الدولة العراقية وسمات بنيتها الطائفية


لطفي حاتم
2009 / 3 / 16 - 09:22     

تواصل أحزاب الشرعية الانتخابية عملها في إعادة بناء سلطة الدولة العراقية وبهذا المسار حدثت حزمة مثيرة من التغيرات على منظومة العراق السياسية بدأ من إعادة بناء مؤسسات الدولة السيادية و أجهزتها الإدارية البيروقراطية وانتهاء بظهور قوى اجتماعية (جديدة ) في التشكيلة العراقية .
استناداً الى تلك التبدلات تواجهنا كثرة من الأسئلة منها ما هي سمات البناء الجديد للدولة العراقية ؟ ومنها ما هي طبيعة التغيرات الاجتماعية الحاصلة في التشكيلة العراقية ؟ ومنها ما هي مواقع المؤسسات الأهلية والأحزاب العراقية في إدارة الحياة السياسية؟
في محاولة لتحليل تلك التبدلات والتقرب من الأسئلة المثارة نحاول حصرها بموضوعات مكثفة مترابطة تتلخص بـ : ـ
أولا : ـ لمحة تاريخية عن هشاشة منظومة العراق السياسية.
ثانياً : ـ البناء الطائفي للدولة العراقية الناهضة .
ثالثاً : ـ مواقع الأحزاب السياسية في الدولة العراقية الناهضة .

أولا ـ لمحة تاريخية عن هشاشة منظومة العراق السياسية.

1: ـ تشكيل الدولة العراقية والحقبة الملكية
بداية لابد من تأكيد ملاحظة يتلخص مضمونها : ـ ليس هناك تشكيلة اجتماعية تعرضت أبنيتها الطبقية ونسيجها الاجتماعي الى تغيرات وتبدلات مثل التشكيلة العراقية. حيث أصبحت تلك التغيرات عواملا أساسية في كبح الدولة العراقية وتشكيلتها الاجتماعية من التطور السلمي الرافض للشعارات السياسية والانقلابات العسكرية . وبهذا المعنى نشير الى أن الدولة العراقية وبسبب التأثيرات الخارجية على نشأتها وتشكلها اللاحق احتلت السياسية مواقعا مقررة في تحديد مساراتها الاقتصادية والاجتماعية .
لغرض تزكية تلك الموضوعة لابد من إكسابها مضمونا تاريخيا ملموسا عبر ملاحظات مكثفة أهمها: ـ
ـــ نتيجة للغزو البريطاني الاول للعراق تشكلت الدولة العراقية وسلطتها السياسية وبسبب سيادة المؤسسات الأهلية وغياب قوى اجتماعية فاعلة وساندة للوافد الأجنبي عمدت سلطات الاحتلال الى بناء أجهزة السلطة السياسية من شرائح نافذة سبق وان احتلت مواقعا إدارية في الجهاز البيروقراطي للإمبراطورية العثمانية فضلا عن الضباط الشريفيين ذوي النزعات القومية .
لقد حمل التشكيل الإداري ومنذ نشوء الدولة العراقية صفة طائفية تجسدت بواقعتين أساسيتين هما: ـ
ـــ قانون الجنسية العراقي الذي ألغى حقوق المواطنة لأغلبية سكان العراق وما نتج عنه من حصر إدارة المراكز القيادية بأقلية من سكان العراق.
ـــ اعتماد الوافد البريطاني على قوى طبقية كومبرادوية من الأقلية الطائفية .
استناداً الى تلك المعطيات يجدر بنا تأشير بعض الملاحظات العامة : ـ
الملاحظة الأولى : ـ رغم أن البناء السياسي الاول للدولة العراقية قد حصر قيادته بفئات محددة ألا أن السياسية البريطانية إعادة رفد التشكيلة العراقية بقوى اجتماعية جديدة تجسدت بالطبقات التالية : ـ
أ ـ تطوير الطبقة الوسطى المدينية المتعلمة بعد اتساع أجهزة الدولة الإدارية والتعليمية .
ب : تقسيم الأملاك الامرية على شيوخ العشائر في محاولة لإضعاف وتفكيك الروابط الأهلية الأمر الذي أفضى الى تشكيل الطبقة الإقطاعية .
ج : ـ مساعدة الشريحة التجارية المساندة للتواجد البريطاني عبر تطوير أنشطتها التجارية .
د: ـ نهوض الطبقة العاملة وبنائها النقابي في المشاريع البريطانية السكك الحديد، الموانئ, النفط.
لقد أفضت التطورات الاجتماعية الاقتصادية السياسية السالفة الذكر الى كثرة من النتائج السياسية أهمها : ـ
ــــ كرس البناء البيروقراطي للدولة العراقية المرتكز الى الأقلية الحاكمة الى انفصال الدولة عن تشكيلتها الاجتماعية ، وما نتج عن ذلك من اعتماد سياسات محصورة في اطر نخبوية بعيدة عن المصالح الوطنية .
ـــ قادت هشاشة البناء الاجتماعي وازدواجية السلطة السياسية الى انتشار الأفكار اليسارية منها والقومية المطالبة في إعادة بناء الدولة وفق صياغات أيديولوجية اشترطها التغيرات الدولية .

