وعي الكيلاني بالزمن السوفياتي: نقد ذاتي أم مراجعة إصلاحية؟


زهير الخويلدي
2009 / 6 / 4 - 09:11     

وعي الكيلاني بالزمن السوفياتي: نقد ذاتي أم مراجعة إصلاحية؟
زهير الخويلدي
"ينبغي لنا أن نجازف بقول أشياء معرضة للنقض شريطة أن يكون في هذا إثارة لقضايانا الحيوية"
(كلام قاله الأب ديتريش بنهوفر سنة 1944 وذكره روجي غارودي في ماركسية القرن العشرين)
استهلال:
لم يقتصر الحلم على الفلاسفة والرواد والقادة الأول وإنما أثر أولئك الحالمين في أفراد وناشطين نسجوا على منوالهم وساروا في الطريق الذي رسموه وصاغوا نظريات وألفوا هم بدورهم حكايات كبرى بغية إيجاد مجتمع أفضل. هذا لا يعني أن أحلام الفلاسفة تتناسل بل ربما كان شأنها هو التعبير عن تطلعات كل جيل في كل بلد إلى تغيير الواقع انطلاقا من حاضر يبدو كئيبا إلى مستقبل أكثر إشراقا.
إننا نعيش في بداية القرن الواحد والعشرين بعد نهاية الزمن السوفياتي وسطوة الإمبراطورية الأمريكية على صورة كبيرة للمعمورة تبدلت فيها العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول بشكل معتبر وتغيرت فيها المعطيات القديمة لمشكلاتنا تغيرا جذريا بحيث بات من الضروري أن نتقن "فن التفكير وسط عاصفة الصحراء العدمية التي تبتلع واحات الوجود المتبقية" وأن نحسن طرح أسئلتنا الشائكة وندقق في طرح الإشكاليات عوض المسارعة إلى إيجاد الحلول والبحث عن الأجوبة.
بيد أن ما تحتاجه الشخصية ذات النمط الديمقراطي ليس الانغماس في أحلام اليقظة وانتظار الوعود عساه تتحقق في عالم السماء وإنما العودة إلى الوقائع ذاتها والهبوط إلى الأرض والإعراض عن التناقضات الثانوية والخلافات الفرعية والإقدام على التفكير في الجوهري والتكلم بلغة المنعطفات من أجل تمكين الوعي من اجتياز حركة التاريخ والتطلع الطموح إلى الأخذ بزمام الصيرورة قصد بناء المستقبل وفق خطة علمية ومن منظور بصيرة نقدية .
هذا الأمر قد ينطبق على الأستاذ محمد الكيلاني الذي فاجأنا بكتاب كبير الحجم عنوانه "التجربة السوفياتية: اشتراكية أم رأسمالية؟ وبعنوان صغير هو: نحو تجديد المشروع الاشتراكي، وقد جاء المؤلف في إحدى عشر فصلا مع مقدمة عامة وخاتمة عامة وضم 421 صفحة مع ملحق فيه العديد من النصوص والوثائق والمتفرقات تخص تاريخ الحركة الشيوعية والاشتراكية في العالم ، إضافة إلى ثبت في المراجع المعتمدة سواء مقالات أو كتب أو رسائل أو مقابلات أو معاجم مترجمة إلى العربية أو مكتوبة باللغة الفرنسية.
ما نلاحظه هو وجود تقديم أولي قام به رفيق دربه طارق شامخ قدم فيه سيرة الكاتب الذاتية ونشاطاته وإبداعاته علمية والمحطات النضالية الكبرى التي مر بها وبين فيه جزئيا الغرض من تأليف هذا الكتاب وهو "إعادة قراءة التجربة الاشتراكية والشيوعية في تونس والعالم على أساس نقد جوهري لكيفية تعامل الحركة مع الماركسية وإعداد العدة لإحداث قطيعة ابستيمولوجية في مستوى الفكر الذي يحركها" .
1- إثارة المشكل:
المشكل الفلسفي الذي طرح في هذا الكتاب هو طبيعة الدولة التي تمخضت عن الثورة البلشفية التي كانت بصدد البناء في الاتحاد السوفياتي، وربما تكون فرضيات معالجة هذا المشكل هي إما أن تكون اشتراكية أو رأسمالية أو مرحلة انتقال من الثانية إلى الأولى.
"شهد مطلع القرن العشرين ميلاد ظاهرة الشيوعية وتزامنت نهايته مع أفولها، فهل كانت هذه المحايثة مجرد مصادفة أم أنها حاملة أكثر من معنى؟ وهل كان موت الشيوعية مجرد اندثار لإمبراطورية أو تحطيمها لحلم أو يوتوبيا؟ أيعني ذلك إشارة إلى خلاص جماعية من مملكة الشر أم تهافتا لإمكان كل أمل في قيام مجتمع إنساني تسوده الوفرة والعدالة والسلم؟"
الإشكالية المركزية التي عالجها الكاتب هي التالية:
هل كانت التجربة السوفياتية تجربة اشتراكية قادتها الاشتراكية العلمية لكن حالفها الفشل أم أنها تجربة قادها فكر وسياسة خليط بين الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية حكم عليها بالعجز على الخروج من الإطار الرأسمالي رغم ما رافقه من خطاب شيوعي؟
يبدو أن رهان الكاتب الأول هو القيام باستفاقة وتدشين انطلاقة ثانية وضع فيه للطبقة العاملة برنامجا لبناء مجتمع يتيح تفتح الإنسان وخط فيه منهجا هو في نفس الوقت معركة فكرية مع الأخطاء وتصفية حساب مع الممارسات العرجاء والنظريات الجوفاء وطريقة علمية لبناء هذا المجتمع.
