لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟


داود تلحمي
2009 / 6 / 4 - 09:15     

شهدت الهند، البلد - القارة الذي يقطنه الآن أكثر من مليار ومئة مليون إنسان، انتخابات عامة خلال شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو الماضيين جرى خلالها انتخاب أعضاء مجلس النواب، الذي يُعرف في الهند باسم "لوك سَبْها"، أي مجلس الشعب، البرلمان التمثيلي الرئيسي هناك لشعوب وقوميات وإثنيات وثقافات بلد شديد التنوع، ومتزايد الأهمية على الصعيد العالمي. و"مجلس الشعب" هذا هو الهيئة التشريعية الأهم في البلد، وهناك الى جانبه مجلس الولايات، المعروف باسم "راجيا سَبْها" باللغة الهندية، والذي يمكن مقارنته بمجلس الشيوخ أو الأعيان أو المناطق في بلدان أخرى.

عودة قوية لحزب المؤتمر الوطني الهندي

وكما بات معروفاً، بعد الإعلان الرسمي عن نتائج هذه الإنتخابات في 16/5 الماضي، فإن حزب المؤتمر الوطني الهندي هو الذي حقق أفضل النتائج من بين كل الأحزاب المتنافسة، حيث حقق نتيجة لم تكن استطلاعات الرأي تتوقعها، فتمكن مع حلفائه في "التحالف التقدمي الموحد" من التفوق بشكل كبير على منافسه الرئيسي، حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي اليميني وحلفائه في "التحالف القومي الديمقراطي"، بحيث تجاوز فارق عدد المقاعد بين التحالفين المئة مقعد: 262 مقعداً لصالح التحالف الذي يقوده حزب المؤتمر، الذي حصل وحده على 206 مقاعد، مقابل 159 مقعداً للتحالف اليميني، منها 116 مقعداً لحزب "بهاراتيا جاناتا"، الذي كان قد تولى الحكم المركزي في نيودلهي بين العامين 1998 و2004 حين كان متقدماً على بقية الأحزاب والكتل في البرلمان. وكانت استطلاعات الرأي تتوقع تقارباً في الأصوات بين الكتلتين الكبيرتين، وبالتالي عودةً الى صيغة من التحالفات الواسعة، وغير المستقرة، مع أحزاب متوسطة وصغيرة أخرى كتلك التحالفات التي كانت قائمة في السابق، بما في ذلك في فترة حكم حزب المؤتمر الأخيرة بين العامين 2004 و2009.
ولن نطيل الحديث عن هذا النجاح لحزب المؤتمر الوطني. ولكن نشير الى أن هذا الحزب تقوده حالياً سونيا غاندي، أرملة رئيس الحكومة الهندي الأسبق راجيف غاندي، بمساعدة ابنهما راهول غاندي (39 عاماً)، الأمين العام الحالي للحزب، الذي يظهر الآن كنجم صاعد في سماء الحزب والحياة السياسية الهندية، وكمشروع رئيس حكومة قادم، كما تقول الصحافة الهندية. وكان بعض أنصار حزب المؤتمر قد دعوا لتسليم رئاسة الحكومة لراهول غاندي من الآن، لكن والدته وزعيمة الحزب سونيا غاندي فضّلت إبقاء رئيس الحكومة منذ العام 2004، ذي الخلفية الإقتصادية، مانموهان سينغ، الذي يعتبر البعض نتائج الإنتخابات تزكيةً لسياسات حكومته وتقديراً لما يُعرف عنه من نزاهة واستقامة على الصعيد الشخصي.
