول له أن يطلق هذه الأحكام ويجزم بنهاية الرأسمالية؟ أيقبل مازغ – ولو على صعيد الدعابة أن نتراهن بيننا على أن ذلك لن يحدث، ونعود بعد عشر أو عشرين سنة لنرى من منا سيربح الرهان؟- أليس ما يقوم به هنا هو عينه النبوءة بالغيب التي ينفيها عن الماركسيين؟
يستمر مازغ في دحض فكرتي عن الحلم أو الطوبى، باعتبارها اشتراكية إصلاحية غريبة حتى عن مؤسس الاشتراكية الديمقراطية برنشتاين. ثم يضيف وأنها تعوض علمية الماركسية بجدوى الانتخابات، غير أنه يسقط مباشرة في التناقض حين يعتبر ذلك أنه نضال بالوكالة عن الآخرين. فكيف يعقل أن يكون ذلك بالوكالة عن الآخرين وهي تقوم على انتخابات يستشار فيها بالضبط هؤلاء الآخرون ليقرروا بأنفسهم في مصيرهم ويختاروا ما يشاءون من أنظمة اجتماعية؟ من الذي يناضل حقا بالوكالة عن الآخرين؟ أليس هم بالضبط الماركسيون اللينينيون الذين يجعلون من أنفسهم الطليعة البروليتارية والثورية في المجتمع، حتى ولو لم توجد أحيانا هذه البروليتاريا في الواقع، ويفرضوا النظام الاشتراكي الذي يعتبرونه أنه الأصلح للآخرين؟ من الذي يخول لهم هذا الاحتكار للكلام باسم ونيابة عن الشعب، إن لم يكن ذلك الوهم الذي اسمه علمية الماركسية؟ ومن الذي يميز هذا الادعاء بالعلمية عن ادعاءات أصحاب الإيديولوجيات الأخرى، أو ادعاءات فقهاؤنا القدامى مثلا حين يعتبرون أن علمهم الإلهي هو العلم الوحيد الصحيح وغيره كله زيف وسطحية؟
2

هنا نصل إلى جوهر الموضوع الذي كان الأصل في انطلاق نقاشنا، وهو عن علمية الماركسية.
على هذا المستوى، أتمنى لو أننا نتفق مسبقا على مفهوم العلم والعلمية، حتى نكون في نقاشنا نتكلم عن نفس الشيء، وإلا استحال التواصل والتفاهم بيننا.
ففي اعتقادي – وإن كان لمازغ رأي مخالف أتمنى أن يوضحه لي- أنه يجب أن نميز بين العلوم الطبيعية والرياضية الحقة وبين العلوم الإنسانية. وأن نتفق أن الحقيقة في العلوم الأولى هي حين يحصل الاتفاق بين كل العلماء على أنها كذلك، وأي واحد منهم له رأي مخالف يكفيه أن يقدم دليلا واحدا مضادا حتى لا تبقى حقيقة علمية. ولكن لا يجب أن نخلط هنا بين الحقيقة العلمية وبين النظرية العلمية التي هي ليست في آخر المطاف سوى تركيب من عدة حقائق علمية، تسعى لأن تقدم رؤية اشمل أو تعمم ما تم التوصل إليه على مستوى حقائق متفرقة. ولذلك فهي قد تدمج حين بنائها معطيات غير متأكد منها بعد، وتنتظر الاختبار والتجريب حتى تصبح مقبولة نهائيا. أي أن النظرية هي في آخر المطاف نوع من الفرضية القابلة للدحض كما هي قابلة للتأكيد، ثم هي متطورة ونسبية في حقيقتها بحسب السياق الذي توضع فيه. فنظرية نيوتن في الفيزياء لا تكون صالحة إلا في إطار الزمن الثابت، وإلا هي تصير نسبية مع أينشتاين إن تحرك الزمن. أما عن مثال نظرية الانفجار العظيم التي أوردها مازغ، فتلك مجرد فرضية لحد الآن، تصورها أصحابها انطلاقا مما تم رصده إلى هذه اللحظة عن تطور الكون منذ حوالي 14 مليار سنة، ثم قاموا بإسقاط تلك الطريقة في التطور على المرحلة ما قبلها، فافترضوا أن الكون بدأ قبل ذلك بحوالي مليار سنة، انطلاقا من انفجار نقطة مركزة من الطاقة. أي أن ما هو حقيقي في هذه النظرية لحد لآن هو فقط اتجاه تمدد الكون وتحول الطاقة إلى نجوم ومجرات. أما ما قبل ذلك فهو مجرد تخمينات بما فيه حدوث الانفجار نفسه أو إمكانية وجود أكوان أخرى، أو إمكانية التكون والموت الدوري للكون .. الخ.