لقد كانت غاية مراد الكاتب هو فهم الكيفية التي حسم بها الصراع بين الطريق الرأسمالي والطريق الاشتراكي وتحديد أسلوب الإنتاج في عملية إعادة الإنتاج لعلاقات الإنتاج وللطبقات الاجتماعية وعلاقة الهيمنة بين البرجوازية والطبقة العاملة. بحيث كانت ثمة رغبة كبيرة لديه في التقييم والنقد العميق للمقولات الجامدة من أجل تحرير العقل من الكوابيس وتنزيل التفكير والفعل الإنسانيين إلى ميدان النسبية وقصد التخلص من الإطلاقية في الأحكام وتجاوز النظرة العقائدية، وقد تجلت هذه الرغبة في استعماله لمفاهيم المجهود النقدي والإثراء والمراجعة ومناقشة أطروحات وقضايا كانت بديهية تتعلق بالاشتراكية والدولة والحزب. ثم انه وضع نفسه في تقليد علمي معلوم وجماعة أكاديمية تميزت بإنتاجها لنصوص ومؤلفات تجديدية في الفكر الماركسي مثل توني كليف وجورج لوكاتش وشارل بيتلهايم في كتابه "الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي" ونيكوس بولانتزاس وكريستيون بالوا وسمير أمين وباناتاي ايستراتي وبوريس سوفارين.
أما دواعي السعي إلى المراجعة والتجديد فيحددها كما يلي:
- العديد من الانحرافات ( في النظرية أم في الممارسة)
- وجود مواطن ضعف حكمت على التجربة بالفشل
- سيطرة المقولات الإيديولوجية والنظرية والسياسية والاقتصادية والتنظيمية للأممية الثالثة.
- التعامل مع المجهود النقدي وما قدمه من مقارنات ووقائع ومعلومات على أنه تشويه ومعاداة للشيوعية وبالتالي رفضها والتقليل من شأنها وتهميش القائمين عليها واستبعاد أصحابها.
- فرضية الوقوع في الخلط بين العلمي والطوباوي في المشروع الاشتراكي. والذي أدى بها إلى العجز عن الخروج عن المنظومة الرأسمالية.
يخط الكاتب نقطة اللاعودة مع التلقي السياسي السائد للماركسية بقوله:"نحن لا نتفق مع العديد من الأطروحات اللينينية بشأن الدولة و"دكتاتورية البروليتارية" والديمقراطية الاشتراكية. ولا نعتقد أن الحركة الشيوعية بإمكانها أن تقيم تجربتها بموضوعية دون أن تضع على المحك مجمل النظريات التي كانت تتبناها وتدافع عنها والتي قادت كل تجربتها الماضية وانتهت بها إلى فشل صريح" .
تتمثل رحلة الكاتب في هذا المؤلف من الانتقال من المعاملة الاعتيادية مع النصوص والتجارب إلى تبني الفكر النقدي "لأن الفلسفة بفضل الماركسية وللمرة الأولى لم تعد تزعم التحليق فوق الأشياء وفوق البشر وتاريخهم بل أصبحت تهدف إلى أن تكون أداة امتلاك الوعي ومحرك العمل الذي به يغير الإنسان الأشياء ويغير نفسه ويبني بيده تاريخه" .
لكن إلى أي مدى تمكن محمد الكيلاني من الحسم مع الأحكام الإطلاقية والتعميمات الإيديولوجية وممارسة النقد السليم للتجربة السوفياتية؟
2- المسلمات والفرضيات القبلية:
في الواقع إذا أمعنا النظر مليا في فصول الكتاب ونظرنا إلى النصوص بعيون العقل والتجربة لا بعيون العاطفة والحلم فأننا ننتبه إلى أن الكاتب يعالج قضية أسباب انهيار المعسكر الاشتراكي بتلك السرعة الرهيبة ويقترح جملة من المقترحات من أجل تدارك الموقف وأخذ زمام المبادرة من أجل استئناف المشروع الاشتراكي، ولكنه ينطلق من عدة مسلمات ومصادرات غير مبرهن عليها ويبني عليها كل أحكامها وكشوفاته والتي يمكن أن نذكر منها ما يلي:
المسلمة الأولى هي حرصه على إعادة "تأكيد المادية التاريخية باعتبارها الأساس الفلسفي والنظري الذي نتناول به تطور المجتمعات ونتطلع من خلاله للمستقبل ونؤكد بواسطته مشروعية البديل الاشتراكي. يظهر هذا الأمر بوضوح في الفصل الأول المعنون بالأساس المادي التاريخي لتطور المجتمعات والذي عرج فيه على صيرورة تطور المجتمعات وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وصراع الطبقات.
يقول حول هذا الأمر:"وفي ظل الاشتراكية يحصل التوافق بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج وتتوفر الظروف الموضوعية للخلاص النهائي من التملك الخاص لوسائل الانتاج الاجتماعية ومن انقسام المجتمع الى طبقات" .
المصادرة الثانية أنه يعتقد منذ البداية أن "الشيوعية نظرية علمية وفلسفة تغيير الواقع وإيديولوجية تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال والاضطهاد الطبقيين". وكانت هذه المسألة واضحة في الجزء الخامس من الفصل الأول لما تحدث عن الثورات الاجتماعية بماهي قاطرة التاريخ وحاول توصيف الرأسمالية في طورها الراهن والكشف عن تناقضاتها الرئيسية ولينتهي إلى نتيجة مقررة سلفا وهي أن العمال هم المحمل الطبقي للبديل الاشتراكي. إذ يقول في هذا السياق:" وتأسيسا على ما سبق يتضح أن الاشتراكية والشيوعية ليست:"مثلا أعلى ينبغي للواقع أن يتطابق معه" بل هي حركة الواقع في تطوره السائرة في اتجاه إلغاء الأوضاع القائمة وتعويضها بأخرى تدل عليها حركة السير نفسها باعتبارها حركة نابعة مما هو موجود في الواقع الفعلي تعتمد عليه الطبقة العاملة في كلية مشروعها وأهدافها".
