هل عادت أطياف ماركس أم أن نجمه قد أفل؟


عبد الحسين شعبان
2009 / 6 / 24 - 09:45     

في حوار نظمه «حزب التجمع الوطني» في القاهرة الذي أسسه خالد محيي الدين ومجلة أدب ونقد، التي ترأس تحريرها الأديبة فريدة النقاش، التأمت ندوة حوارية حول الماركسية والاختلاف، ولعل المناسبة كانت صدور كتابنا «تحطيم المرايا» الذي ناقشه الكاتب والمفكر حلمي شعراوي والباحث صلاح عدلي والناقد علي الديب والاكاديمي الدكتور أحمد كامل والناقد خضير ميري، إضافة إلى مدير الندوة الشاعر حلمي سالم الذي أدار الندوة ونظم الحوار، وكان السؤال الذي ظل معلقاً: هل عادت أطياف ماركس أم أن نجم الماركسية قد أفل وشعاعها قد انطفأ!؟ وإذا كان البعض يستشكل هذا السؤال، سابقاً فإنه بعد الأزمة العالمية المالية والاقتصادية للرأسمالية أصبح مطروحاً من لدن أطراف كثيرة!!
يمكن القول إن: الماركسية التي وصلت إلى السلطة لا تشبه ماركسية ماركس، كما أن الماركسية المطبّقة لا تشبه ماركسية ما قبلها وما بعدها، وكذلك فإن ماركسية القرن العشرين لا تشبه ماركسية القرن التاسع عشر، وبالطبع فهي لا تشبه ماركسية القرن الحادي والعشرين، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتي فجرتها العولمة، إضافة إلى الموجة الجديدة الأولى من الحداثة، التي أطلق عليها البعض ما بعد «الحداثة».
كما أن ماركسية ما بعد هدم جدار برلين وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد، ستكون مختلفة عن ماركسية القرن الحادي والعشرين، وماركسية السلطة تختلف عن ماركسية المعارضة، مثلما ماركسية الثقافة تختلف عن ماركسية السياسة، وماركسية أكسفورد ستختلف عن ماركسية عدن أو مقديشو أو أديس أبابا أو غيرها في الأرياف الشامية أو في العراق.
لعل ماركس هو الذي قال «كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً» ولم يكن ذلك خروجاً على «الماركسية» أو على منهجها الجدلي أو تخلياً عنها كما يعتقد البعض، إذا ما رددنا ذلك، بل هو خروج على الأطر والأنساق المُحكمة والصارمة التي أراد البعض أن يصهر الجميع في بوتقتها، بإقفال باب العلم والاجتهاد والادعاء بتمامية ماركس واكتمال تعاليمه.
وأتصور أن ماركسية القرن الحادي والعشرين ستكون أقرب إلى ماركسية القرن التاسع عشر، لا بمعنى تعليماتها، بل من حيث كونها حرّة وطليقة -وتتحرك في فضاء واسع- وسوف لا تحجز نفسها بقوالب جامدة!
وإذا كانت ماركسية القرن التاسع عشر، أي ماركسية ماركس قد عممت معارف القرن التاسع عشر، وسعت إلى استنباط الحلول والمعالجات للتنمية والتطور والتغيير الذي حلم به ماركس، انسجاماً مع ما توصل إليه وما عرفه من معلومات، فذلك لأن الماركسية -كنظرية جدلية نقدية وضعية- كانت في صراع بينها وبين ذاتها من جهة، وبينها وبين حركة التطور التاريخي من جهة أخرى.
لم تكن الماركسية فلسفة خالصة أو منهجاً للتحليل أو رؤية للتاريخ حسب، أو مشروعاً سياسياً أو حركة ثورية للتحرر والتغيير فقط، إنها كل ذلك، وبذلك اختلفت وتمايزت عن سواها من النظريات الفكرية التي سبقتها أو عايشتها، من الديكارتية إلى الكانطية وصولاً إلى الهيغلية.
نظر بعض الماركسيين إلى الماركسية باعتبارها نهاية مطاف أو حلقة ذهبية أخيرة في الفكر الإنساني، يمكن اقتناؤها أو الاحتفاظ بها كما هي، أي «متحفيتها» في حين أن الماركسية منهج جدلي، لا يشكل ماركس إلا حلقة من سلسلة حلقاته المتصلة والمستمرة وهي بلا نهايات. وبهذا المعنى لا يمكن اختصار الماركسية بماركس، وينبغي قراءة الماركسية بمنهج جدلي أي بمنهج ماركس لا بقوانينه، فتعاليمه تصلح له، وعلينا اكتشاف قوانيننا وبلورة رؤيتنا.
كان ألتوسير يردد: إن فهم التاريخ هو في قراءة الوعي بضده، وتلك أزمة المنهج التي يمكن بواسطتها قراءة الواقع بضده، كما أن الفكر يُعرف بضده، وفيما إذا كان نجم ماركس قد أفل فيمكن استعارة حوار بين فوكو وألتوسير، ففي زيارة ميشيل فوكو لألتوسير في مصحته العقلية بسانت آن سأله: هل ما زلت ماركسياً؟ أجابه ألتوسير ومن تكون أنت بغيرها؟ لكن ماركس هو الذي نبذ فكرة التأطير برده هذا على برودون.
الماركسية فلسفة حضور، والحضور يعني اختلاف عن الغياب، وكان جاك ديريدا في كتابه «أطياف ماركس» قد توقف عند نصيّة ماركس، التي اعتقد أن بالإمكان تجاوزها، بكتابة تؤمن بأن الاختلاف أعلى من الواقع.