فإذا كانت هذه الصعوبات كلها تعترض إثبات شرط العلمية في العلوم الحقة نفسها فما بالك، في العلوم الإنسانية ومن بينها الماركسية؟ ولا أعتقد أن مازغ يختلف معي أن أي واحد من هذه العلوم الأخيرة، قد يصمد أمام شرط العلمية أعلاه. إذ ليس فقط يمكن إيجاد مثال واحد مخالف، بل أنه دائما توجد العشرات من الأمثلة المخالفة لدحض أية نظرية تنتمي إلى هذه العلوم. لهذا ظهرت طريقة أخرى لتحديد درجة علمية هذه العلوم الأخيرة، وهو اعتماد الحقائق الاحتمالية المبنية على الإحصائيات، بحيث كلما ارتفعت نسبة تحقق فرضية ما أو ادعاء ما بالحقيقة، كلما اقتربت هذه الأخيرة من العلمية، ونؤكد هنا على لفظة: اقتربت، لأنه يستحيل مطلقا الوصول إلى الحقيقة الكاملة في هذا المجال. وكمثال على ذلك أن تدعي المادية التاريخية أن البنية التحتية هي التي تحدد البنية الفوقية، فذلك ما يجب أن نتأكد منه من خلال دراسات عينية متعددة، وإذا ما تجاوزت الحالات التي تظهر عكس هذا الادعاء، بالمقارنة مع الحالات التي تؤكده، سنحكم بلا علمية هذه المادية التاريخية، أما إذا ثبت العكس فسنقول أن هذه الأخيرة تمتلك درجة من العلمية أو المصداقية.
من هنا جاء مفهوم النسبية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية، ولم يعد ممكنا أن نتكلم عن الإطلاقية والحتمية، وأنا حين استعملت لفظة: يصلح التي لم يستسغها مازغ، فلكي أبين فقط أن منهج المادية التاريخية أو المادية الجدلية قد يصمدا في عدد من الحالات، أي في ظروف معينة، أمام اختبار الدراسات العينية، ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق دائما، ولذلك نكون مضطرين لاستعمال مناهج أخرى تطورت خارج الماركسية. وكمثال على هذه النسبية كما سبق وأن تساءلت مع مازغ، إذا كانت البنية التحتية هي التي تحدد شروط البنية الفوقية، فلماذا نجحت الثورة الاشتراكية في روسيا الإقطاعية وفي الصين الفلاحية، ولم تنجح في بريطانيا الصناعية أو في أمريكا كما تنبأ بذلك ماركس؟
بل للإضافة هنا، أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة قد ثبتت استحالته ليس فقط في العلوم الإنسانية، ولكن حتى في العلوم الطبيعية نفسها. فكل متتبع يعرف المأزق الذي وصلت إليه فيزياء الكوانتا في عشرينيات القرن الماضي على هذا المستوى، حين أراد الفيزيائيون قياس سرعة الجسيم وفي نفس الوقت تحديد موضعه، فوقفوا عاجزين عن ذلك، وأعلن هايزنبرج من خلال نظريته حول اللايقين، أن كل ما يمكن التوصل إليه في هذا المجال هو معرفة احتمالية وليس أبدا معرفة يقينية.