المسلمة الثالثة أنه يضع نفسه كباحث في موقع( غير برجوازي وغير بروليتاري) الحياد الموضوعي والمتنزه من كل الأحكام المسبقة والصراعات التي شقت الحركة الشيوعية ويفترض أنه قادر على التمييز بين التحامل والنقد السليم وغير متأثر بهذه الخلافات ويتبع خطة نظرية تتمثل في تثمين مجهود الجميع بقوله:"نحن نعتقد أن الفكر الاشتراكي لم يتوقف عند ماركس وأنجلس بل أثراه العديد من القادة الشيوعيين في العالم بمن فيهم أولئك الذين كانت لهم مواقف معارضة لخط الأممية الثالثة ...بليخانوف ولينين وروزا لوكسومبور وليبنيخت وكاوتسكي وتروتسكي وماو وستالين وأنور خوجا وبوخارين وغرامشي وغيرهم". ما نلاحظه هو ذكر ستالين وماو تسي تونغ من بين الذين لهم الفضل في الإثراء والتجديد.
المصادرة الرابعة تتمثل في تأكيده على أن الرجوع إلى مؤلفات ماركس وانجلس وخاصة كتاب رأس المال وتنزيل تنظيرات لينين في إطارها التاريخي وفي ظروف الصراع الطبقي الملموسة هما من أحسن المعاول الممكنة للوصول إلى استنتاجات جدية وتجديد المشروع الاشتراكي.
ماهي أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي حسب الكيلاني وتعثر المشروع الاشتراكي والشيوعي؟
3- أسباب تفكك الاتحاد السوفياتي:
جاء في مقررات المؤتمر الثالث للأممية الثالثة ما يلي: "إن دفع الصرح المترنح للرأسمالية إلى الانهيار والخراب يبقى الهدف الرئيسي للأحزاب الشيوعية ومهمتها الراهنة" . لكن الذي حصل هو العكس ديمومة الرأسمالية في ثوب امبريالي معولم أشد فتكا وتوحشا وانهيار المعسكر الاشتراكي فإلى ماذا يعود ذلك؟
- غياب الديمقراطية داخل مؤسسات الحزب والدولة واعتبار نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي تظاما كليانيا.
- الجمود العقائدي الذي مثل نمط التجربة الاشتراكية والشيوعية
- انحسار الفعل السياسي في الحزب الشيوعي واللجنة المركزية والمكتب السياسي
- الوثوقية والدغمائية دفعت بالتجربة الاشتراكية والشيوعية إلى اليسراوية الطفولية.
- الاقتصادوية كانت قرينة المغامرية في التجربة الشيوعية.
- النظرية اللينينية للحزب هي سبب تسرع عملية البقرطة في الدولة.
- حالة الطبقة العاملة في ظل الدولة السوفياتية مستغلة ومفككة وظروفها المعيشية سيئة حيث وضعت في محتشدات وكانت مجرد يد عاملة غير حرة ونسب حوادث الشغل مرتفعة ومجردة من وسائل تنظمها النقابي والسياسي
- عدم قيام تحالف جدي بين الطبقة العاملة والفلاحين ومشركة الفلاحة من فوق عبر الكمونة والتعاونيات أدي إلى نتائج كارثية وتزايد أشكال الاغتراب والاستغلال والإخضاع عن طريق القوة.
- تفشي البطالة وتدني مستوى الأجور والنظر إلى المرأة كقوة إنتاج وضعف الاعتناء بالتعليم وتحوله إلى جزء من العلاقات الطبقية.
- تحول الجيش الأحمر من جيش الشعب المسلح إلى جيش القصر وسيطرة جهاز البوليس السياسي على كافة مؤسسات الاتحاد.
- ضعف الجهاز القضائي وعدم استقلاليته وتأخر المنظومة القانونية وهرمية التنظيم الإداري
- وضع قيود على مبدأ الاقتراع العام وضعف تمثيلية العلماء والمفكرين في دوائر اتخاذ القرار السياسي حيث لا يمثلون في اللجنة المركزية إلا بنسبة 3% والعمال والنقابيين2 % والديبلوماسيين4 % والعسكريين7 % .
- تميز نمط التملك وأسلوب تسيير العمل ونظام الأجور والانضباط المفروض على العمال على أن علاقات الإنتاج في الاتحاد السوفياتي كانت علاقات إنتاج رأسمالية.
- فشل المخططات الخماسية الثلاث ناتج عن بيروقراطية المراجعات والتوقعات وتعميقها الهوة بين الفلاحة والصناعة والتجارة والخدمات وغياب التكامل والتوازن بينها وزادت فوضى الإنتاج التي عطلت النمو.
- استبدال التخطيط بالتسيير حسب الأوليات وتضاعف التدخل البيروقراطي للسلطة المركزية وحصول اختلالات بين الفروع وتحول نمط الإنتاج إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية.
- التناقض الصارخ بين الناتج الاجتماعي الإجمالي والطابع الفردي للتملك وبين تضخم الإنتاج والتراكم وضعف التوزيع وقلة الإقبال والاستهلاك.
- الصراعات الإيديولوجية والخلافات السياسات لم تكن تعكس التحولات الاجتماعية والتناقضات الطبقية بل انتهت إلى محاكمات كبرى وتصفية دموية للخصوم في 1934 و1936 و1937 حيث تحول الصراع الفكري والسياسي الثري إلى دراما سياسية.
