على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة... تجارب اليسار الجذري في أميركا اللاتينية تعيد الإعتبار لأممية فعلية


داود تلحمي
2009 / 5 / 19 - 09:06     

ليس صدفة، بالتأكيد، أن تكون الدولتان اللتان تقطعان علاقاتهما مع إسرائيل ابان عدوانها على قطاع غزة في أواخر العام المنصرم وأوائل العام الحالي هما فنزويلا وبوليفيا، في أميركا الجنوبية (اللاتينية). فهناك سمات معينة تميّز هاتين الدولتين عن غيرها: انهما تسعيان الى شق طريق جديد للتحول الإجتماعي السياسي الجذري باتجاه ما اصطَلحا على تسميته بـ"إشتراكية القرن الحادي والعشرين".
إنهما تجسّدان تجربتين هامتين في مطلع هذا القرن الجديد، وبعد أقل من عقدين على انهيار التجربة السوفييتية، في محاولة لتقديم نموذج عملي مختلف، للتحول باتجاه مجتمع أقل ظلماً وتمييزاً، وأكثر عدالةًً وإنسانيةً، مجتمعٍ يحترم حقوق وكرامة مواطنيه، وخاصة أولئك المواطنين الذين طالما ديست كرامتهم وحقوقهم الإنسانية الأولية طوال عقود وقرون طويلة، في وطنهم وعلى أرضهم، حيث يشكلون الغالبية الكبرى من السكان.

