أفول الإمبراطورية الرأسمالية العالمية

فيكتور شابينوف
2004 / 4 / 25 - 17:49     

الأرستقراطية العمالية في البلدان الإمبريالية وآفاق الثورة العالمية

كل نظام اجتماعي، والرأسمالية ليست استثناء، يعيش مرحلة صعود حيناً وحيناً مرحلة هبوط. وقد كان الباحثون الاجتماعيون منذ ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يشيرون إلى أن المجتمع الراسمالي قد استنفد معظم ما لديه من طاقة على الوجود وبدأ يتعفن من داخله. وتبدى هذا، بادئ ذي بدء، في ما بالرأسمالية من نزعة طفيلية.

بديهي أن نهب المستعمرات كان يحصل منذ ما قبل دخول الرأسمالية مرحلة التطور الإمبريالي الهابط. غير أن النزعة الطفيلية لديها تضخمت تضخما هائلا لتغطي بظلها الأسود كل المجتمع الاستعماري فقط عندما صارت ممكنة الأرباح الاحتكارية الكبيرة (مع نشوء الاحتكارات الضخمة) وتصدير رأس المال، أي كل ما يميز الطور الإمبريالي في التطور الرأسمالي المعروف اليوم باسم "العولمة".

هاكم ما قاله في هذا الصدد الاقتصادي البريطاني جون أتكنسون هوبسون بداية القرن العشرين (1858-1940): إن الدولة المهيمنة تستخدم مقاطعاتها ومستعمراتها والبلدان التابعة لأجل إثراء طبقتها الحاكمة وشراء طبقاتها الدنيا كي تبقى هادئة لا تثور. أي أن الدولة الإمبريالية تستخدم الأرباح الضخمة الآتية من الأطراف لأجل رشوة فئاتها الاجتماعية الدنيا.

لا بد من ذكر أن هوبسون لم يكن البتة من خصوم الرأسمالية، بل كان بعكس ذلك يحذر حكومات البلدان الرأسمالية من مغبة القيام بأعمال مجنونة قد تفضي بالرأسمالية إلى الكارثة.

وهذا ما قاله في تحذيره خاصة الدول الأوروبية عندما راحت تحاول أن تحيل الصين إلى مستعمرة تابعة لها:

"لو تم هذا لاتخذ جزء كبير من أوروبا الغربية الشكل والطابع اللذين هما الآن لأجزاء من هذه البلدان: لجنوب بريطانيا وريفييرا، وللأماكن من إيطاليا وسويسرا التي يرتادها السياح ويقطنها الأغنياء أكثر من غيرها. أي تلك القلة القليلة من الأرستقراطيين الأثرياء الذين يحصلون على الأرباح والمعاشات التقاعدية من الشرق النائي، ومعها مجموعة أكبر قليلا من المستخدمين المحترفين والتجار وعدد أكبر أيضا من الخدم والحشم والعمال في صناعة النقل وفي الصناعة المعنية بالتصميم النهائي للمنتجات.

أما فروع الصناعة الرئيسية فإنها ستنقرض هنا وستتدفق المواد الغذائية والمنتجات شبه الجاهزة من آسيا ومن إفريقيا بالجملة مثابة إتاوة. تلك هي الاحتمالات التي ستتكشف أمام أعيننا من خلال اتحاد أوسع نطاقا بين الدول الغربية، من خلال فدرالية الدول العظمى الأوروبية. وهذا لن يجعلها تكبح وحسب تقدم الحضارة العالمية، بل يمكنه أن يعني خطراً هائلا على الطفيلية الغربية إذ سيميز مجموعة من الأمم الصناعية المتقدمة التي تحصل الطبقات العليا فيها على إتاوة هائلة من آسيا ومن إفريقيا وستستخدم بواسطة هذه الإتاوة حشدا هائلا مروَّضاً من الخدم والحشم الذين لن يعملوا بعدها في إنتاج الحاجيات الزراعية والصناعية العادية، بل في خدمة أفراد أو في إنتاج صناعي ثانوي تحت رقابة الأرستقراطية المالية الجديدة. فليمعن كل من يشيح بوجهه عن هذه النظرية معتقداً أنها لا تستحق أن ينظَر فيها إمعاناً جيدا في الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتلك الأوساط التي آلت إلى مثل هذا الوضع في جنوب إنكلترا المعاصرة. ليفكروا جيدا في التوسع الهائل الممكن أن يحصل لرقعة هذا النظام لو أخضعت الصين للسيطرة الاقتصادية من قبل جماعات كهذه من رجال المال الموظفة رؤوس أموالها ومن قبل خدمها السياسيين والصناعيين والتجاريين الذين يستنبطون الأرباح من أعظم خزان محتمل عرفه العالم يوماً بغية استهلاكها في أوروبا. بديهي أن الوضع معقد ولعبة القوى العالمية معقدة لدرجة أنه يصعب احتسابها لأجل القول باحتمال حصول هذا الأمر و ذاك مستقبلا. غير أن تلك التأثيرات التي تتحكم بالإمبريالية الأوروبية الغربية حاليا تتجه هذا الاتجاه، وإذا لم تلق الصد والمقاومة، وإذا لم تُغيَّر وجهتها، أفضت إلى مثل هذه النهاية.