" إن نظرة سريعة على بنية النظام السياسي في الاتحاد السوفياتي وعلى علاقة الحزب الشيوعي السوفياتي بمختلف أجهزة الدولة تبين أن نظام الحكم الذي أقامه والذي تمثله "دكتاتورية البرولوتاريا" هو نظام كلياني وأن الحزب الشيوعي كان أداة استبداد شرقي باسم الاشتراكية والشيوعية" .
عن سؤال ماذا حدث في الاتحاد السوفياتي؟ يجيب الكيلاني كما يلي: هكذا تتوسع الأزمة وتأخذ ملامح أزمة فائض إنتاج عام ويعتمد على شارل بتلهايم الذي لاحظ وجود ثلاث خصائص تميز الاقتصاد السوفياتي وأدت به إلى أزمتي 33 و37 وهي:
- مع تزايد نسب التراكم ترتفع الأجور الاسمية بينما تنخفض الأجور الفعلية
- تقسيم مدخرات التراكم في فترة الانتعاشة
- ظهور أزمات فائض الإنتاج المطلق للرأسمال ناتج عن هيمنة القيمة التبادلية وعدم اكتراث بالقيمة الاستعمالية.
السبب حسب الكيلاني هو هيمنة الدولة على الملكية والتخطيط وتدخلها من أجل تحقيق أقصى نسب تراكم لقطاع الإنتاج في وسائل الإنتاج. ويرى الكاتب أن السلطة السوفياتية اعتمدت سياستين اقتصاديتين الأولى أثناء التجربة الـتأسيسية وفي زمن التشكل وتسمى شيوعية الحرب والثانية انطلقت بعد انتصار الثورة وتتمثل في السماح بوجود ثلاث قطاعات كبرى هي:
- القطاع العمومي الاشتراكي
- القطاع الخاص في مجال الفلاحة والتجارة والصناعة
- رأسمالية الدولة الاحتكارية
غير أن حدوث تحولات اقتصادية واجتماعية كبرى أدت إلى هيمنة النمط الرأسمالي وتتمثل مظاهر التحولات في ما يلي:
- تجريد الفلاحين من ملكيتهم ومن مواطن مهنهم الأصلية وتجميعهم بالقوة في محتشدات.
- تجريد الحرفيين من أدوات إنتاجهم وتحولهم إلى خدمة الوحدات العملاقة التابعة للدولة.
- ضرب استقلالية النقابات وتحويلها إلى مجرد تابع لإدارة المؤسسات.
- إخضاع العمال لاستبداد المؤسسات العنيف
- مركزة رأس المال بين أيدي الدولة وإخضاع التراكم والنمو الاقتصادي لمخططات الدولة.
النتيجة التي ينتهي إليها الكاتب هي: طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تدرج الى السيادة هو الرأسمالية التي قضت بالعنف على كل أشكال الإنتاج الماقبل رأسمالي بأن أخضعت العمال لشروط التراكم من أجل التراكم" .
يميز الأستاذ بن عزيزة المسافة الكبيرة التي تفصل ماركس عن الايديولوجيا الماركسية والثمن الباهض الناتج عن الخلط بينهما وعن الأخطاء النظرية وذلك خاصة عندما يتعلق الأمر بممارسة تريد أن تكون تطبيقا دقيقا لنظرية ما. ولاشك في أن انحلال الدول الشيوعية هو أيضا عقاب للقراءة الدوغمائية الخاملة لنصوص ماركس المتعلقة بالدولة" .
لو عدنا من جهة ثانية إلى روجي غارودي في كتابه حفارو القبور، نداء جديد الى الأحياء فإننا نجده يعالج القضية بطريقة مختلفة فهو يتهم الماركسية السوفياتية بالأصولية التي يعرفها بكونها:" ادعاء معرفة الحقيقة المطلقة وفرضها على الآخرين" ويفسر فشل حركات التحرر الوطني في إقامة دولة الاستقلال باعتمادها على نماذج غربية مفلسة بقوله:"إنها ترددت بين النموذجين الغربيين: السوفياتي والأمريكي وكلاهما اليوم في طور الانحطاط كما الغرب نفسه" .
يصف غارودي مفككي الاتحاد السوفياتي بأنهم أسياد الفوضى استعملوا الدعاية والتعبئة الإعلامية التي تؤدي إلى سيطرة رجال المال والنزعة الفردانية وأحدية السوق والعودة الى الأدغال ويفسر نشأة الاشتراكية باستبدال المجتمع لطبقات الدم الإقطاعية بطبقات المال حيث أصبح اقتصاد السوق هو المنظم الوحيد للعلاقات الإنسانية ،اذ يقول هنا:" كان هذا تحيد الاشتراكية على أساس غاياتها ولم يكن اضفاء الطابع الاشتراكي على أدوات الإنتاج سوى وسيلة لها".
المشكل حسب غارودي أن المعيار كان اقتصاديا ولم يتمكن ماركس من إلحاق حركة التاريخ بحركة الاقتصاد وربط التنمية بالنموذج الكمي الذي تعمل على تأمينه العلوم والتقنيات ومن المعلوم أن ماركس رفض مقولة الحتمية الاقتصادية التي وجدت في كتاب صهره بول لافارغ حينما صرح:" اذا كانت الماركسية هكذا فأنا ماركس لم أعد ماركسيا".