غير أن الغريب على هذا المستوى أن بعض ماركسيينا، وهم يرفضون أي طعن في علمية المادية الدياليكتيكية، يتناسون أن انجلز وهو يطور هذا المنهج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالتعاون مع ماركس، كان يقوم بذلك وهو يعتمد أو على اطلاع تام على آخر الاكتشافات العلمية في عصره، وبالخصوص ما توصل إليه ماكسويل في نظرية الديناميكية الحرارية أو داروين في نظرية التطور، فكيف لا يقبل هؤلاء على الأقل الاحتذاء بانجلز بالاستمرار في تطوير مناهجهم عبر الاستيعاب الجيد والاطلاع على آخر ما يستجد في الحقول العلمية المختلفة؟ هل يستطيعون الإجابة مثلا عن هذا التناقض الذي ظهر واضحا بين فكرة اللايقين في الفيزياء المعاصرة وفكرتهم عن الحتمية التي لا زالوا يسجنون بها ماديتهم الدياليكتيكية؟ وربما يكون أول واحد من الماركسيين الذي فطن لهذا المأزق الذي بدأت تدخل إليه الماركسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، هو برينشتاين الذي كان شاهدا على التمزق الذي دخلته الفيزياء آنذاك بعد تداعي النظرية الذرية القديمة التي اعتمدها نيوتن في أساس فيزياءه الميكانيكية، وانقسام الفيزيائيين بين أنصار مذهب الموجة الطاقية وأنصار مذهب الجسيمات. وربما أن الذي استغوى برينشتاين أكثر هو المذهب الأول، لذلك ارتأى هو من جانبه أيضا أن المهم في الماركسية هو الحركة والثورة، أو ما يقابل الموجة في فيزياء عصره، وليس اقتراح أو بناء المجتمع البديل. ولهذا السبب بالضبط اتهم بالتحريفية من طرف رفاقه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني.
3
معضلة الحتمية هذه تظهر أكثر عند الماركسيين في منهج المادية التاريخية المقدس عندهم. فكما هو معروف أن الفضل الأول في ظهور هذا المنهج إنما يعود لهيجل، الذي كان السباق إلى بلورة تصور تقدمي عن التاريخ، باعتباره يسير في خط تصاعدي ينقله من مرحلة إلى أخرى أعلى منها، حتى يصل في النهاية إلى تحقيق الفكرة المطلقة، بشكل حتمي ولا رجعة فيه. أما ما أضافه ماركس هنا، وهو ما يمكن اعتباره قمة إبداعه النظري، أن فسر هذا التطور في التاريخ ليس كنتيجة لجدال بين الأفكار، وإنما كحصيلة للصراعات الاجتماعية التي تدور رحاها في الواقع المادي ما بين المستغلين والمستغلين. غير أن ماركس وهو يكشف عن كيفية تطور التاريخ في المراحل السابقة، ساير التصور الشائع في عصره، أن قام بإسقاط تلك الكيفية نفسها على المستقبل، ومن تم استنتج أنه مادام أن الأساس الاقتصادي، أو بالأحرى العلاقات الانتاجية القائمة على الملكية الخاصة هي الأصل في هذه الصراعات، فإن الطبقة الجديدة البروليتاريا، ستنجح حتما في إلغاء هذه الملكية، وبالتالي تحقيق المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات ومن الاستغلال. فماركس قد احتفظ إذن بنفس فكرة هيجل القائلة بالحتمية، وفقط هو أبدل صراع الأفكار بالصراع المادي، وأبدل تحقيق الفكرة المطلقة بتحقيق المجتمع الشيوعي. وللإشارة، أن هذه الحتمية التي يتشارك فيها كل من ماركس وهيجل، إنما كانت نتاج في تلك المرحلة، للباراديغم المعرفي الكبير الذي أطر كل فكر القرن التاسع عشر، وهو تصور نيوتن الميكانيكي للكون وكأنه ساعة كبيرة كل حركاتها مضبوطة بدقة ولا مجال فيها للصدفة أو العشوائية. وماركس لم يقم في تصوره عن الحتمية التاريخية إلا بترجمة هذا الباراديغم المعرفي الذي تربى في حضنه، وهو شيء طبيعي لأن ماركس لا يمكن إلا أن يكون ابن عصره.