وراهول غاندي، كما هو واضح، هو وريث عائلة لعبت دوراً هاماً في قيادة الهند في معركة الإستقلال ابان الإستعمار البريطاني، وبعد الإستقلال أيضاً. فأول رئيس حكومة للهند، التي تخلّصت من الإستعمار البريطاني واستقلت في العام 1947، كان جواهرلال نهرو، جدّ راجيف غاندي ووالد أمه إنديرا، رئيسة الحكومة السابقة أيضاً. وكان جواهر لال نهرو أحد أبرز مساعدي الأب الروحي وقائد معركة الإستقلال الهندية، موهانداس غاندي، وبقي نهرو رئيساً لحكومة الهند بين العامين 1947 و1964، عام وفاته. وعائلة غاندي الحالية هي عائلة زوج ابنة نهرو، إنديرا، التي كانت رئيسة للحكومة الهندية على مرحلتين، بين العامين 1966 و1977 وبين 1980 و1984، حين تعرضت للإغتيال على يد عناصر إنفصالية متطرفة. وليست هناك علاقة قربى بين عائلة زوج إنديرا وعائلة الأب الروحي لحركة الإستقلال الهندية، موهانداس غاندي، الملقب بالـ"مهاتما" وهو تعبير تكريمي له ويعني باللغة السانسكريتية، إحدى لغات الهند التاريخية، "الروح الكبيرة"، ويقال أن الأديب الهندي الكبير الحائز على جائزة نوبل للآداب للعام 1913 رابندرانات طاغور هو الذي أطلق هذا اللقب عليه. وجدير بالتذكير أن المهاتما غاندي لم يعمّر طويلاً بعد استقلال الهند، حيث تعرض للإغتيال على يد متطرف هندوسي في الشهر الأول من العام 1948.
ومعروف أيضاً أن راجيف غاندي، ابن إنديرا وحفيد نهرو، أصبح رئيساً للحكومة بعد اغتيال والدته في العام 1984 وبقي في موقعه حتى العام 1989، حين استقال بعد خسارة انتخابات ذلك العام. ولم يلبث أن اغتيل هو أيضاً، وذلك في العام 1991 أثناء حملة الإنتخابات المبكرة التي جرت في ذلك العام، على أيدي جماعة "نمور التاميل"، التي كانت تنشط ضد الحكم في سريلانكا، ولها امتداد أيضاً في جنوب الهند حيث تتواجد مجموعة كبيرة من قومية التاميل.
***
المهم أن حزب المؤتمر الوطني الهندي عاد بقوة الى السلطة في الإنتخابات الأخيرة، وتمكّن المرشح لرئاسة الحكومة ورئيس الحكومة منذ العام 2004، مانموهان سينغ، من تأمين أغلبية سريعة بتحالف مع مجموعة من الأحزاب الصغيرة الأخرى، مما أمّن له أغلبية مريحة جداً من 322 نائباً في مجلس النواب، الذي يتشكل مما مجموعه 543 عضواً، وتشكل الأغلبية فيه بالتالي 272 نائباً.
ومانموهان سينغ تم ترشيحه لرئاسة الحكومة لأول مرة بعد انتخابات العام 2004 من قبل سونيا غاندي، رئيسة حزب المؤتمر، الإيطالية المنشأ، التي رفضت دعوات بعض أنصارها لتولي هذه المسؤولية بنفسها آنذاك، بعد الإنتصار الذي حققه حزب المؤتمر بقيادتها في تلك الإنتخابات. وسينغ ينتمي الى طائفة دينية صغيرة نسبياً في الهند، هي السيخ، وتكاد تكون محصورة في ولاية البنجاب، في شمال غرب الهند المتاخم لباكستان، وتبلغ نسبتها السكانية في البلد أقل من 2 بالمئة من سكان البلد. ومجموع طائفة السيخ في العالم كله بالكاد يبلغ الـ 25 مليون نسمة، منهم 19 مليوناً في الهند. في حين تتجاوز نسبة المسلمين في الهند، المجموعة الدينية الثانية في البلد بعد الهندوس، الـ 13 بالمئة من السكان، لتصبح بذلك الهند البلد الثالث في العالم من حيث عدد المسلمين فيه (أكثر من 160 مليون مواطن)، بعد إندونيسيا وباكستان، وقبل بنغلادش. ويمكن تمييز طائفة السيخ من حيث المظهر، حيث يطلق رجالها شعورهم ولحاهم ويرتدون عمامة مميزة، حتى عندما يخدمون في الجيش أو الشرطة. وهو مظهر التزم به أيضاً مانموهان سينغ.