المشكل الثاني هو إهمال الدور الاجتماعي والسياسي الذي قامت بها الأديان وجعل الإلحاد مكونة ضرورية للاشتراكية العلمية ناسيا أن الثورة تكون علمية في وسائلها ولكن أي علم يمكنه أن يوفر لنا غايات نهائية لحياة الناس ويقترح غارودي الانفصال عن حتمية الاقتصاد الليبرالي من أجل تجاوز تناقضات الرأسمالية لأن" الثورة في حاجة إلى عظمة أكثر منه إلى حتمية".
شخص الفيلسوف الفرنسي غارودي ثلاث جوانب سلبية في الماركسية السوفياتية:
- اعتماد دغمائي على القانون الوصفي لتطور الرأسمالية الانجليزية كما أصدره ماركس في القرن19 بعد وضعه لقوانين حسابية بين الاستثمارات المخصصة لإنتاج أدوات الإنتاج وسلع الاستهلاك وتحويلها إلى قانون معياري لتطور الاشتراكية الروسية في القرن العشرين.
المطلوب هو تصور الاشتراكية من خلال غاياتها وليس من خلال وسائلها.
- الخلط بين إضفاء الطابع الاشتراكي والدولنة أو التأميم بطريقة جبرية ودون إعداد وتوعية ودون إشراك والنتيجة هي عسكرة المجتمع واستيلاء أفراد الحزب على السلطات.
- المزج بين التخطيط ودوره التوجيهي ومنهج الإدارة التي تحدد الاستثمارات والأسعار ومعايير الإنتاج والتوزيع التجاري انطلاقا من بيروقراطية مركزية تساعدها أجهزة معينة.
"وقد أدت الجوانب السلبية هذه بالاقتصاد إلى الفوضى وبالحرية إلى السجن" .
كيف نتعامل نحن القراء مع هذه المسلمات والمصادرات التي لم يقع مناقشتها واختبارها؟ هل نعتبرها مجرد فرضيات قبلية ويقينيات بديهية أم نتعامل معها كأسس صلبة لنظرية علمية تتعالى عن كل تاريخية؟
لكن ألم يعلن الكاتب منذ البدء أنه ماضي في تفقد الأسس الصلبة وتحريك المسلمات والحفر في البديهيات وتنسيب المعتقدات؟ ألم يقل هو بنفسه:"إن هذه الممارسات التي بلغت حد الجرائم الشنيعة لم تكن عريضة أو هي وليدة انحرافات جزئية محدودة التأثير بل تتعلق بالأسس التي تقوم عليها، تلك الأسس التي حولت الأحزاب التي مسكت بالسلطة إلى أحزاب مندمجة مع أجهزة الدولة فتبقرطت وأصبحت تمثل مصالح البرجوازية البيروقراطية للدولة أما بالنسبة لتلك التي لم تصل إلى السلطة بعد فقد أصبحت تمثل سياسيا وايديولوجيا شرائح من البرجوازية البيروقراطية التي تتركز مصالحها في علاقة برأسمالية الدولة. وقد انتهت جميعها أخيرا إلى التحلل والتفسخ ووضع كل الأقنعة وتحولت إلى أحزاب بورجوازية لا أكثر ولا أقل" . غني عن البيان أن الكاتب هنا وهو محق في ذلك ينقد الأحزاب الماركسية إلي اعتلت إلى السلطة ومثلت المجتمع السياسي وينقد الأحزاب الماركسية التي نشطت في المعارضة ومثلت المجتمع المدني ويعتبرها جميعا مصابة بالبيروقراطية والبرجزة وإعادة إنتاج النظام السائدة وهي البرجوازية هي الطبقة السائدة المهيمنة والطبقة العاملة هي طبقة مضطهدة ومستغلة.
4- ملاحظات نقدية:
عديدة هي الأسئلة التي تستيقظ في فكري وتجول بخاطري وأنا أطالع هذا الكتاب أهمها:
ماهي الدواعي والأسباب التي حركت الكاتب نحو القيام بما قام به؟ هل هو انهيار المسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين أم تشرذم اليسار التونسي وارتداده على المقولات التي ناضل من أجلها طوال عشرات من السنين؟ هل هي التحديات الكبيرة التي أفرزتها العولمة المتوحشة على بلدان الأطراف أم اندلاع الأزمة المالية وعودة الإيديولوجيا وتزايد الإقبال على كتاب ماركس رأس المال من جديد بعد كاد يطويه النسيان؟ هل هو اعتراف من ناشط ومناضل حلم بالجنة الموعودة بعمق الانهيارات المفجعة أم تبني تكتيك المرونة والواقعية والبحث عن شروط للتكيف مع الظروف السياسية المستجدة؟
ماهو المنهج الذي اعتمده الكاتب في رؤيته التقييمية للتجربة السوفياتية؟ هل اقتصر على المنهج التاريخي الجدلي أم وظف أيضا بعض مناهج المجددين؟ فالي مجدد كان قريبا؟ هل يمكن اعتبار الكتاب ثمرة قراءة غرامشي للتجربة السوفياتية كما يظهر ذلك بشكل علني في صفحة 41 أم نتيجة الاستفادة من انتقادات روجي غارودي وهربيرت ماركيوز وتنبيهات توني كليف وشارل بيتلهايم وسمير أمين ونيكوس بولانتزاس وكريستون بالو؟ ثم كيف يقع التعويل على قراءات متنوعة للتجربة السياسية الماركسية وهذه القراءات توجد بينها اختلافات تصل إلى حد التناقض مثل قراة ماو ولينين وتروتسكي وستالين وأنور خوجة في الآن نفسه؟ هل نحل المشكل بالانتقائية أم بإيجاد توليفة منهجية تضم هؤلاء جميعا؟ أين منهج الكاتب الشخصي وموقفه النظري المستقل في علاقة بالتجربة والنص الماركسيين؟
بيد أن المعضلة الكبرى التي شغلتني كثيرا وألتمس لديه توضيحا عنها هي: ما علاقة النظرية بالممارسة عند الكاتب؟ وأيهما يسبق الآخر؟ هل جاء التنظير نتيجة الحاجة إليه في الممارسة أم اقتضته التناقضات الداخلية في النسق الفكري الماركسي ومحاولته تدارك حركة الواقع واللحاق بالتجربة التاريخية التي هي في حالة صيرورة والبحث عن قراءة دقيقة لها؟
هناك مكاسب عديدة من الكتاب أهمها المراوحة بين التوثيق التاريخي والجدل بين التيارات والاتجاهات داخل الفكر الاشتراكي والشيوعي وثانيا لغة الكتابة القلقة والعبارة الواضحة والتمكن من مادة البحث والصعود إلى مستوى التفكير المجرد واتخاذ مسافة نقدية أحيانا من المواقف المتداولة، زد على ذلك التمكن من تحديد العديد من المفاهيم والمصطلحات التي ظلت ملتبسة في المدونة الماركسية السياسية مثل مفاهيم الحزب والدولة وعلاقات الإنتاج وخاصة الطبقة حيث نجد تعريفا جامعا مانعا في صفحة 12حيث يقول:"إن ملكية وسائل الإنتاج الاجتماعية هي التي تجعل جماعة معينة من الناس تأخذ صفة الطبقة المهيمنة في المجتمع وتستأثر بجميع الامتيازات" .