ولكن ما هي «الوضعية النقدية» إن لم تكن هي نقداً للوضعيات باعتبار الماركسية مرحلة من مراحل الوضعيات. قد تبدو هذه «مغالطة» إذا ما قرأنا الماركسية من الخارج، ولكن إذا ما قرأنا من الداخل فسنجدها هكذا، وقد كان فضل ماركس على البشرية كبيراً بحكم اكتشافه مبدأ فائض القيمة، وكذلك الصراع الطبقي، الأمر الذي ينبغي قراءته في ضوء المتغيرات اليوم، لاسيما الحداثة وما بعدها والعولمة ووجهها المتوحش، إذ إن الحلقات المكوّنة للفهم الوضعي النقدي تقوم على أن كل نص هو مشروع قراءة، وكل قراءة هي مراجعة للنص، وبالتالي لحجم النقد في النص.
هناك تخالق بين القراءة من وجهة نظر نقدية وبين نقدية النص نفسه: ومن الأمثلة قراءة أنتي دوهرينغ وبؤس الفلسفة لبرودون ورد ماركس عليه بكتاب فلسفة البؤس وقلب الجدل الهيغلي ونقد فيورباخ ونقد برنامج غوتا.
لا بدّ من الفصل على المستوى المنهجي بين الماركسية والتطبيقات الشيوعية، وهذا يعني تخطي القوالب التي حصرت نفسها فيها الموديلات الشيوعية، وهذا يعني أن فشل التجارب الاشتراكية لا يعني نهاية الماركسية، إلا إذا افترضنا الماركسية الرثة، التي اتسمت بنكهة بدوية وملامح قروية، لاسيما في بلداننا العربية.
إن قراءتي الوضعية النقدية هي في إطار المنهج الماركسي وبمعيته، وهو الأمر الذي يدفعني إلى القول بأن هناك نقصاً قرائياً فيما يتعلق بالدين وتصويره باعتباره مضاداً للفكر، ومع أن الدين أبرز أيديولوجية دينية «الأصول- السلف»، تلك التي لم يعرها الفكر الماركسي ما تستحقه من الدراسة والنقد، لاسيما بفهم الدين كتراكم إنساني، لا تهميشه ولا تقديسه، لأن كلاهما يؤدي إلى نتائج كارثية، خصوصاً إذا ما عرفنا حجم التأويل فيه ودور رجال الدين في التأويل والتفسير وإخضاع ذلك لمصالح دنيوية وليست «إلهية» أو ربانية!
ولعل ماركس لم يتحدث عن الدين باستثناء الكراس الذي كتبه عن «المسألة اليهودية»، في حين أن فيورباخ كان قد قدّم قراءة نقدية للدين. أما استخدام مقولة «الدين أفيون الشعوب»، فقد كان خاطئاً بالاتجاهين، في التفسير والتأويل من جهة بعض المتمركسين، ومن جهة من هاجم الماركسية وحاول تصويرها باعتباره أيديولوجيا العداء للدين، تلك التي استغلت في منطقتنا لإصدار فتاوى التحريم والتأثيم وربما التجريم.
بتواضع أقول إن هناك نقصاً ماركسياً في تناول الجماليات لحساب الجانب الأيديولوجي لاسيما في الأصول النظرية، وهذه مسألة لا بدّ من التوقف عندها مثلما قرأ ماركس خطأً دور العامل النفسي، وقد ظلّت المدارس الماركسية والجامعات بما فيها في الدول الاشتراكية تحجم عن تدريس علم النفس أو حتى لا تعترف به لغاية أواسط الستينيات.
وهناك نقص في فهم دور الميثولوجيا والإنثروبولوجيا في إطار دراسة التاريخ والمجتمع، كما أن هناك فهماً خاطئاً لدى ماركس لجانب من المسألة القومية عندما اعتبر شعباً، مثل الشعب التشيكي رجعياً (بالمطلق)، رغم أن أفق الحل الماركسي للمسألة القومية نظرياً كان صحيحاً عندما قرر ماركس: أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً، وهو ما بنى عليه لينين مبدأً صحيحاً وهو «حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها»، وبغض النظر عن ذلك فقد جرت محاولة روسية لـ «ليننة» الماركسية من موقع الدولة الاشتراكية البيروقراطية وهذه أدت إلى تصنيمها وجمودها، لاسيما باستخدام مصطلح «الماركسية اللينينية» وكأنها الحدود الفلسفية التي لا يمكن تجاوزها، وبذلك تم إهمال الدفاتر الفلسفية للينين والمادية والنقد التجريبي، وهما من أهم ما كتبه.
أستطيع القول إن ماركس هو بداية الماركسية لا منتهاها، وقد آمن ماركس بحرية النقد لا دوغمائيته، ولعل هذا يدفعنا للقول إن المنهج الجدلي بحاجة إلى بنيوية جديدة تحليلية من داخل الماركسية، كما هو بحاجة إلى رفد وإضافة من خارجها.
الماركسية نقدية جدلية وهي نظرية مضادة للمفهوم الميتافيزيقي للمعرفة، إذ إن الماركسية بلا نقيض هي مجرد أحلام نظرية، والوضعية النقدية تعني نقد الوضعيات، وهي المنظار الذي من خلاله أراد البعض رؤية الرأسمالية بتداعياتها وأفقها ومستقبلها، فضلاً عن قدرتها على تجاوز بعض معضلاتها البنيوية، لكن طيف ماركس وربما شبحه يظلّ يطل علينا، طالما ظلّت قضية العدالة الاجتماعية غائبة!!