تراجع اليسار يثير قلق أحزابه

ولكن موضوعنا الرئيسي في هذا المجال هو التراجع الملفت للإنتباه لقوى اليسار في الإنتخابات الأخيرة، وخاصة اليسار الذي كان يحكم لفترة طويلة في عدد من ولايات الهند، وخاصة ولاية البنغال الغربي (أكثر من 80 مليون نسمة) وولاية كيرالا (أكثر من 30 مليون نسمة) وولاية تريبورا الصغيرة (أكثر قليلاً من 3 ملايين نسمة). والهند تتشكل من 28 ولاية وسبع مناطق إتحادية، أي تابعة مباشرةً للسلطة المركزية في الإتحاد الهندي. وكل الولايات واثنتان من المناطق الإتحادية لديها مجالس تشريعية وحكومات محلية منتخبة، والمنطقتان الإتحاديتان هما المستعمرة الفرنسية السابقة بودوتشيري ومنطقة العاصمة دلهي. أما المناطق الخمس الأخرى، وهي في الأغلب جزر صغيرة أو مناطق قليلة السكان أو لها وضع خاص مثل مدينة شانديغار، التي يتم التعامل معها كعاصمة لولايتين في آن واحد، ولايتي البنجاب وهاريانا، فتقع تحت الحكم المباشر للمركز الذي يقوم بتعيين إداراتها.
وكانت ولايتا البنغال الغربي وكيرالا معقلين رئيسيين لليسار في الهند منذ عدة عقود. وولاية البنغال الغربي تقع في شرقي الهند والى الغرب من دولة بنغلادش، الدولة التي تنتمي الى ذات المجال الثقافي- اللغوي البنغالي، والتي كانت قبل تقسيم الهند في العام 1947 جزءً من البنغال، ولكن بعد التقسيم الذي جرى في ذلك العام على أساس ديني، عُرف القسم الشرقي ذو الأغلبية المسلمة باسم البنغال الشرقي، ثم لاحقاً باكستان الشرقية.
ويحكم ولاية البنغال الغربي ائتلاف يساري منذ العام 1977 بلا انقطاع. ويقود هذا الإئتلاف الحزب الشيوعي الهندي/الماركسي. ورئيس حكومة الولاية هو من هذا الحزب، والإئتلاف اليساري الذي يقوده لديه أغلبية كبيرة في برلمان الولاية، الذي جرى انتخابه لآخر مرة في العام 2006، حيث حصل الحزب الشيوعي/الماركسي وحده في انتخابات برلمان الولاية تلك على 176 مقعداً، وهو ما يشكل وحده أغلبية مقاعد برلمان الولاية، الذي يتشكل من 294 عضواً، في حين حصلت جبهة اليسار بمجملها على 233 مقعداً، تاركةً عدداً قليلاً من المقاعد للكتل والمرشحين الآخرين، وأبرزهم حزب المؤتمر الوطني، الذي حصل على 21 مقعداً وحزب "مؤتمر القواعد لكل الهند" الذي حصل على 30 مقعداً في تلك الإنتخابات المحلية.
وفي الإنتخابات العامة السابقة في العام 2004، حيث حقق حزب المؤتمر الوطني وحلفاؤه تفوقاً نسبياً على كتلة اليمين المنافسة بقيادة حزب "بهاراتيا جاناتا" اليميني وزعيمه رئيس الوزراء الأسبق أتال بيهاري فاجبايي، كان حزب المؤتمر بحاجة الى التحالف مع قوى أخرى ليتمكن من تأمين الأغلبية الكافية في المجلس النيابي. فقد حصل حزب المؤتمر وحلفاؤه في "التحالف التقدمي المتحد" على 218 مقعداً، في حين أن الأغلبية النيابية هي، كما ذكرنا، 272، مما اضطره ليس فقط للتحالف مع بعض الأحزاب ذات الحضور المحدود في ولاية واحدة أو عدد قليل من الولايات الهندية، بل مع "جبهة اليسار"، الكتلة اليسارية التي يقودها الحزب الشيوعي الهندي/الماركسي، والتي حصلت في تلك الإنتخابات على 59 مقعداً. وقد قررت جبهة اليسار دعم حزب المؤتمر الوطني وحلفائه من دون المشاركة في الحكومة لتفادي تحمل المسؤولية المباشرة عن سياسات حزب المؤتمر العامة، وخاصة على الصعيد الإقتصادي، التي تميل الى الإستمرار في مجال تطبيقات "الليبرالية الجديدة"، أي مواصلة خصخصة القطاع العام ودعم القطاع الخاص في المجتمع الهندي واعتماد الإتفتاح على رأس المال الخارجي.