في بدايات القرن العشرين لم يكن هذا أكثر من تنبؤ، من كابوس مخيف يتحدث عنه نصير الرأسمالية هوبسون الذي رأى في مثل هذه الطفيلية المفرطة انحلال الأمة الرأسمالية وموتها. فمن المعلوم أن استسلام امرئ فرد لنمط عيش جلّه فراغ ولهوٌ مفسدة له وانحطاط، فكيف الأمر لو كان هذا دَيدَنَ أمة بكاملها. فقد رأى هوبسون احتمال تحول مجتمع المستعمِرين إلى طفيلي عالمي متكون من طغمة (أوليغارشيا) مالية وحملة أسهم وموظفين وخدم.

هوبسون حذر من هذا الأمر الرهيب في بداية القرن العشرين، عندما لم يكن بعد سوى اتجاه، منحى، غير أن الواقع اليوم يظهر أن ما حذر منه الاقتصادي البريطاني وقع معظمه.

ففي فترة ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001 تحدث كثيرون عن أن شعبية الرئيس الأميركي جورج بوش الأصغر عالية جدا كحصيلة لهستيريا المشاعر الوطنية، وأن هذا سيزول ويمضي قريبا، ما إن يحس الشعب الكادح في الولايات المتحدة بالضيق من هذه الحرب. غير أن الإمبريالية تخوض منذ 10 سنوات حرباً في العراق وفي الصومال وفي يوغوسلافيا وفي كوسوفو وفي أفغانستان، ومن جديد في العراق، ومع ذلك لا يزال الشعب الكادح ساكتاً وساكتاً. احتلال العراق ونهب ثرواته مستمر، غير أن إضرابات الاحتجاج على الحرب المستمرة لم تضح في البلدان الإمبريالية ظاهرة جماهيرية، بل بقيت إضرابات متفرقة هنا وهناك.

والأمر أن النزعة الطفيلية لدى المنظومة الإمبريالية الشاملة المعاصرة اكتسب حالة نوعية جديدة: فالوجه الداخلي من الاستغلال لم يعد الوجه الرئيسي، وحل محله الاستغلال الخارجي.

الحركة العمالية الأوروبية والأميركية العارمة في النصف الثاني من القرن العشرين استطاعت أن تحصل من برجوازيتها الإمبريالية على تنازلات بلغت حداً جعل جزءا كبيرا من بروليتاريا أوروبا الغربية وأميركا الشمالية تتحول إلى أرستقراطية عمالية.

فبحسب النظرية الماركسية يحصل البروليتاري كبدل عن قدرته على العمل على مبلغ يساوي جملة وسائل العيش اللازمة له كي يعيد إنتاج القدرة على العمل، أي يحصل على حجم من من وسائل العيش يمكنه من العمل مجددا وتأمين قوة على العمل للرأسمالي في المستقبل أيضا، أي تنشئة أطفاله. هذا القانون الاقتصادي الذي اكتشفه ماركس روعي في أوروبا وهو يراعى الآن في بلدان "العالم الثالث" بكل صرامة. غير أن فئات مميزة ومدفوعة الأجر أفضل من غيرها بدأت تظهر منذ بدايات القرن العشرين بين العاملين مستوى معيشتها بات أرفع كثيرا من مستوى معيشة الجمهور الأساسي. هذه الفئة سميت بالذات بالأرستقراطية العمالية.