النتيجة التي توصل إليها الكاتب والتي يمكن مناقشته فيها هي أن طبيعة الدولة السوفياتية هي طبيعة رأسمالية وهذا كان كافيا لتفككها وانهيارها لاسيما وأن الرأسمالية تحمل في ذاتها بذور فنائها، ونراه يصرح حول ذلك ما يلي:"نمط التملك في الاتحاد السوفياتي وأسلوب تسيير العمل ومقاييسه ونظام الأجور ونوعية الانضباط المفروضة على العمال نتبين أن علاقات الإنتاج التي كانت سائدة في الاتحاد السوفياتي هي علاقات إنتاج رأسمالية" .
لكن شيطنة فكرة الرأسمالية حتى وأن كانت مدولنة ومخالفة لرأسمالية السوق وتقديس الاشتراكية واعتبارها الوصفة السحرية هو نوع من الإطلاقية التي تبتعد عن المقاصد المعلنة في مقدمة الكتاب وهي التجديد والمراجعة وإحداث قطيعة ابستيمولوجية في النظر إلى التجارب والوقائع.
ربما تتسرب الينا الإيديولوجيا بالمعنى المشوه للحقيقة والتي قال عنها هابرماس:" نحن نعلم من خبرات الحياة اليومية أننا في الغالب نستخدم الأفكار بصورة كافية لكي ندس في أفعالنا دوافع مسوغة بدلا من الدوافع الفعلية" .
ثم ماذا لو نفترض العكس ونقول أن طبيعة الدولة في الاتحاد السوفياتي هي ذات نمط اشتراكي صريح وبما أن الاشتراكية هي ضد المجرى الطبيعي للنمو الاقتصادي عندما تلغي الملكية الخاصة ومبدأ التنافس والمردود وبالتالي مهددة هيكليا بالانكماش ولهذا السبب فشلت وانهارت ولو كانت الدولة ذات طبيعة رأسمالية لاستمرت وحققت نموا وتقدما سريعا خاصة في ظل استمرارية الأنظمة الرأسمالية الغربية.
الرأي الثاني الذي يمكن مراجعته مع الأستاذ الكيلاني هو دور البنية الفوقية في التجربة السوفياتية ومساهمتها في الخلل والتأزم الذي عانت منهما هذه المنظومة الاشتراكية وخاصة الثقافة الوطنية والدين الوضعي والأخلاق الماركسية التي حاولت تعويض الموروث الثقافي للقوميات والديانات التوحيدية الثلاث والأخلاق الكانطية والأعراف والتقاليد التي كانت سائدة قبل الثورة والتي كانت تتكفل المؤسسات التقليدية بنشرها وحمايتها من كل انتهاك وخاصة مؤسسة الزواج والأسرة والأعياد والطقوس الدينية. في هذا السياق يقول غرامشي:"ان المشكلة المطروحة على بساط البحث هي الوحدة الايديولودجية في الكتلة الاجتماعية التي لا تتماسك ولا تكون واحدة الا بفضل وحدة ايديولوجيتها. لقد قامت قوة الديانات وخصوصا الديانة الكاثوليكية في الماضي والحاضر على شعورها القوي بضرورة الوحدة في العقيدة عند الجمهور الديني كله وعلى نضالها في سبيل الحيلولة دون انقطاع الطبقات المتفوقة فكريا عن الطبقات الدنيا...وقد كان اليسوعيون دون شك أعظم صناع هذا التوازن فأحدثوا في الكنيسة للحفاظ عليه حركة تقدمية تهدف الى تلبية مقتضيات العلم والفلسفة ولكن بايقاع هو من البطء والمنهجية بحيث يجعل جمهور الخاملين البسطاء لا يشعرون بالتبدلات المفاجئة وان بدت للمتعنتين ثورية وديماغوجية" .