ومعروف أن حزب المؤتمر الوطني الهندي، الذي هو استمرار لحركة تحرر وطني واسعة، كما ذكرنا، هو حزب فضفاض يضم تيارات مختلفة، وهو كان في مراحل سابقة، خاصة في ظل حكم نهرو وابنته إنديرا، قد اتبع سياسات تعتمد على تنمية القطاع العام على الصعيد الداخلي، وعلى التحالف مع الإتحاد السوفييتي ومع الدول والحركات ذات المنحى التحرري في "العالم الثالث" على الصعيد الخارجي. وكان نهرو في أواسط القرن الماضي أحد نجوم حركة عدم الإنحياز، التي انطلقت من مؤتمر باندونغ الآسيوي- الإفريقي الشهير في إندونيسيا في العام 1955، والذي شاركه النجومية فيه شخصيات دولية مثل شو إن لاي (رئيس حكومة الصين الشعبية آنذاك)، وأحمد سوكارنو (رئيس إندونيسيا، الدولة المضيفة)، وجمال عبد الناصر (مصر).
ويمكن تشبيه تركيبة حزب المؤتمر الوطني الهندي بأحزاب شبيهة في "العالم الثالث" هي نتاج مرحلة تحرر وطني، مثل جبهة التحرير الجزائرية، والمؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا (الذي يحمل إسماً مشابهاً، كما نلاحظ، للحزب الهندي، وكلا التنظيمين تأسسا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين)، والى حد ما كذلك حركة "فتح" في فلسطين، وإن لم تتح لهذه الحركة الفلسطينية حتى الآن فرصة الحكم الفعلي في بلد مستقل، كما حصل في التجارب الأخرى. لكن الحديث هنا يجري عن التركيبة الواسعة والمتنوعة لهذه الحركات، لكونها بالأصل حركات تحرر وطني ذات برنامج عام ومفتوح لتيارات الشعب المختلفة.
ولهذا، من غير الدقيق تصنيف حزب المؤتمر كحزب يساري، أو يسار وسطي، وإن كان بالتأكيد على يسار حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي اليميني الذي كان ينافسه على الحكم في السنوات الأخيرة. ولكن يمكن القول أن حزب المؤتمر الوطني شهد في العقدين الأخيرين تحولاً في سياساته باتجاه اعتماد إجراءات تنتمي الى مجال "الليبرالية الجديدة"، فاعتمد فكفكة متزايدة للقطاع العام، وبعد زوال الإتحاد السوفييتي، مال الحزب الى الإنفتاح على الدول الغربية، وخاصة على الولايات المتحدة، مع انه أبقى على صلات واسعة مع روسيا والقوى الآسيوية المجاورة.
وربما كان من المفيد هنا الإشارة الى أن التحالف، على أساس الدعم من خارج الحكومة، بين حزب المؤتمر الوطني و"جبهة اليسار"، والذي تم اعتماده بعد انتخابات العام 2004، انتهى في أواسط العام 2008، بعد أن أبدت "جبهة اليسار" معارضتها لإتفاق تعاون في المجال النووي المدني مع الولايات المتحدة، كان قد أكد عليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن أثناء زيارة له للهند في آذار/مارس من العام 2006، بعد أن كان قد تم الإعلان عن إطار لهذا الإتفاق من قبل زعيمي البلدين في تموز/يوليو من العام 2005. وكانت حكومة مانموهان سينغ تميل لاتخاذ قرار بإبرام هذا الإتفاق، فيما اعترض اليساريون عليه، وتمكنوا من تأخير إبرامه، لكنهم، في نهاية المطاف، وإزاء إصرار سينغ على تمريره، سحبوا تأييدهم للحكومة في تموز/يوليو 2008. وتم التوقيع على هذا الإتفاق رسمياً في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2008، بعد الموافقة عليه في الكونغرس الأميركي، وكذلك في البرلمان الهندي، بأغلبية ضئيلة.