كان إنجلس قد ميز في بريطانيا في القرن التاسع عشر لا تكوّن فئة أرستقراطية عمالية وحسب، بل بوجه عام "تبرجز" الطبقة العاملة. فقد كتب في رسالته إلى كارل ماركس المؤرخة في 7 تشرين الأول/أكتوبر عام 1858 يقول: "البروليتاريا البريطانية تتبرجز أكثر فأكثر عملياً، وهذا يعني أن هذه الأمة الأكثر برجوازية من بين الأمم قاطبة تبغي، على ما يبدو، إيصال الأمر في خاتمة المطاف إلى أن تكون هناك أرستقراطية برجوازية وبروليتاريا برجوازية إلى جانب البرجوازية. وهذا الأمر طبيعي إلى درجة معينة من جهة أمة تستغل العالم بأسره".

إن الأرستقراطية العمالية فئة من الطبقة العاملة تنال من البرجوازية زيادة محددة يصبح بفضلها مستوى استهلاك هذه الفئة أرفع من مستوى استهلاك الفئة البروليتارية عموما. ومصدر هذه الزيادة الأرباح الفائقة التي يحصل عليها رأس المال الاحتكاري العائد للأمة الإمبريالية من استغلال القوى العاملة في البلدان الأخرى.

فالضمانات الاجتماعية والشقة المريحة، بل القصر العائد للعامل الأميركي الأبيض أو الأوروبي الغربي ليست تأتي من الهواء. إنها فتات موائد الرأسماليين الذين يستغلون العالم برمته تحل على مائدة العامل. بيد أن هذا الفتات كاف لتحويل جزء هام من الطبقة العاملة في البلدان الإمبريالية من قوة ثورية كامنة إلى احتياطي لدعم سياسة كبار القوم في مجتمع الدولة الاستعمارية.



كتب لينين في مؤلفه "الإمبريالية وانقسام الاشتراكية" يقول: "كان البروليتاري في روما يعيش على حساب المجتمع. أما المجتمع الحالي فعيش على حساب البروليتاري المعاصر. هذه الملاحظة العميقة لسيسموندي شدد عليها ماركس خاصة. الإمبريالية غيرت الأمر بعض الشيء. فالشريحة المميزة من البروليتاريا في الدول الإمبريالية تعيش جزئيا على حساب مئات الملايين من أبناء الشعوب غير المتحضرة".

إن الأرستقراطية العمالية هي عملياً فئة برجوازية صغيرة بما أنها مثلها مثل البرجوازية الصغيرة تجمع في وضعها الاقتصادي ما بين عناصر المستغَلّ والمستغِلّ. فهي إذ تستغَل من قبل رأس المال الوطني تحصل في الوقت نفسه على جزء من الربح المفرط المتكون من استغلال المستعمرات قديمها وحديثها، فتشارك بهذه الطريقة في استغلال الإمبريالية للقوى العاملة في بلدان "العالم الثالث".

منذ أيام لينين الذي وصف الأرستقراطية العمالية بأنها أقلية في الطبقة العاملة ذات امتيازات إزاء أكثرية هذه الطبقة مضى كثير وقت. والإمبريالية لا تقف في مكانها، بل تحسن وتطور آلية استغلالها للشعوب وتوسع رقعته وتكثفه.

ومن جهة أخرى كانت الحركة العمالية المنظمة في البلدان الإمبريالية تدفع الإمبريالية إياها إلى الإبقاء على جزء متزايد من الأرباح المفرطة في حوزة الطبقات الاجتماعية الدنيا مجبرة بذلك البرجوازية الإمبريالية على إبعاد شبح الاستغلال إلى خارج الحدود القومية وتحويل فئات جديدة وجديدة من السكان البروليتاريين إلى أرستقراطية عمالية.