لماذا تضامنت فنزويلا وبوليفيا مع شعب قطاع غزة ابان العدوان الإسرائيلي؟

ولأن قيادات البلدين رأتا في العدوان الإسرائيلي على سكان غزة، المُفقَرين والمجوّعين والمُحاصرين، قمة الظلم والإجرام، وانتهاكاً بشعاً للمبادئ الإنسانية الأولية، فقد جاءت ردة الفعل بدون تردد، بقطع العلاقات مع إسرائيل، الدولة المعتدية... وبدون أية خلفيات مضمرة، أو حسابات للمصالح الخاصة، أو أية اعتبارات تكتيكية ودبلوماسية. المسألة بالنسبة لقادة فنزويلا وبوليفيا الجدد هي، في المقام الأول، مسألة أخلاقية، إنسانية، مسألة مبدأ: الصورة واضحة، وليست هناك حاجة للجان تحقيق ولهيئات احتكام دولية، غالباً ما تنتهي تقاريرها في سلال المهملات، بسبب حسابات ومصالح الدول الكبرى ذات النفوذ في هذه الهيئات.
الظلم هنا رهيب يفقأ العين. والوحشية في التعاطي مع مواطني قطاع غزة، العزّل تقريباً بشكل كامل من أية وسيلة من وسائل الدفاع في مواجهة آلة حرب بالغة التطور والقوة لا تضاهيها جيوش المنطقة كلها تقريباً، لا يمكن أن تجد لها تبريراً أو حتى شروطاً مخففة. إنها جريمة ضد الإنسان، الذي يرى قادة فنزويلا وبوليفيا أن قضيتهم ومهمتهم ومشروعهم في بلديهما يصبّ في خدمة قضيته، أي قضية الإنسان، قضية البشر، الذين تنكّل بهم قوات إسرائيل في قطاع غزة هنا، ولطالما هناك، لديهم، أذلّتهم واستغلتهم وقهرتهم أنظمة التبعية في بلديهما في الماضي، كما والإمبراطورية التي رعت هذه الأنظمة ونخبها الفاسدة الحاكمة، ودعمتها وساعدتها على قهر غالبية شعوبها طوال قرنين ونيّف. لا بل انه ظلم طال سكان هذه القارة الأصليين منذ خمسة قرون ونيّف، هو عمر الغزوة الأوروبية للقارة الأميركية، وهو الظلم الذي يتناوله الكتاب الذي أهداه رئيس فنزويلا أوغو تشافيس الى رئيس الولايات المتحدة الجديد باراك أوباما ابان قمة الدول الأميركية في عاصمة دولة ترينيداد وتوباغو في نيسان/أبريل الماضي، وهو كتاب المؤلف الأوروغوائي إدواردو غاليانو الذي يحمل عنوان "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية... خمسة قرون من نهب القارة". وهكذا، فإن لسان حال هؤلاء القادة اليساريين الجدد في هذه القارة يقول انه آن الأوان لهذا الظلم أن ينتهي... عندهم، كما في العالم.
كان من الطبيعي أن يشعر شعب فلسطين وشعوب المنطقة العربية والعديد من شعوب العالم التي وقفت مع شعب غزة خلال محنته الرهيبة الأخيرة بالإمتنان وبعرفان الجميل لخطوتي فنزويلا وبوليفيا. وقد ذهب بعض المعلّقين والعديد من المواطنين عندنا الى حد الحديث عن كون أوغو تشافيس وإيفو موراليس "بطلين عربيين حقيقيين"، في حين كان العديد من التظاهرات التضامنية مع شعب غزة وشعب فلسطين في منطقتنا والعالم يحمل صورهما الى جانب أعلام فلسطين وصور ضحايا العدوان وشعارات التنديد به.
في واقع الحال، فإن النسبة للعروبة، ولو معنوياً، ليست كافية لوصف هاتين البادرتين وهذين القائدين. فالرئيسان الفنزويلي أوغو تشافيس والبوليفي إيفو موراليس يشكلان نموذجاً جديداً ليسار جذري، إنساني أممي بعمق، ينطلق من كون قضايا الشعوب التحررية وقضايا كرامة الشعوب كلها قضايا مشتركة تفرض التضامن والتعاضد معها، وبدون مقابل أو حسابات مصلحية خاصة.
ومن الإنصاف أن نضيف الى قادة هاتين التجربتين اليساريتين، الحديثتين نسبياً، في فنزويلا وبوليفيا (الأولى بالكاد تجاوزت مؤخراً العشر سنوات، والثانية مضى عليها أقل من أربع) قادة كوبا، الجزيرة الصغيرة وقليلة السكان نسبياً - 11 مليوناً- غير البعيدة من شواطئ فنزويلا الكاريبية، وإن كانت، للصدفة التاريخية، أقرب الى شواطئ الولايات المتحدة، وهي الجزيرة التي شقّت طريقاً مبكراً للتحول الإجتماعي الجذري في تلك القارة، وعاشت طوال عقود عدة ظروفاً أشد صعوبة وقسوةً من تلك التي تعيشها تجارب اليسار الأميركي اللاتيني الحالية. فطوال عقود عدة، كانت كوبا وحدها تقريباً في هذه القارة ترفع راية الإستقلالية عن الإمبراطورية الشمالية، ذات اليد الطويلة في القارة، وراية العدالة الإجتماعية. ومصاعب كوبا تضاعفت في مرحلة التسعينيات، حين اختفى الدعم السوفييتي، وكادت الجزيرة تصل الى حافة المجاعة والفاقة، مع استمرار الحصار الأميركي الشمالي الإقتصادي لها.
ومعروف أن كوبا كانت قد قطعت علاقاتها مع إسرائيل منذ مطلع السبعينيات الماضية، وانها أبدت نفس المستوى من التضامن والتعاضد مع شعب فلسطين وشعوب المنطقة العربية، ومع شعب قطاع غزة في محنته الأخيرة، كما في محنات الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة العربية السابقة. وبعضنا يذكر كيف كان وزير الخارجية الكوبي آنذاك، إيسيدورو مالمييركا، أحد المسؤولين الدوليين القلائل الذي خرقوا الحصار على بيروت الغربية في صيف العام 1982، حين كانت القوات الإسرائيلية تحاصر قوات منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وشعبيهما في بيروت الغربية، ليعبّر عن تضامن كوبا مع الشعبين المحاصرين والمتعرضين للعدوان هناك. وربما لا يعلم العديد من المواطنين العرب أن متطوعين كوبيين شاركوا في مواقع ومهمات عسكرية حساسة في معارك الدفاع عن الأرض وعن الحقوق العربية، بما في ذلك خلال حرب تشرين/أكتوبر 1973.
والبعض منا قد يذكر مبادرة كوبا الجريئة لإرسال جيشها الى أنغولا في أواسط السبعينيات الماضية لدعم نظامها التقدمي المستقل حديثاً عن الإستعمار البرتغالي، في مواجهة العدوان الواسع الذي تعرّض له هذا البلد الإفريقي من قبل نظام جنوب إفريقيا العنصري، آنذاك، كما من قبل الأطراف والقوى المحلية والإقليمية المدعومة مباشرةً من قبل الولايات المتحدة الأميركية وأجهزتها العسكرية والأمنية. وشعب جنوب إفريقيا الذي انتزع حريته ووضع نهايةً لنظام التمييز العنصري في مطلع التسعينيات الماضية، وكذلك شعب ناميبيا الذي انتزع استقلاله وحريته قبل ذلك بفترة وجيزة، في العام 1990، يتذكران أن عاملاً حاسماً في تحرير ناميبيا وفي إسقاط النظام العنصري في جنوب إفريقيا كانت الهزيمة المدوية التي أوقعتها قوات كوبا العسكرية، خاصة في معركة كويتو كوانافالي في العام 1988، بقوات نظام جنوب إفريقيا، التي كانت قد اجتاحت أراضي أنغولا، إنطلاقاً من أراضي ناميبيا التي كانت تحتلها منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. وتركت قوات كوبا أنغولا بعد إنجاز هذه المهمات، ولم تطلب لقاء تضامنها مع شعب أنغولا أي مقابل، ولم تسعَ الى تحقيق أية مصالح خاصة. كوبا قامت بواجبها الأممي وحسب، كما كان قادتها يقولون.
ومعروف الآن أن القائد الثوري "الكوبي" الأرجنتيني المولد، إرنستو غيفارا، الذي تمت تصفيته في بوليفيا في أواخر العام 1967 بحضور عناصر من المخابرات المركزية الأميركية وبأيدي عناصر من الجيش المحلي التابع، كان قبل ذلك بسنوات قليلة قد ذهب بنفسه، ضمن مجموعة من الخبراء الكوبيين، الى جمهورية الكونغو، في قلب إفريقيا، لدعم نضال شعبها بعد مقتل قائد استقلالها الوطني باتريس لومومبا، بقرار أميركي – بلجيكي، في مطلع العام 1961، بعد أشهر قليلة من استقلال البلد، الذي كان في الماضي مستعمرة بلجيكية.