ومن المعروف أن الإدارة الأميركية السابقة كانت تسعى الى تجميع عدد من الحلفاء لها في آسيا الشرقية والجنوبية وعلى تخومها، بهدف تشكيل نوع من الحزام المحيط بالصين، المنافس الأكبر المحتمل للولايات المتحدة في المستقبل القريب، والبلد المرشّح للتحول الى قوة كونية كبرى. والى جانب الهند، كانت إدارة بوش تسعى الى تجمع يشمل كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك أستراليا ودول أخرى في شرق وجنوب شرق آسيا.
وأهمية الهند، الى جانب حجمها البشري الذي بات يقترب من حجم الصين البشري، ومن المؤكد أنه سيتجاوزه خلال السنوات القليلة القادمة، بسبب سياسة الحد من النسل في الصين، هذه الأهمية تكمن أيضاً في كون الهند قوة إقتصادية كبيرة صاعدة أيضاً، تشهد نمواً سريعاً في السنوات الأخيرة، وإن كانت نسب النمو أقل من نسب نمو الإقتصاد الصيني، مما جعلها، من حيث القيمة الفعلية للناتج القومي الداخلي الإجمالي، تأتي في المرتبة العالمية الرابعة بعد كل من الولايات المتحدة والصين واليابان، وقبل ألمانيا.
والى جانب ذلك، فإن جواً من عدم الثقة بقي منذ سنوات طويلة يسود بعض أوساط النخبة الحاكمة في الهند تجاه الصين، بعد سلسلة من الإحتكاكات والمواجهات المسلحة، خاصة في مطلع الستينيات، بلغت أوجها في حرب حدودية جرت في أواخر العام 1962، هذا الى جانب التنافس بين البلدين في مجال التحالفات الدولية. حيث كانت الصين الشعبية، لفترة طويلة ابان "الحرب الباردة"، أقرب الى باكستان، المنافس التاريخي للهند منذ العام 1947، عام انتهاء الإستعمار البريطاني للهند، وتقسيمها الى بلدين: الهند وباكستان، على أساس وبحجة التنافر الديني بين الهندوس والمسلمين، وهما بلدان أصبحا ثلاثة في العام 1971 مع انسلاخ بنغلادش (التي كانت تُعرف باسم باكستان الشرقية بين العام 1947 والعام 1971) عن باكستان (الغربية) وتشكيلها لبلد مستقل تحت هذا الإسم، أي بنغلادش، وهي عملية انفصال جرت بمساعدة فعلية من الهند.
***
وفي الإنتخابات النيابية الأخيرة، التي نحن بصددها، لم تتمكن "جبهة اليسار" من تحقيق نتيجة تضعها في وضع مشابه لما كانت عليه بعد الإنتخابات السابقة، إنتخابات العام 2004. بل الذي حصل هو العكس. وجدير بالذكر أن "جبهة اليسار" تتشكل من أربعة أحزاب وطنية، أي لها حضور على امتداد البلد وليس في إطار ولاية أو قومية أو طائفة محددة. وهذ الأحزاب الأربعة هي، بالإضافة الى الحزب الشيوعي الماركسي، الحزب الشيوعي الهندي، الذي كان الحزب المعترف به سابقاً من قبل الحزب الشيوعي السوفييتي، و"كتلة الى الأمام لعموم الهند"، و"الحزب الإشتراكي الثوري". وكلها أحزاب تتبنى الفكر الماركسي.