والإمبريالية ذاتها كانت حريصة كل الحرص على ضمان السلم الاجتماعي في نطاق حدود الدولة الاستعمارية، إذ إن النظام الرأسمالي ليس قادرا على تحمل انفكاك حلقة ضعيفة أخرى، إضافة إلى روسيا، من سلسلة البلدان الإمبريالية.

من أين تأتي يا ترى الأرباح الفائقة للبلد الاستعماري؟ أبسط الوسائل استنباط القيمة الزائدة من البلدان الرأسمالية الهامشية، بلدان رأسمالية الأطراف، من خلال عبء الدين المفروض عليها. فبواسطة هيكليات خاضعة كليا للإمبريالية من مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تفرض على بلدان رأسمالية الأطراف هذه شتى أنواع الدين لتنمية اقتصادها!!! وتفوق فوائد هذه الديون دائماً، وفي الغالب ببضعة أضعاف، مبلغ الدين نفسه.

لقد نما حجم ديون بلدان العالم الثالث من 61 مليار دولار عام 1970 إلى 2554 مليار دولار عام 1999. وستكون زيادة هذا المبلغ لاحقاً أمراً صعبا بما أن دخول العديد من البلدان من الصادرات لم تعد تكفي لسداد الديون. في أفريقيا بلغ الدين العام 370 دولاراً لكل فرد يعيش في هذه القارة. وتستهلك خدمة الدين نسبة 21,8 بالمائة من قيمة صادرات بلدان "العالم الثالث"، ونسبة 49,6 بالمائة من قيمة صادرات بلدان أميركا اللاتينية. وفي العام 1998 دفعت بلدان "العالم الثالث" سدادا لديونها مبلغ 717 مليون دولار يومياً. أرباح بهذا القدر ما كان حتى ليحلم بها إمبرياليون بداية القرن العشرين.

إن مقادير هائلة من القيمة الزائدة تؤخذ عملياً من اقتصادات بلدان الأطراف ليعاد توزيعها على البرجوازية الإمبريالية المتجاوزة القوميات والحدود القومية.

الأسلوب الثاني هو المبادلات اللاتكافئية بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها الجديدة. وقد أورد الاقتصادي الأميركي المعروف فيكتور برلو في مؤلف له أن البلدان النامية كانت تحصل في العام 1986 على 5 سنتات مقابل كيلوغرام من السكر، وعلى 7 سنتات مقابل كلغ من الموز. وفي الوقت نفسه يباع السكر في البلدان المتقدمة بـ40 سنتا للكيلوغرام، والموز بـ45 سنتاً. ووفقا لهذه الحسابات يكلف نقل الكلغ الواحد 5 سنتات، وهكذا ترقد في جيوب البرجوازية الإمبريالية قيمة 30 سنتاً لكل كيلوغرام سكراً و33 سنتاً لكل كيلوغرام موزاً. هذه القيمة تسحب من رأسماليات الأطراف إلى الرأسمالية الأم في البلد الاستعماري من دون مقابل.

الأسلوب الثالث هو استغلال الرأسمال الإمبريالي لبلدان رأسمالية الأطراف استغلالاً رأسمالياً مباشراً. إن تصدير رأس المال، هذه السمة المميزة للإمبريالية ككل، قد بلغ عند تخوم القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين مقادير هائلة حقاً. ففي المصانع العائدة للاحتكارات العالمية المتجاوزة حدود القارات يكدح ما بين 10 و23 بالمائة من العمال المنتجين في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وكولومبيا وصولا إلى أكثر من 50 بالمائة من هؤلاء في سنغافورة والسنغال.

وفي المحصلة تبين حسابات مجلة الماويين الأميركيين MIM Theory أن الناتج الزائد الذي تحصل عليه الدول الاستعمارية سنويا من بلدان "العالم الثالث" تبلغ نسبته 20 في المائة من مجمل ناتج بلدان "العالم الثالث". وهذا يعني أن كل عامل من أصل خمسة في بلدان الأطراف الرأسمالية يسلم كل ما ينتجه من قيمة إلى البلدان الإمبريالية. وبديهي أن تتيح هذه الأرقام الهائلة من الربح الفائق للبرجوازية الإمبريالية لا أن تبرجز وحسب جزءا صغيرا من بروليتارياها فتحوله إلى أرستقراطية عمالية، بل أن تبرجز كل مجتمع "المليار الذهبي" عملياً وأن تضم إلى مجموعة الطفيليين جزءا كبيرا من العاملين إن لم يكن أغلبيتهم.