المشكل إذن ليس عند ماركس، ولكن عند الماركسيين الذين جاؤوا بعده، أنه في وقت كان يجب عليهم استيعاب الاكتشافات العلمية الجديدة لبداية القرن العشرين، وخاصة نظرية أينشتاين حول النسبية و نظرية فيزياء الكوانتا، والعمل على تطوير مناهجهم على ضوءها، وهو ما كانت ربما تظهر بعض بوادره مع برينشتاين أولا ثم كاوتسكي، سقطوا تحت إغراء إيديولوجيا الثورة التي روج لها آنذاك لينين وأصدقاءه البلاشفة. أو بعبارة أخرى، أن الماركسيين في تلك اللحظة، عوض أن يستمروا من حيث ما انتهى إليه ماركس وانجلز من نضج علمي، اختاروا أن يرجعوا مع لينين إلى الوراء، وهو يواجه إشكاليات كانت قد تجاوزتها أوروبا آنذاك، وهي الإشكالات التي كان قد واجهها ماركس وانجلز في النصف الأول من القرن التاسع عشر. أو بتعبير ألتوسير، أنهم انحازوا إلى جانب ماركس الإيديولوجي الشاب عوض ماركس العالم الشيخ. بل وحتى لما بدأت التجربة السوفياتية تنضج وتطرح إشكالات جديدة، هي إشكالات الدولة وليس إشكالات الثورة، فضل تروتسكي مثلا الاستمرار في منطق الثورة بدعوته إلى الثورة الدائمة، واختار آخرون العودة من جديد إلى نقطة الإنطلاقة مع ماو في ثورته الصينية الفتية. وكأنه يبدو أن البعض لا يريد أن يتعامل مع الماركسية إلا كنظرية للثورة وليس نظرية لبناء الدولة، وهو ما يجسده جيدا نموذج شي غيفارا في أمريكا اللاتينية. وإلا بماذا نفسر مثلا عجز كل الماركسيين عن تفسير لماذا لم ينجح أي نموذج لبناء الدولة الاشتراكية لحد الآن، ومن ذلك ما هذا الذي يحدث في الصين حاليا من تحول ممنهج نحو الرأسمالية بقيادة الرفاق في الحزب الشيوعي الحاكم؟
4
هل نستخلص هنا أن الماركسية في صورتها التقليدية التي يفهمها بها البعض، لا يمكن أن تكون غير نظرية أو إيديولوجيا للتغيير وللثورة وليست نظرية لبناء النظام البديل، ما دام أن كل الأنظمة التي بنيت باسمها لحد الآن قد فشلت، من النظام السوفياتي إلى النظام الصيني؟ بل هل نستنتج أكثر من هذا، أن حتى ما نجحت فيه كثورة هو فقط لتحقيق الانتقال من مجتمع ماقبل رأسمالي إلى مجتمع رأسمالي، كما حدث في روسيا أو الصين؟
وإني لأتساءل هنا بصراحة، إن كانت الماركسية في صيغتها التقليدية، قد بقيت لها أي قدرة للتأثير في المجتمعات المتقدمة، فنحن شاهدنا مثلا كيف سار ذلك المسلسل من التراجع في أوروبا ، من فكرة الثورة منذ فشل محاولة كومونة باريس، إلى الاشتراكية الديمقراطية الانتخابية مع الأممية الثانية، إلى الأوروشيوعية مع الأممية الثالثة، إلى قرب اندثار آخر ما تبقى من الأحزاب الشيوعية في السنوات الأخيرة. وإذا كان البعض سيعترض على هذا الكلام بالإحالة على المحاولات الجديدة لإعادة بناء يسار بديل، حركة بيزيسنو كمثال، فإني لأتساءل إن كان لذلك أية علاقة بالماركسية القديمة، وإن لم يكن كل ذلك يترجم أشكالا جديدة للمقاومة يتم إبداعها من خارج الإطار الماركسي التقليدي، وإن بالإحالة عليه من بعيد؟
فهل الماركسية إذن لم تعد تنتعش إلا في البلدان المتخلفة، تلك التي لم تنجز انتقالها بعد إلى الرأسمالية، أو ما يسميه البعض بالثورة الوطنية الديمقراطية؟ أتذكر هنا في حديث مع رفيقة ماركسية وهي تشيد بنجاح الثوار الماويين في النيبال، علقت علي حديثها إن كان لذلك أية أهمية ما، بالنظر إلى أن ذلك البلد هو من أكثر بلدان العالم تخلفا، و أن أقصى ما يمكن أن يحققه هؤلاء الثوار لبلدهم هو أن ينقلوه من عصر الإقطاع إلى عصر الرأسمالية والانفتاح على جيرانه الصين والهند.