ففي حين كان لجبهة اليسار 59 مقعداً في المجلس النيابي المنبثق عن انتخابات العام 2004، حصلت في الإنتخابات الأخيرة على 24 مقعداً فقط، أي بتراجع بلغ 35 مقعداً. وحصل الحزب الشيوعي الهندي/الماركسي من بين الـمقاعد الـ 24 على 16 مقعداً، وهو أقل عدد من المقاعد يحصل عليه الحزب في البرلمان منذ تأسيسه في العام 1964 كانشقاق عن الحزب الشيوعي الهندي. حيث حصل في أول انتخابات شارك فيها، في العام 1967، على 19 مقعداً، وهو كان الرقم الأدنى له منذ ذلك التاريخ. هذا، في حين حصل الحزب الشيوعي الهندي في الإنتخابات الأخيرة على 4 مقاعد في المجلس النيابي، وكل من الحزبين الآخرين من "جبهة اليسار" على مقعدين لكل منهما. أما في العام 2004، فقد حصلت أحزاب "جبهة اليسار" الأربعة على 43، 10، 3، 3 مقاعد لكل من الأحزاب المذكورة أعلاه حسب الترتيب. أي ان جبهة اليسار تراجعت تراجعاً كبيراً من حيث عدد المقاعد في المجلس النيابي، وإن كان التراجع في نسبة الأصوات أقل من ذلك كثيراً. لكن النظام الإنتخابي القائم على أساس الدوائر، كما هو الحال في بلد مثل بريطانيا، أعطى هذا التراجع الكبير في المقاعد. والأمر يتسمّ بجدية خاصة نظراً لأن التراجع الأساسي في المقاعد، والى حد ما في نسبة التصويت، حصل في الولايتين اللتين كانت أحزاب اليسار واسعة النفوذ فيهما خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهما ولايتا البنغال الغربي وكيرالا.
وقد أقرّ الحزب الشيوعي/الماركسي والأحزاب الأخرى في جبهة اليسار بجدية هذا التراجع. فقد ذكر بيان صدر عن المكتب السياسي للحزب الشيوعي الهندي/ الماركسي يوم 19/5 الماضي، أي بعد ثلاثة أيام من الإعلان الرسمي عن نتائج الإنتخابات، أن "التراجعات الجدية للحزب الشيوعي/الماركسي وأحزاب اليسار في البنغال الغربي وكيرالا أحدثت قلقاً عميقاً. فقد خسر الحزب الشيوعي/ الماركسي 25 مقعداً عن هاتين الولايتين. وحصل الحزب على إجمالي 16 مقعداً بنسبة أصوات بلغت 5،33 بالمئة تشكل تراجعاً محدوداً عن النسبة التي حصل عليها في انتخابات "مجلس الشعب" في العام 2004، وهي 5،66 بالمئة. ولا بد من دراسة جدية للأسباب التي أدت الى هذه التراجعات. وهناك اعتبارات على الصعيدين الوطني العام والمحلي لعبت دوراً في هذا الإنجاز الضعيف. وستكون هناك مراجعة نقدية ذاتية من قبل اللجان الخاصة بالولايتين ومن قبل اللجنة المركزية، بحيث تشكل أرضية لخطوات تصحيحية. وسيقوم الحزب بكل جهد ممكن لاستعادة ثقة تلك القطاعات من الشعب التي ابتعدت عنه". وبينما هنأ المكتب السياسي الشعب في ولاية تريبورا على نجاح كلا مرشحي جبهة اليسار بقيادة الحزب في الحصول على المقعدين المخصصين للولاية في المجلس النيابي العام، أكد الحزب بأنه سيشكل مع حلفائه في جبهة اليسار "معارضة مسؤولة" في البرلمان الوطني.
ويشار هنا الى أن الحزب الشيوعي الهندي/الماركسي وجبهة اليسار التي يقودها شكّلا، عشية الإنتخابات النيابية، جبهة أوسع أطلقوا عليها اسم "الجبهة الثالثة"، وكانوا يطمحون الى منافسة جدية للجبهتين الأكبر في الساحة السياسية الوطنية الهندية، حزب المؤتمر الوطني وحلفائه من جهة، وحزب "بهاراتيا جاناتا" وحلفائه من جهة أخرى. حتى أن بعض التصريحات أوحت بوجود طموح بالوصول الى سدة الحكومة كبديل عن كلا القطبين الكبيرين. وكان بعض استطلاعات الرأي، عشية الإنتخابات، يعطي "الجبهة الثالثة" أكثر من مئة مقعد في المجلس.
وضمت "الجبهة الثالثة"، بالإضافة الى جبهة اليسار، ثمانية أحزاب أخرى لها حضور وطني أو إقليمي، أي في ولاية واحدة، أو عدد قليل من الولايات، يمكن اعتبار عدد منها من يسار الوسط، وبعضها كان قد تحالف في الماضي مع أحد الحزبين الكبيرين، بما في ذلك مع حزب اليمين الرئيسي، حزب "بهاراتيا جاناتا". والمفارقة في هذه الإنتخابات أن معظم هذه الأحزاب الثمانية استفاد من هذا التحالف وزاد تمثيله (خمسة من أصل ثمانية أحزاب زاد تمثيلها)، في حين تراجع تمثيل جبهة اليسار، كما سبق وذكرنا.