ومع تبرجز الطبقة العاملة في الغرب ينتقل الإنتاج المادي من مركز الرأسمالية العالمية إلى أطرافها.

وكان لينين قد أشار في مؤلفه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" في العام 1915 إلى انخفاض نسبة المنتجين بين السكان إلى مجموع السكان في أكبر دولة إمبريالية آنذاك هي بريطانيا. وأورد ما قاله العالم البرجوازي شولتسه-غفرنيتس من أن خطر الإمبريالية يكمن في أن "أوروبا ستلقي بالعمل الجسدي، الزراعي والجبلي في البداية، ثم العمل الصناعي الأشد خشونة، على عاتق البشرية الداكنة البشرة، بينما ستستبقي لها دور حامل الأسهم مهيئة ربما بهذا لتحرر العنصرين الأحمر والأسود اقتصادياً، ومن ثم سياسيا".

هذا التنبؤ جاء به شولتسه-غفرنيتس تحقق. ففي الثمانينات كان المنغنيز المستورد يغطي بنسبة 98 بالمائة حاجة الولايات المتحدة إليه، ومثله الألمنيوم بنسبة 97 بالمائة، والكروم بنسبة 92 بالمائة. والمنغنيز والزنك بنسبة 100 بالمائة من حاجة ألمانيا، والتيتانيوم بنسبة 99 بالمائة والكروم بنسبة 52 بالمائة. وهكذا يغطى الإنتاج في بلدان الأطراف احتياجات الدول الإستعمارية إلى الخامات كلياً عمليا. والأمر كذلك حتى في مجال إنتاج موارد طبيعية لدى البلدان الاستعمارية أصلا ما يكفي منها لو استخرجته من باطن أرضها.

وبمقدار ما يختل التوازن في مجال إنتاج الخامات لصالح البلدان النامية، فهو يختل في مجال الاستهلاك لصالح الدول المتقدمة. فأميركي واحد يستهلك من الموارد ما يستهلكه 8 أشخاص وسطياً من سكان الأرض أو عشرون شخصا من سكان المستعمرات الجديدة. وفي الولايات المتحدة كان الفرد من السكان في العام 1991 يستهلك 2614 كلغ نفطاً، بينما الفرد في الهند كان يستهلك في العام نفسه 62 كلغ وفي إثيوبيا 14 كلغ وفي الكونغو 10 كلغ. فكل من لا يعمل يأكل، وكل من لا يأكل يعمل.

غير أن الإمبريالية لا تكتفي باستبعاد قطاعي الزراعة والاستخراج إلى بلدان الأطراف. فإحصاءات عدد من البلدان الإمبريالية تبين وسطيا أن نسبة العاملين في الزراعة إلى مجموع السكان في أعوام 1980-1993 تدنت من 6,7 بالمائة إلى 4,4 بالمائة، ونسبة العاملين في الصناعة من 33,4 بالمائة حتى 27,1 بالمائة، أما في قطاع الخدمات فقد ارتفعت من 59,9 بالمائة حتى 68,5 بالمائة. وحتى لو أخذنا في الحسبان ما تفعله مصالح الإحصاء البرجوازية من ضم بعض فئات العاملين (مثل عمال النقل) إلى قطاع الخدمات، فإن اللوحة تبقى مريعة إذ إن أكثر من نصف كل العاملين لا يساهمون في العمل المنتج.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين ازدادت نسبة الصادرات الصناعية من بلدان "العالم الثالث" إلى البلدان الاستعمارية فيما تدنت نسبة الخامات والوقود. وهذا يعني أنه لا يجوز تفسير انخفاض نسبة السكان المنتجين في البلدان الإمبريالية يتنامي إنتاجية العمل.