أهمية تجربتي فنزويلا وبوليفيا في مجال التحول السياسي الإجتماعي الجذري

لكن لتجربتي فنزويلا وبوليفيا أهميتهما الخاصة من زاوية معينة: فهما تسعيان الى شق طريق نموذج جديد للتحول الإجتماعي والسياسي يقوم على أساس الإلتزام بالحريات الديمقراطية الحقيقية وبالتعددية السياسية، والإعتماد على دعم ورقابة الشعب عبر استفتاءات وانتخابات متكررة لإقرار إحداث التحولات المطلوبة، بالإعتماد على هذه الغالبية الشعبية.
طبعاً، كلا التجربتين تعرضتا للتخريب ولمحاولات الإجهاض، وما زالتا: فكانت هناك محاولة الإنقلاب العسكري الفاشلة في فنزويلا في العام 2002، كما كانت هناك محاولات، وما زالت، لتغذية حركات إنفصالية في بوليفيا بالإعتماد على حكام المناطق ذات الأغلبية البيضاء والثرية نسبياً وبالتحريض على سكان البلاد الأصليين، أولئك الذي يُطلق عليهم خطأ تعبير "الهنود الحمر"، الذين يشكّلون الأغلبية في البلد، وينتمي إيفو موراليس إلى أحد شعوبهم، شعب ايمارا. وجدير بالذكر أن دستوراً جديداً قد أقرّ في بوليفيا في الشهر الأول من العام 2009، وأقر الدستور حقوقاً واسعة لشعوب البلد الأصلية، واعترف بثقافاتها ولغاتها المتعددة. وبات البلد يحمل اسم "دولة بوليفيا متعددة القوميات"، وأصبحت هناك لغات رسمية عديدة للبلد، الى جانب اللغة الإسبانية، هي لغات أهل البلاد الأصليين، وخاصة لغتا كويتشوا وايمارا. ويشكّل أهل البلاد الاصليين 55 بالمئة من السكان، وهناك 30 بالمئة آخرون من أصول مختلطة، أي جزئياً من أهل البلاد الأصليين، وفقط 15 بالمئة من البيض الأوروبيي الأصل.
***
طبعاً، المصاعب كثيرة أمام القيادتين الفنزويلية والبوليفية وشعبي البلدين، خاصةً في ظل الأزمة الإقتصادية العالمية الراهنة، التي انطلقت من الولايات المتحدة وامتدت الى العالم كله، وفي ظل انخفاض أسعار المواد الأولية وانخفاض الطلب العالمي عليها بسبب الأزمة، بما يشمل النفط والغاز الطبيعي، اللذين يشكلان مصدراً هاماً لميزانية البلدين، وبالتالي لتمويل مشاريع التنمية والتطوير الإجتماعي فيهما. صحيح أن كلا القيادتين حققتا نجاحات كبيرة على الصعيد الإجتماعي وعلى صعيد الإصلاح السياسي وتواصلان السعي الى بناء نظام أكثر عدلاً وإنصافاً لقطاعات الشعب الأوسع فيهما. وصحيح أن الإستفتاءات الأخيرة في البلدين جاءت لصالح هاتين القيادتين اليساريتين بأغلبية كبيرة. لكن القوى المعارضة لم تستسلم، كما أن أوساطاً نافذة في الولايات المتحدة لا زالت تحلم باستعادة دورها الإمبراطوري في القارة اللاتينية، وإن كان صوتها الآن خافتاً بانتظار رؤية ما ستحققه سياسة باراك أوباما لإنقاذ الولايات المتحدة من ورطتها الإقتصادية والكونية. لكن على كل خصوم هذه التجارب الجذرية الهامة في أميركا اللاتينية، إذا أرادوا التصدي لها، أن يواجهوا شعوباً أكثر وعياً، وأكثر إدراكاً لطريق الخلاص، وأكثر معرفة بالمخاطر واستعداداً لمواجهتها. كما أن عليهم أن يتعاطوا مع حركة تضامنية واسعة بين شعوب المنطقة الأميركية اللاتينية كلها، التي تشق بمجملها اليوم طريقاً بالغ الأهمية، ليس لتلك المنطقة وحدها، بل لكل شعوب العالم.
تضامن فنزويلا وبوليفيا وكوبا وشعوب أميركا اللاتينية مع شعب فلسطين، وشعوب المنطقة العربية عامةً، لا بد أن يقابله تضامن شعبي فلسطيني وعربي مع شعوب تلك المنطقة، التي تشاطر شعوب منطقتنا قيماً إنسانية عالية وتطلعات واسعة للتحرر والإستقلال والكرامة.