يسارجديد .. من أجل نظام بديل


بدر الدين شنن
2009 / 3 / 26 - 09:49     

تشير الدلائل الملموسة ، إلى أن التجليات الرئيسة للأزمة الرأسمالية العالمية الراهنة ، في التجمعات الدولية الكبرى ، أمريكا الشمالية وأوربا وشرق آ سيا ، هي بالدرجة الأولى اقتصادية تتبعها بالضرورة متوالياتها الأخرى السياسية والاجتماعية .. والعسكرية . بينما هي في الشرق الأوسط سياسية تتبعها وتجذرها متوالياتها الاقتصادية والاجتماعية ، لاسيما في المجال الجغرافي السياسي المربع الأضلاع ، العراق سوريا لبنان فلسطين ، المتقاطع والمتداخل إلى حد كبير مع المطامح الإيرانية النووية والسياسية ، التي وإن كانت تتموضع على الضفة الشرقية للخليج الأغنى في العالم ، فإنها لاتخفي ، عبر التفاعل مع القضية الفلسطينية ، لاتخفي حنينها ونزعاتها إلى التمدد نحو الشاطيء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، الشاطيء الأهم دولياً المتصل براً وبحراً بأوربا . الأمر الذي جعل تلك الأزمة وتجلياتها تشكل خلفية منعطف سياسي كبير في أوضاع المنطقة ، ومنها بخاصة مايتعلق ببلدان المربع الآنف الذكر ، أو أقله وضعها جدياً أمام هذا المنعطف .
وقد أبدى النظام السوري أكثر من جهات أخرى ا ستعداداً نشطاً لالتقاط المبادرة في هذه المرحلة ، والبناء عليها لدى تحديد توجهاته الداخلية والإقليمية والدولية المقبلة .

وليس بعيداً عن الصواب ، اعتبار ، أنه منذ أن انقلع " بوش " من البيت الأبيض مع مامثله من مخططات عدوانية على الشعوب ، وحل محله " باراك أوباما " مع سلال وعوده الانتخابية بالتغيير أمريكياً ودولياً ، طغت حالة من الترقب مشحونة باحتمالات شتى على المشهد السياسي السوري ، إن على مستوى النظام أو على مستوى خارج النظام ، المعارضة وغير المعارضة ، حيث برز بشكل جلي ارتهان كلا المستويين لما ستسفر عنه السياسات والمخططات الأمريكية في العهد الجديد إزاء الشرق الأوسط عامة وإزاء سوريا خاصة . بيد أن ما لايجب تجاوزه في هذا السياق ، هو اختلاف مضمون ترقب النظام عن مضمون ترقب الفضاء السياسي خارج النظام وخاصة الطيف المعارض . فالنظام يترقب تحركات الإدارة الأمريكية الجديدة دولياً بقدر فائض من التفاؤل آملاً وعاملاً بدأب على أن يكون انعكاس هذه التحركات ايجابياً على العلاقات السورية الأمريكية ، وعلى التعاون السوري الأمريكي الإقليمي . لاسيما في مجال إيجاد مخارج " تنقذ ماء الوجه للجميع " للبؤر الحربية والصراعات في المربعات المشتعلة أو المهددة بالاشتعال في الإقليم . بمعنى الدفع لتحقيق تراجع أميركي عما كان تتضنمه مخططات " بوش " إزاء النظام من احتواء أو إخضاع أو إ سقاط ، ومنحه مجدداً دوراً إقليمياً مميزاً .
وقد قامت الإدارة الأمريكية الجديدة بعدد من الخطوات الدبلوماسية والسياسية نحو دمشق حاملة رسائل واعدة بهذا الاتجاه ، تزامن معها تحرك عربي تصالحي " معتدل " سعودي مصري أردني مع النظام ، كما تزامن معها أيضاً تحرك أوربي ملوحاً بعلاقات سورية أوربية جديدة .
كل الجهات المذكورة أعربت من خلال حراكها بالاتجاه السوري ، أعربت عن رغبتها بوضع خلافاتها الماضية مع النظام ، أو مطالباتها بدمقرطة النظام وحقوق الإنسان خلف الظهر .. بل وجرت كل هذه الأنشطة في وقت تشهد البلاد اعتقالات ومحاكمات متواصلة لحملة الرأي ، بل وتفاقمت أكثر بالاعتقالات الواسعة لنشطاء أكراد عبروا عن حقوقهم الثقافية في عيد النيروز لهذا العام أيضاً .