5- تقييمات من الداخل:
الإشكال هو حكم الكاتب على التجربة السوفياتية من خلال تحديد طبيعة البنية التحتية التي تحكمها وتعامله مع البنية الفوقية على أنها مجرد انعكاس للأولى، لكن ماذا لو افترضنا العكس ورأينا أن الخلل هو الإيديولوجيا وفي التعامل مع الأخلاق والفن والدين والتراث والإصابة بعدوى النماذج الوضعية وتوهم الانتصار الحاسم على الخرافة والرمز والأسطورة وإفراغ هذه السرديات من فعاليتها الاجتماعية. هنا ينبغي أن نتذكر رأي أنطونيو غرامشي حول إمكانية تأثير البنية الفوقية في البنية التحتية والانطلاق منها في عملية التغيير وذلك من خلال دور المثقف العضوي في المجتمع المدني وإحداث الثورة الثقافية من أجل تحقيق ديمقراطية الطبقة العاملة. "إن وعي الذات وعيا نقديا يعني من حيث التاريخ والسياسة خلق نخبة من أهل الفكر: لأن كتلة بشرية ما لا تتميز ولا تصير مستقلة بذاتها دون تنظيم ولا يكون تنظيم دون أهل الفكر أي دون منظمين ومديرين ودون تميز المظهر النظري للفئة النظرية العملية تميزا مشخصا في طبقة من الأشخاص المتخصصين في الإعداد الفكري والفلسفي.فعملية التنمية مرتبطة بأهل الفكر والجمهور وطبقة أهل الفكر تنمو في الكم والكيف فتتضخم من جديد أولا ثم تنعقد بارتباطها بحركة مماثلة في كتلة البسطاء الخاملين الذين يرتقون إلى مستويات ثقافية أعلى" .
في هذا الإطار يمكن تفقد تصور الكاتب للديمقراطية الذي يعلنه كما يلي: "يعبر النظام السياسي في الدولة البورجوازية عن أساليب الحكم التي تمارس بها طبقة الرأسماليين سلطتها ويتراوح بين الديمقراطية والدكتاتورية. وينفرد الشكل الفاشي للدولة عن أشكال الدولة البرجوازية بأساليبه الإرهابية المفتوحة وبنظامه السياسي الكلياني. في حين أن الديمقراطية باعتبارها "نظاما سياسيا يحترم إرادة الشعب" التي يجسده "الاقتراع العام" و"حرية اختيار من يمثله ومن يحكمه" ويضمن الحريات العامة والفردية لكل مواطن" تعني السيادة في إطار عقد اجتماعي يقبل فيه المسود بكل حرية سيادة السائد. لكن لا يعني هذا أن الديمقراطية وفاق بين الطبقات أو هي فوق الطبقات، بل تأخذ بالضرورة الطبيعة الطبقية للطبقة المهيمنة اقتصاديا في المجتمع وقد تأخذ شكل صراع طبقي حاد لا يهدأ إلا بهزيمة سياسية وعسكرية لأحد قطبي الصراع. غير أنها لم تكن كذلك في ظل الشيوعية البدائية لأنها كانت بمثابة أسلوب إدارة الشأن العام من قبل جميع أفراد المشاعة بصور مباشرة ثم تغيرت طبيعتها لما انقسم المجتمع إلى طبقات" .
إن السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: ماهو مفهوم الديمقراطية عند الكاتب؟ هل هي فوق الطبقات أم وفاق بين الطبقات؟ كيف يمكن الجمع بين التنافس الديمقراطي والصراع الطبيعي؟ وهل توجد ديمقراطية مشاعية طبيعية أم أنها قيمة كونية مكتسبة؟ ما الفرق بين الديمقراطية الاشتراكية والديمقراطية الشعبية؟
"استعمل ماركس عبارة "ديكتاتورية البروليتاريا بصفتها وسيلة لتنظيم المجتمع الثوري لكن هذا الاستعمال لا يحل التناقض في فكر ماركس فعندما ينادي بضرورة المرور بهذه الدكترة فهو لا يقر بانها تمثل نظاما سياسيا عادلا. يوجد في ثيم ماركس تعارض جوهري بين قيمة الحرية وقيمة الدولة وذلك ما يفسر رفض ماركس في نقد برنامج جوتا زعم جزب العمال الألماني بناء دولة حرة" . الجواب موجود ولكنه غير واضح:" إن الديمقراطية الشعبية والبروليتارية من زاوية المضمون الطبقي ومن زاوية التاريخ السائر في اتجاه الارتقاء الدائم، تعد تجاوزا تاريخيا وإيديولوجيا ونظريا للديمقراطية البرجوازية. لكن الممارسة عاقت هذا التجاوز عن التحقق" .
في هذا السياق تقول روزا لوكسنبورغ:" ان الخطأ الأساسي في نظرية لينين وتروتسكي هو كونهما تماما مثل كوتسكي يقابلان الديكتاتورية بالديمقراطية...فالديكتاتورية كامنة في نمط تطبيق الديمقراطية لا في في القضاء عليها بخنق الحقوق المكتسبة والعلاقات الاقتصادية للمجتمع البورجوازي وفي غياب هذا الشرط ليس بالامكان تحقيق التحول الاشتراكي" .
فشل التجربة الشيوعية حسب بن عزيزة يعود إلى العلاقة العرجاء بين مركز الثورة ومحيطها إضافة إلى عدم نضج البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية في المركز وعدم تلاؤمها مع المرجعية النظرية الماركسية والسقوط في تعنيف الواقع والانجذاب إلى الرأسمالية أكثر من الانجذاب إلى الاشتراكية والشيوعية والانهماك في تثوير قوى الإنتاج في بلد متخلف. كذلك ينبغي ذكر غموض العلاقة بين السلطة والدولة وبين النقاش السياسي والعمل الثوري وبين النظرية والممارسة وفشل المركز الشيوعي النامي في تصدير الثورة إلى أوروبا المصنعة. في هذا السياق يقول بن عزيزة:" إن أزمة الحركة الثورية والأحزاب الشيوعية أنها كانت أزمة الاعتقاد في إمكان تغيير جذري للنظام الرأسمالي آنذاك" .