وقد تضمن بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي الهندي/الماركسي انتقاداً واضحاً للتسرع الذي جرى به تشكيل هذه "الجبهة الثالثة" قبل فترة وجيزة من موعد الإنتخابات (أُعلن عن تشكيل هذه الجبهة رسمياً يوم 12/3/2009، أي قبل شهر من بدء العمليات الإنتخابية)، بحيث افتقدت هذه الجبهة في أعين الشعب، وفق البيان، "للمصداقية والقابلية للحياة لإمكانية تشكيل بديل على المستوى الوطني". وذهب أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الى حد الحديث عن سياسة "إقطع والصق" في تركيب هذا التحالف، والتعبير هنا مستعار من لغة الحاسوب (الكومبيوتر) الرائجة والمعروفة من قبل مستخدميه. ولم يكن هذا التقييم بعيداً عن الواقع. حيث لم تكد تنتهي العملية الإنتخابية حتى انتقل بعض الأحزاب المشاركة في "الجبهة الثالثة" الى الإلتحاق بالحزب المنتصر، حزب المؤتمر، في الإئتلاف الحكومي!
ولا شك أن تشكيل مثل هذه التحالفات الفضفاضة، ذات البرنامج العام والشعارات البراقة وغير المحددة، لا يجعل الناخب أمام خيارات وتخوم سياسية واجتماعية واضحة، خاصة مع تنوع تاريخ وخلفيات القوى المشاركة في "الجبهة الثالثة" غير "جبهة اليسار". ومن الواضح أن قادة الحزب الشيوعي/الماركسي قد اعتبروا هذه الخطوة التكتيكية، كما جاء في بيانهم، خطوة متسرعة، وعملياً اعتبروها خاطئة. ومن المحتمل أن يقدموا توضيحات إضافية إثر اجتماعات الهيئات المركزية المعنية، سواء اللجنة المركزية للحزب أو اللجان القيادية في ولايتي البنغال الغربي وكيرالا، كما أشار بيان الحزب.
ولكن من الآن، بدأت بعض التحليلات تظهر من قبل معلّقين يساريين وغير يساريين. وفي حين أشار بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي/الماركسي الى أن مكاسب حزب المؤتمر الوطني الإنتخابية تعود جزئياً الى عدد من القوانين والإجراءات الإجتماعية التي دفعت قوى اليسار لتمريرها في السنوات الماضية، ابان التحالف بين الطرفين (2004-2008)، ومن بينها قانون حمل اسم "ضمان التوظيف الريفي الوطني"، يضمن للمزارعين وسكان الريف مئة يوم من العمل مدفوع الأجر سنوياً، وهو قانون مؤثر بالنسبة لبلد ما زال أكثر من 70 بالمئة من سكانه يعيشون ويعملون في الريف وفي المجال الزراعي، وثلاثة أرباع سكان البلد ككل ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر، بالرغم من التطور الكبير في النمو الإقتصادي العام للبلد.