فبين عامي 1955 و1989 انخفضت نسبة الخامات والمعالَجة منها في الصادرات البضاعية من بلدان "العالم الثالث" إلى البلدان الاستعمارية من 74,4 بالمائة إلى 20,5 بالمائة، فيما ارتفعت نسبة المنتجات الصناعية من 5 بالمائة إلى 53,3 بالمائة. وتدل هذه المعطيات على أن المستغِلين والمستغَلين في النظام الإمبريالي المعاصر موزعون جغرافيا إلى حد ما. فليس استخراج الخامات وحده أبعِد إلى الأطراف الرأسمالية، بل الإنتاج المادي أيضا عموما. وبديهي أن يبدأ هذا الإبعاد من أشد قطاعات الصناعة تلويثا للبيئة، ولكنه لا ينتهي بها.إن شتى المنظرين المعاصرين، لا سيما المناهضين للعولمة في البلدان الإمبريالية، يحاولون أن يصوروا الاقتصاد العالمي وكأنه اقتصاد بلا حدود تنزح فيه رؤوس الأموال بحرية من دون أن يوجد هناك مركز وأطراف. وهم يزعمون أن تساويا في الأجر يحصل بفضل العولمة.

ويقولون: إذا كانت اليد العاملة في أوروبا مثلا غالية الثمن، فإن رأس المال سينزح إلى بلدان ومناطق أخرى. وهكذا ينخفض سعر اليد العاملة في أوروبا ليتساوى مع السعر العالمي العام.

غير أن التجربة تبين أن لاشيء من هذا القبيل يحصل. فمستوى الأجر في البلدان الاستعمارية أعلى منه بكثير حتى في المصانع المؤتمتة المتقدمة تكنولوجيا في بلدان الأطراف. وتباين مستويات الاستهلاك وكذلك تباين أحجام الناتج الإجمالي للفرد من السكان فيما بين البلدان الإمبريالية وبلدان "العالم الثالث" يتنامى باستمرار.




فما الأمر يا ترى؟ لا يمكن فهم هذه الآلية إلا من خلال استعراض الاقتصاد العالمي كجسم اقتصادي موحد جامِعُه وقاسمه المشترك هو وحسب السوق العالمية والعلاقات المباشرة في مجال الملكية إلى ما شابه. وبخلاف التصورات المبتذلة التي تزعم أن رأس المال يجهد لاستئجار العاملين الذين يؤتون القيمة الزائدة وحسب، فهو لا ينأى ولا يأنف أيضا من العمل غير المنتج. فلأجل أن تحقق الإمبريالية هيمنتها يستدعي الأمر جيشا جرارا من العاملين غير المنتجين. والعدد الهائل من الموظفين الذين يخدمون حركة رأس المال وشتى ضروب المدارء والمحامين والكتّاب العَدلِ والقضاة والكتبة والجواسيس الصناعيين وغيرهم يشكل جمهورا هائلا من البرجوازيين الصغار البيروقراطيين، وهم يشكلون نسبة كبيرة من سكان البلدان الاستعمارية، ودخلهم مرتبط ارتباطا وثيقا بالنهب الإمبريالي لبلدان الأطراف الرأسمالية. ومن الوقائع الدالة على هذا أن عدد العاملين في وزارة إدارة الموارد المائية في هولندا يقارب الـ1500 شخص. وكل سكان البلاد يبلغ تعدادهم 15 مليون نسمة. أي أن كل واحد من 10,000 نسمة يعمل في إحدى الوزارات.وليس بأقل عدد العاملين في غير الإنتاج الذين يؤمنون الرفاه لشخص الرأسمالي بالذات. ومن هؤلاء الخدم ومزينو الشعر والطهاة والباغيات والمدلِّكات والأطباء المرتفعو الثمن وغيرهم من الخدم والحشم المقتاتين أيضا من فتات موائد البرجوازية الاحتكارية، ومن ثم المشبعين بشتى الأفكار والتحاملات الرجعية والمظاهر السخيفة.

كل هذه الفئات التي تشكل مباشرة أو بالواسطة خدم البرجوازية الإمبريالية تلقي بكل ثقلها على كواهل شعوب الأطراف. وتشكل فئة العاملين غير المنتجين في البلدان الإمبريالية حتى نصف السكان القادرين على العمل.