لكن الرفيق مازغ يستشهد في مقاله بما يحدث حاليا في أمريكا اللاتينية وبفنزويلا بالخصوص، من عودة قوية للفكر الاشتراكي. وهذا ما أتفق معه فيه، وأؤكد أن هناك شيئا مهما يتبلور بالفعل في تلك المنطقة علينا كيساريين مغاربة أن ننتبه إليه جيدا. لكن مع ذلك وجب عدم التسرع أو تعميم الأحكام بالنسبة لكل دول المنطقة. ففنزويلا ليست هي البرازيل أو بوليفيا أو الشيلي ... و تشافيز بما يملكه من ريع بترولي وافر قد يستطيع أن يحمي تجربته من الضغوط الخارجية لمدة أطول، وهو هنا يشبه في أحد الجوانب تجربة القدافي في منطقتنا، لكن السؤال يبقى مطروحا بالنسبة للبرازيل أو بالخصوص بوليفيا الفقيرة. ففي البرازيل وبالرغم من حرصه على تحقيق توزيع أكثر عدالة، وجد سيلفا دا لولا نفسه مضطرا لمهادنة كبار الملاكين والبرجوازييين في بلده، وكذلك مراكز الهيمنة العالمية، وهو ما أثار عليه غضب بعض من رفاقه الماركسيين. ولا شك أن الأمر هو أكثر تعقيدا من ذلك بالنسبة لبوليفيا، والتي قد ننظر إلى تجربتها باعتبارها المقياس الحقيقي لمعرفة مدى قدرة بلد من العالم الثالث على الصمود في وجه ضغوطات النظام العالمي المهيمن. قد تتوفر لهذا البلد فرصة أفضل لو تقدم حلفاءه على طريق خلق منطقة اقتصادية مشتركة، وآنذاك سيكون لمجموع دول المنطقة القدرة أكثر على الصمود، وربما فرض تغييرات حتى على بعض آليات اشتغال النظام العالمي ككل. لكن حتى لو افترضنا إمكانية تحقق ذلك، فإلى أي حد يمكن أن تذهب هذه التغييرات؟ هل ستستطيع هذه الأنظمة اليسارية الجديدة اجتثاث كل أثر لعلاقات السوق أو علاقات الانتاج الرأسمالية، أو أنها لن تصل إلى أكثر من تحقيق عدالة اجتماعية أفضل مما هو موجود، بقطاع عام نشيط وخدمات عمومية للجميع لكن بجانب قطاع رأسمالي يشتغل تحت مراقبة الدولة؟ أو بعبارة أخرى هل ستصل إلى حد إنجاز المشروع الاشتراكي الذي بشر به الماركسيون الأوائل، أم أن مهمتها تنتهي فقط عند إنجاز المشروع الوطني الديمقراطي؟ وإن كنت أرفض من جهتي كل ادعاء بالقدرة على التنبؤ حول المستقبل، أذكر فقط أن مثل هذه الإمكانية كان قد توفر أفضل منها في السابق لما كانت الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي قوية وتمثل ندا حقيقيا للمعسكر الرأسمالي.