لكن المفارقة تكمن في كون الحزب الشيوعي/الماركسي، الذي يقود حكومة اليسار في ولاية البنغال الغربي، قام بجملة من الخطوات والإجراءات في الولاية في السنوات الأخيرة، انعكست عليه بشكل سلبي لدى جمهور الريف، خاصةً، بمن فيهم المسلمون، الذين يشكلون زهاء ربع سكان الولاية. فقد عمدت حكومة كلكوتا (أو كولكاتا، كما يكتبونها في الهند)، عاصمة البنغال الغربي، الى تشجيع استقطاب المشاريع الصناعية وتطويرها في الولاية، أحياناً من خلال تسهيل تملك الشركات الكبرى، الوطنية والأجنبية، لأراضٍ زراعية لإقامة المصانع عليها، كما حدث مع شركة "تاتا" الشهيرة، التي تُصنّع سيارة "نانو" الصغيرة زهيدة الثمن، التي كان من المفترض أن تقيم مصانعها في منطقة بلدة سينغور وتبدأ بالإنتاج في العام 2008، لكن معارضة سكان الأرياف المرشحة أراضيهم للمصادرة، ودعم قوى منافسة للحكومة المركزية في البنغال، دفع الى تعطيل المشروع في نهاية المطاف، وانتقال مصنع "نانو" الى ولاية هندية أخرى. وحصل ما هو أسوأ مع شركة صناعات كيماوية إندونيسية كان يجري العمل على مصادرة أراضٍ زراعية واسعة (أكثر من 40 كم مربع من الأراضي) في منطقة نانديغرام لتحويلها الى منطقة صناعية خاصة لها. فقد وصلت الأمور الى درجة عالية من الحدة، حيث قامت قوات الشرطة المحلية في نانديغرام الى إطلاق النار على تظاهرة لسكان الريف المتضررين من إجراءات التصنيع في شهر آذار/مارس 2007، مما أدى الى سقوط 14 قتيلاً على الأقل وإصابة عشرات الجرحى.
والى جانب دور بعض القوى اليمينية والوسطية التي حاولت إضعاف جبهة اليسار في البنغال الغربي لحساباتها الإنتخابية، هناك أطراف يسارية متشددة مختلفة تبنّت مطالب أهل الريف. كما ان حركة مسلحة تتطور منذ عدة سنوات في أرياف البنغال الغربي وولايات هندية أخرى، وباتت حاضرة، حسب بعض المصادر الهندية، في ما مجموعه 40 بالمئة من مساحة الهند، بقيادة التيار الماوي (نسبة الى قائد الثورة الصينية ومؤسس جمهورية الصين الشعبية، ماو تسي تونغ)، وهو تيار معروف باسم الحركة الناكسالية، نسبةً الى قرية ناكسالباري، التي انطلقت منها هذه الحركة بعد تمرد فلاحي جرى في القرية في العام 1967.
ومهما كان دور كل هذه العوامل في تراجع اليسار في الإنتخابات الأخيرة، فإن من الجلي أن الوضع بات يتطلب مراجعة جدية ودراسة للأسباب الحقيقية لهذا التراجع، والعمل، كما جاء في بيان الحزب الشيوعي/الماركسي، على استعادة ثقة القطاعات الشعبية التي ابتعدت في السنوات الأخيرة عن الخيار اليساري، سواء أجرى هذا الإبتعاد لصالح حزب المؤتمر الوطني، حزب السلطة صاحب النفوذ الواسع عبر البلاد، أو لأحزاب شعبوية محلية أخرى، أو لصالح الحركة المسلحة والإنكفاء عن التعاطي مع العملية الإنتخابية.
ولا شك أن التوزيع غير المتكافئ للثروة الناجمة عن التنمية الإقتصادية السريعة في السنوات الأخيرة، حيث بلغت نسبة نمو الإقتصاد الهندي حوالي 8 بالمئة سنوياً خلال الأعوام الأربعة الأولى من حكومة مانموهان سينغ، وكذلك تنامي الهوة بين كبار الأثرياء في البلد، ومنهم من باتوا في مصاف أصحاب المليارات، كما صنفتهم مجلة "فوربس" الأميركية، من جهة، والقطاع الواسع من الفقراء والمعدمين في هذا البلد الذين بالكاد يلمسون أية نتائج إيجابية لهذا التطور الإقتصادي، أو يدفعون الثمن أحياناً كما جرى في العديد من حالات مصادرات أراضي الريف لصالح المشاريع التصنيعية والشركات المحلية والأجنبية، هذه العوامل كلها تبقى عناصر تهدد مستقبل اليسار في الهند، إذا لم يحسن التعامل معها، ولم يقترب مجدداً من مشاكل وهموم القطاعات الواسعة من شغيلة الشعب، التي كان دائماً يسعى الى تمثيلها في سياساته وفي الأهداف التي يعمل على إنجازها على طريق بناء مجتمع أكثر عدالةً وأقل إجحافاً في هذا البلد- القارة، المتزايد الأهمية والدور على الصعيد العالمي.