غير أنه لا يمكننا زعم أن الطبقة العاملة غائبة في البلدان الإمبريالية. فهي، أولا، ليست كلها أرستقراطية عمالية. كما أن الأرستقراطية العمالية تتعرض هي نفسها، ثانيا، للاستغلال وإن كانت تحتل مكانا في شبكة الإنتاج الاجتماعي مختلفا عن ذاك الذي تحتله الفئة البروليتارية.

قد يخال المرء أن وجود فئة واسعة من الأرستقراطية العمالية يجب أن يؤدي إلى قدرة أقل على المنافسة لدى رأس المال في البلدان الإمبريالية. غير أن الأمر بخلاف ذلك. ففي حقبة الإمبريالية حين تكتسب السيطرة على الأسواق اقتصاديا وسياسيا (وعسكرية أيضا) أهمية كبرى تكون البلدان الإمبريالية حريصة على إضعاف النزاعات الداخلية. فالإمبريالية بحاجة إلى جيش لجب يمكن إرساله حين تدعو الحاجة إلى أي صقع من كوكبنا، مع الثقة بأنه سيقوم بأي مهمة قذرة تطلب منه. ولذا تبدو الإمبريالية حريصة على ألا يرى عمال البلدان الاستعمارية في عمال "العالم الثالث" إخوة لهم في الطبقة، وألا يشعروا بضرورة التضامن معهم. ولأجل هذا لا بد من ربط عمال البلدان الاستعمارية براس المال في هذه البلدان ربطا أشد وثوقاً من خلال إشراكهم إشراكا غير مباشر في نهب شعوب "العالم الثالث". والقول بأن صرف الأموال على الأرستقراطية العمالية يؤدي إلى تدني قدرة رأس المال على المنافسة في البلدان الاستعمارية كالقول بأن صرف الأموال على الجيش والشرطة والموظفين وما شابه يؤدي إلى تدني قدرة رأس المال على المنافسة أيضا. إني أود لو يستطيع أحد أن يريني رأس مال يحل الجيش والشرطة في مكان ما ليعزز من قدرته على المنافسة.

أما الواقع فهو أن وجود الأرستقراطية العمالية يعزز من قدرة الاقتصاد الإمبريالي للولايات المتحدة على المنافسة. هذا البلد الذي أصيبت فيه الحركة العمالية بعدوى الشوفينية منذ ظهورها، ومن ثم تحولت بعد الحرب العالمية الثانية في شخص اتحاد العمل الأميركي إلى فريق دعم تقريبا للسياسة الإمبريالية لرأس المال الأميركي الذي يعمل على التوسع توسعا إمبرياليا في كل أرجاء الأرض في ظل وحدة وطنية كاملة عمليا داخل البلد.

هذه الحقيقة المرة سبق أن لاحظها لينين. ولكن هذا التحليل اللينيني يتجاهله كليا العديد من الثوريين البرجوازيين الصغار كالتروتسكيين مثلا. فهم لا يزالون حتى الآن تمشيا مع التقليد المنشفي يعتبرون عمال بلدان الدول الاستعمارية مثابة الفصيل الضارب الرئيسي في الثورة العالمية.

إن تجربة الحركات الثورية في القرن العشرين لتدل على الخطإ التام لمثل هذا الرأي. فمقدمات الاشتراكية الاقتصادية والسياسية مشتتة جغرافياً. والحركات الشيوعية القديرة والقادرة على الطموح إلى تسلم السلطة موجودة اليوم بالذات في بلدان "العالم الثالث". أما في بلدان الإمبريالية فهي تتشكل غالبا من بعض طوائف المثقفين المغلقة وغير النافذة في جماهير العمال. وإن موجة الثورة العالمية المطهرةَ ستنهض بالذات في أطراف الراسمالية العالمية. وهي ستكتسح مراكز الإمبراطورية الرأسمالية العالمية ربما حين تحرم تلك فقط من إمكان رشوة طبقاتها الدنيا وتمسي مضطرة إلى اقتطاع جزء كبير مما تصرفه من مال على هذه الطبقات الدنيا. فحين ستضطر الإمبرالية إلى تخفيف سِمَن الأرستقراطية العمالية في بلدانها بلا رحمة ولا شفقة سيصبح قريبا جدا تحول الطبقة العاملة هناك إلى طبقة قادرة على الثورة.