5
لا أريد وأنا أثير التساؤلات حول مدى قدرة تجارب أمريكا اللاتينية على الصمود أمام ضغوطات النظام العالمي المهيمن، أن يفهم من كلامي أني أحسم الأمر لصالح هذا الأخير أو أستسلم لنظرية نهاية التاريخ و أبدية الرأسمالية. فأنا مقتنع بأن التغيير لا بد وأن يحدث، وأن العالم سيمر بالضرورة إن عاجلا أو آجلا إلى محطة أعلى في تطوره، لكن ما أختلف فيه مع دعاة الحتمية الماركسية، هو عن ما هي طبيعة تلك المرحلة القادمة، هل هي الرأسمالية نفسها في صيغة جديدة، هل هي الاشتراكية كما تصورها الماركسيون، أم أن تكون نوعا آخر من النظام الاجتماعي لا نعرف عنه شيئا لحد الآن؟
ولمعرفة مدى صعوبة ذلك لنأخذ شخصا من العصور الوسطى، فهل كان سيخطر على باله أن تكون الرأسمالية هي التي ستهيمن على العالم في المستقبل؟ إن هناك ما يعرف بنظرية الانبثاق في الطبيعة والتاريخ، حين يظهر شيء جديد يستحيل أن يتنبأ به أحد من قبل. وبالرغم من الحجج التي يقدمها البعض من أننا الآن نملك الكثير من المناهج العلمية ، بما يمنحنا قدرات أفضل للتنبؤ بالمستقبل، فقد أشرت أعلاه إلى حدود كل تلك المناهج، بما فيه المادية التاريخية. وفي اعتقادي أنه بعكس ما تذهب إليه الحتمية التاريخية عند هيجل أو ماركس، كل ما نستطيع أن نقوم به نحن، هو أن نتصور انطلاقا من المعطيات المتوفرة لدينا الآن، أكثر السيناريوهات احتمالا للتحقق في المستقبل، ومن بين هذه السيناريوهات نختار نحن اليساريون أقربها إلى قناعاتنا وقيمنا، فنتعبأ حولها ونناضل من أجل تقوية احتمال تحققها، رابطين ذلك بالفكرة التي نتصورها نحن عن مجتمع المستقبل أو بالحلم والطوبى التي لا زال مازغ لم يستسغها بعد.
كل ما أعرفه الآن أننا نعيش في ظل نظام رأسمالي مهيمن، ليس لأي بلد القدرة على الانفلات منه لوحده، بحسب ما أشرت إليه في إطار النظرية العامة للأنظمة. أن نسميه امبريالية أو عولمة أو أي شيء آخر لا يغير في شيء. لكن أذكر هنا مازغ أني تكلمت عن قدرة البلد الواحد وليس عن قدرة المجتمع البشري ككل، أي إنه إذا ما تظافرت جهود أكبر ما يمكن من القوى المناهضة للرأسمالية في العالم، فبإمكانها آنذاك أن تحدث تغييرا في هذا النظام، وتدفعه إلى أن يتحول إلى شيء آخر غير الرأسمالية لا نعلم ما ستكون طبيعته. وهذا ما أشرت إليه من قبل، أنه في ظل هيمنة عالمية شاملة، كنت سأميل في هذه النقطة بالذات إلى أطروحة تروتسكي حول الثورة الدائمة أكثر منها إلى أطروحة الماركسيين الآخرين حول إقامة النظام الاشتراكي في بلد واحد.
وبالعودة إلى النظرية العامة للأنظمة التي تفترض خضوع جميع الأنظمة الفرعية لقوانين النظام الأعلى، ما لم أوضحه من قبل، أن هذه القوانين الأخيرة هي بدورها نتيجة للتفاعلات والصراعات التي تدور على صعيد كل نظام فرعي، وكلما كان الاتجاه العام لهذه التفاعلات يسير نحو فرض التغيير، فقد ينتج عنه تغيير على مستوى النظام الأعلى ككل. أو بعبارة أقرب قد يكون ما تحدث عنه مهدي عامل من عملية انجذاب وتكاثف للتناقضات في اتجاه لحظة الحسم أو التغيير، أكثر قابلية للتحقق على صعيد النظام العالمي ككل وليس على صعيد كل بلد بمفرده.