أما ترقب الطيف المعارض " التاريخي " أي الذي كرسته تجارب وظروف العقود الماضية ، فإنه يكابد مأزق الارتباك ، إن لفقدان أو ضمور مفاعيل الخارج بشقيها السياسي والحقوقي ، التي كانت تمنحه مساحات من الدعم المادي والمعنوي ، أو لفقدان أو تهميش مفاعيل مؤثرات مباشرة كانت تفتح آفاقاً مجانية مؤازرة له ، مثل التحقيق ودعوى اغتيال " الحريري " . وذلك ، لانعدام الاتصال السياسي والتعبوي مع القوى الشعبية ، أو انعدام فهم ا ستحقاقات المرحلة الدولية الجديدة ، حيث تزعزع مركز القطب الدولي الأمريكي الأوحد ، وعلاقتها الجدلية مع متغيرات المستقبل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المستويات المحلية والإقليمية .
وهذا الترقب بمضمونه المتخلف عن مواكبة توجهات المستقبل ، التي بدأت تشق طريقها في غمرة تداعيات الأزمة الرأ سمالية العالمية نحو اليسار ، يربط مصير هذا الطيف المعارض موضوعياً ، بسبب انحدار معظمه من الطبقة الوسطى التي انبنى عليها النظام ، باللحاق بالنظام ، أو الاستقالة من الخصومة معه ، عبر لعبة معارضة تشاركية تتسول تداول جزئي للسلطة تحت سقف البيعة للحزب " القائد " أو عبر تمرير مصالح الفئات الاجتماعية الأكثر تجانساً طبقياً مع بنية النظام .. ولم لا .. فالقوى العربية والدولية أظهرت ، عبر تأمين مصالحها ، أظهرت تفهمها أو مباركتها لبنية النظام الدستورية والشرعية والسلطوية ، التي " وجدت " أن هذه البنية لاتتناقض ، على الأقل في زمن الانهيارات المركبة ، مع مصالحها بل وتشكل الضامن لها مقارنة مع بلدان الإقليم الأخرى .

وبتحقيق التوافق القائم على المصالح المشتركة الإقليمي والدولي .. يفتح في المجال لتحقيق التوافق التجانسي الاجتماعي السياسي المحلي بشكل أرسخ وأقوى مع بعض الاختلاف في الرؤى ، لبناء نظام سوري اقتصادي اجتماعي سياسي يضمن مصالح الطبقات الاجتماعية المالكة المرتبطة بشرط الخارج ، من خلال سلطة تشاركية تبنى ويجري تداولها جزئياً تحت سقف " الحزب القائد " الذي هو وحده وفق حقوقه الدستورية ، من يحسم لمن تميل موازين القوى . وبمن هو مناط قرار السلطة .

وقد عبر موقف الأخوان المسلمين ، القاضي بتعليق معارضتهم للنظام ، عن هذا الفهم وهذا التوجه لسيرورة العصر بمستوياته المتعددة . وكانت محرقة غزة البوابة الذكية التي ولج الأخوان منها إلى العتبات السياسية السورية الجديدة . كما عبر عن هذا الموقف أيضاً " إعلان دمشق من خلال طروحات أبدى فيها ا ستعداده لمواكبة " الخطوات الإيجابية " التي يتعاطى أو قد يتعاطى النظام عبرها نهجاً يقارب برنامج الإعلان المرحلي . ولم يخرج التجمع الوطني الديمقراطي عن هذا الإطار أيضاً .

أي أن الطيف المعارض " التاريخي " لم يتجاوز في معارضته للنظام طروحات التصالح والتشارك ، أو تداول السلطة على نفس بنى النظام الاقتصادية الاجتماعية ، بل راح البعض من اليسار السابق يحث النظام على تطبيق الليبرالية بوجهيها الاقتصادي والسياسي ، معتبراً ذلك تحولاً مطلوباً في الظروف الراهنة لمواكبة ليبرالية المحافظين الجدد في البيت الأبيض وفي بيوت الرأ سمالية العملاقة في الدول الكبرى .. وهو لم يتجاوز الآن مضامين معارضة باتت تقليدية أ سيرة النخب السياسية والثقافية ، بل ويكاد ينجز عقداً اقتصادياً اجتماعياً تشاركياً مع النظام على خلفية تحولاته الاقتصادية الاجتماعية السياسية الجديدة . وبذا تبقى خياراته " الطيف المعارض " أ سيرة عدم طرح نظام بديل مغاير للنظام سابقاً ، وعدم فهم متغيرات العصر التي تجري تحت ضربات الأزمة الرأ سمالية العالمية المتداعية لاحقاً ، التي تستدعي معارضات سياسية اجتماعية يسارية جديدة تعمل جذرياً على إقامة البديل للنظام الاقتصادي الاجتماعي الرأ سمالي السائد .