عندئذ يظهر العيب في الممارسة وليس في النظرية وفي الوسائل وليس في الغايات والأسباب التي أدت إلى الانهيار والتفكك موضوعية وليست ذاتية ولكن ماهي هذه الوسائل؟ ولماذا لم تحقق النقلة عندما تتوفر؟
خاتمة:
" إن فشل الشيوعية في المركز (روسيا ) هو نتيجة مباشرة لعدم نضج البنية الاجتماعية والاقتصادية لهذا البلد ومن ثمة عدم إمكان تلاؤمها مع المرجعية النظرية لماركس".
ننتهي بالسؤال الشائك الذي طرحه في الخاتمة وهو:" هل كان بإمكان أي من القيادات السوفياتية أن يتجنب المآل الذي آل إليه الاتحاد السوفياتي والذي آلت إليه الاشتراكية؟ "
الجواب كان محيرا وأيضا:" لا نظن ذلك لأن المسألة لا تتعلق بالذات فقط بل بالموضوع، الخارج عن نطاق الذات ولا تتحكم فيه" . لكن ما قيمة العمل الفكري والمجهود النقدي الذي تقوم به الذات الباحثة اذا كانت الأسس المادية التاريخية هي التي تحدد وجهة ومصير الطبقة العاملة وتوفر لها الوسائل الضرورية في صراعها ضد أعدائها؟
يعطي ابن عزيزة تعليلا مغايرا للانهيار في إطار علاقة التجربة السوفياتية بالأحزاب الشيوعية الأخرى في العالم قائلا:" لعل المفارقة الكبيرة التي يتحتم علينا توضيحها هي تلك التي تعلقت بالأحزاب الشيوعية الأوروبية التي توهمت أنها تمثل الامتداد الطبيعي والحصن الحامي للثورة الأم وما فتئت تمجد انخراطها في مسار الثورة البلشفية عضويا وإراديا ولكنها في واقعها كانت كلها مشدودة ومقيدة بوقائع قومية مثلت بحق مراكز عطالة عمقت الهوة بينها وبين مركزية الأممية الشيوعية الثالثة. وإذا صح هذا الافتراض كان لزاما علينا تمييز البعدين المحايثين للظاهرة الشيوعية ذاتها أي كونها ظاهرة غائية في مضمونها الثوري واجتماعية في انصهارها في بنية ثقافية وتاريخية محددة" .
هاهو يضيف في الخاتمة :" ما كان بإمكان أي من قادة الحزب البلشفي والحركة الاشتراكية أن يخرج بالتجربة بمعطياتها الواقعية من المآل الذي آلت إليه. فكان ولابد من أن يحدث الانهيار ونعيش مأساته كي نتحرر من تقديس التجربة والأشخاص ونركن إلى تحكيم العقل النقدي والوعي تمام الوعي بأننا أمام قضايا يطرحها علينا عصرنا نحن بأنفسنا مطالبون بمعالجتها وليس على ماركس وأنجلز أن يقوما بذلك بدلا عنا...لاشك أننا أمام قطيعة ابستيمولوجية إن أحدثناها فتحنا الطريق أمامنا وواكبنا حركة التاريخ وان فشلنا في ذلك بقينا نراوح مكاننا وتجاوزتنا حركة التاريخ" .
ترى هل نتج عن الاختلاج الثوري إحداث قطيعة ابستيمولوجية واعتبار التجربة السوفياتية على مستوى الفكر والممارسة في عداد ماضي العلم والتحضير لبلورة تجربة جديدة مابعد سوفياتية وربما مابعد ماركسية؟ ما طبيعة هذا الحلم الجديد الذي جال بخاطر الكاتب بعد رحلة نضال طويلة؟ هل هي الاشتراكية الديمقراطية من جديد أم الليبرالية التي قضى حياته يناهضها؟ ثم ما معنى "وبذلك يصبح بإمكاننا تجديد ثقة الإنسانية في المشروع الاشتراكي باعتباره بوابة تحررها النهائي من الاستغلال والاستعمار" ؟ عن أي اشتراكية يقصد؟ والى أي مدى يستطيع التعويل على التراث الاشتراكي والشيوعي دون الاستفادة من المرجعيات الإيديولوجية الأخرى من أجل أن يصنع المستقبل ؟ أليس الوقت قد حان للتوجه نحو بناء الكتلة التاريخية التي نظر لها هو نفسه في السابق والتي نراها يجب أن تضم مختلف الناشطين داخل مختلف المرجعيات من أجل استئناف حضاري ثان يقطع مع التعثر والعقلية الإنتظارية ويدشن صفحة جديدة للمسألة الوطنية تقيم علاقة جدلية حقيقية مع ماهو قومي وأممي؟
المراجع:
محمد الكيلاني، التجربة السوفياتية: اشتراكية أم رأسمالية؟ ،تونس 2009
يورغن هابرماس، العلم والتقنية كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل،كولونيا، ألمانيا،2003
غرامشي دراسة ومختارات، جاك تاكسييه، ترجمة مخائيل ابراهيم مخول، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق 1972،
روجى غارودي، حفارو القبور، نداء جديد الى الأحياء، تعريب رانية الهاشم، منشورات عويدات، بيروت، 1993
روجي غارودي في ماركسية القرن العشرين، ترجمة نزيه الحكيم، دار الآداب،الطبعة الخامسة 1983،
حميد بن عزيزة، تحولات التجربة الشيوعية، من المركزية البولشفية الى الأوروشيوعية، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والعلوم، الكويت، المجلد30، العدد 4، أبريل يونيو، 2002،

كاتب فلسفي