ولعل القناعات الاشتراكية النبيلة ، التي عبر عنها فارس مراد قبيل رحيله ، ترمز إلى أن هذه القناعات المعبرة عن أ سمى قيم العدالة الإنسانية لم تزل حية قائمة رغم كل الضربات والتشوهات التي وجهت إليها ، وتقدم الدلالة على أن هذه القناعات لازالت جذورها ندية في عمق الطبقات الشعبية والفئات الوسطى المهددة بالانحدار الاجتماعي إلى قاع البؤس .

إن المشهد العالمي الراهن يشير إلى إفلاس وفشل الرأ سمالية كأسلوب انتاج ونظام اجتماعي ، وذلك رغم كل المحسنات والمنشطات والتحايلات والحروب العدوانية طوال القرون الماضية ، في التحكم بحركة التاريخ وبمصائر الشعوب . والحال يتطلب ا ستحضار اليسار .. إعادة بناء قواه ورؤاه بصورة معاصرة .. إعادة حراكه وتصديه لمهام إقامة بديل جذري عادل يحل محل عبودية الرأ سمال ، التي باتت تهدد بوحشية المليارات من البشر بالانقراض مرضاً وجوعاً وعطشاً ..

وحسب السمات الجديدة الأكثر بروزاً للأزمة الرأ سمالية الراهنة ، فإن الأشكال الليبرالية الاقتصادية السياسية التي ا ستخدمت لتجديد وتأبيد القبضة الرأ سمالية الاحتكارية على اقتصاديات العالم ومصائره قد سقطت .. كما تسقط الأقنعة الزائفة في المسرحيات الفاشلة . وبرز بوضوح أن الرأ سمالية لاتملك ، وبطبيعتها لن تملك الحلول والآليات لتحقيق العدالة الإنسانية ، التي تضمن العدالة في التوزيع والمساواة في الفرص الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية . ويجب هنا الاّ ننسى أن التراكم الرأ سمالي الأعظم قد حققته الرأ سمالية بواسطة الحروب والفتوحات الاستعمارية ونهب الشعوب ، كما عززت هذا التراكم في العصر الحديث من خلال أوسع وأقذر عملية سرقة جرت في التاريخ ، هي سرقة منجزات ومؤسسات الشعوب السوفييتية والاشتراكية الأخرى . وهي أي الرأ سمالية المتوحشة تقوم الآن لسد النقص في عملية التراكم بسرقة المال العام في بلدانها لإنقاذ ودعم شركاتها النهوبة .. الأمر الذي يتطلب من الضرورة بمكان عودة اليسار محلياً ودولياً ..

على المستوى المحلي " الوطني " فإن ا ستحقاقات عودة اليسار ، على ضوء فشل الحراك المعارض " التاريخي " في المرحلة الماضية ، مع حفظ حق الاحترام للأفراد وللتضحيات ، تتطلب إقدام اليسار على انتزاع قيادة المعارضة حتى خواتم الصراع مع النظام وقواه الاجتماعية التي باتت تشكل ، إلى جانب آليات القمع ، المعوق الخطير لأي تغيير يتسم بالديمقراطية والعدالة الإنسانية .

وحسب تجربة اليسار في القرن الماضي ، فإن ما هو مطلوب .. هو يسار يعف عن المظاهر والشكليات الاستعراضية ، لينغمس بمصداقية وتفان في النضالات المطروحة ، سيما وأن اليساريين السابقين من حملة ربطات العنق الحمراء والدروشة في الهندام وتأبط الكتب والصحف وترديد جمل محفوظة لماركس ولينين وروزا لوكسمبرغ .. لم يصمدوا أمام امتحان الزمن . وتخلى معظمهم عن ماركس والماركسية ، بل والتحقوا ، إما بالنظام البورجوازي المستبد أو بالليبراليات " البراقة " جرياً وراء مصالح وولاءات طبقية تضمن لهم مستويات معيشة ليس لها مجرد احتمال وجود في أوساط الطبقات الشعبية .

والسؤال هنا .. هل هناك مجال حقيقي لنهوض وعودة اليسار وخاصة في بلد مثل سوريا ؟

هناك آلاف الكوادر اليسارية التي أقيلت من أحزابها ، لعدم الحاجة إليها في زمن الانحرافات الكبرى ، أو ا ستقالت قرفاً من الانتهازيات التي سادت عالم اليسار تحت عناوين مختلفة ..

هناك ملايين البؤساء في الطبقات الشعبية تبحث عن محور كفاحي تلتف حوله لتواجه بؤسها المتزايد ..

وهناك الآلاف من حملة الضائر المستنيرة من المثقفين الذين تعز عليهم لقمة وحرية وكرامة الإنسان ..

جميعهم يشكلون في واقعهم وتطلعاتهم المشروعة الجواب على السؤال المطروح ..