2 : ـ الجمهورية الاولى1958 الى 1963 .
لقد أعادت الجمهورية الأولى بناء الدولة العراقية استناداً الى جملة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية نتعرض الى البعض منها : ـ
إجراءات سياسية تمثلت بــ :ــ
ـــ تعزيز السيادة الوطنية عبر فك الارتباط مع الوافد البريطاني .
ـــ إعادة الاعتبار للمواطنة العراقية عبر المساواة القانونية لكل العراقيين .
ــ احترام القوميات الأخرى وإشراكها في إدارة السلطة السياسية .
إجراءات اقتصادية اجتماعية : ـ
ـــ صيانة ثروات العراق الوطنية.
ــــ محاولة بناء توازنات اجتماعية بين الطبقات الاجتماعية الفاعلة في التشكيلة العراقية .
ـــ تشجيع البرجوازية الوطنية عبر مساعدة الدولة لها في الاستيراد والتصدير .
خلاصة القول أن الإجراءات التاريخية الكبرى لهذه الجمهورية تزامنت ومحاولات تغيير التشكيلة الاجتماعية حيث جرى إلغاء الطبقة الإقطاعية التي تحولت عبر التعويضات المجزية الى شريحة تجارية.
ــ إطلاق نشاط الإنتاج الزراعي عبر تمليك طبقة الفلاحين أراضي صغيرة .
ــ تطور الطبقة الوسطى بكافة شرائحها خاصة بعد انتشارها في الجهاز الإداري للدولة العراقية .
أن التطورات المشار إليها رغم أهميتها التاريخية إلا أنها عجزت عن تغيير سمتين رئيسيتين في منظومة العراق السياسية الأولى منهما : ـ استمرار البناء الطائفي للدولة العراقية حيث حافظت الطواقم الأساسية للأقلية الحاكمة على مواقعها القيادية في الأجهزة الأساسية . وثانيهما تواصل النزعة الإيديولوجية والتناحرات السياسية في تشكيلة العراق الاجتماعية .

3: ـ الجمهورية الثانية 1963 ــ 2003

أن سيادة الشعارات الإيديولوجية في حل النزاعات الاجتماعية والسياسية أدت الى تبدلات كبرى في مسار الدولة العراقية خاصة بعد عودة حزب البعث العربي الاشتراكي الى السلطة السياسية حيث جرى ترسيخ السمات الطائفية العشائرية للحكم فضلا عن حدوث تبدلات في التشكيلة الاجتماعية نستعرضها بإيجاز : ـ
1 : ـ تعزز بناء الأجهزة السيادية والمراكز الإدارية على أساس المواقع الحزبية والتي تحولت في مجرى الإقصاء والإدماج الى سمات عشائرية / قرابية .
2 : ـ احتكار سلطة الدولة للثروة الوطنية وتوظيفها في خدمة التوجهات السياسية للأقلية الحاكمة .
3: ـ إحداث تغيرات طبقية جديدة في التشكيلة العراقية تمثلت بــ : ـ
ـــ أضعاف البرجوازية الوطنية عبر هيمنة الدولة على القطاعات الأساسية المنتجة وكذلك قطاع التجارة الخارجية فضلا عن سيطرة الدولة على التجارة الداخلية.
ــــ إلحاق أقسام من الطبقة العاملة الناشطة في قطاعات الدولة / الإنتاجية / الخدمية بالجهاز الإداري بعد تسميتهم موظفين عند الدولة.
ـــ ظهور قوى اجتماعية وشرائح طبقية متنفذة مترابطة والجهاز البيروقراطي / العسكري للدولة مهيمنة على كثرة من المواقع الإنتاجية / الخدمية .
أن الإجراءات المشار إليها أفضت الى نتائج بالغة الخطورة على الدولة وتشكيلتها الاجتماعية تجسدت
باحتكار الدولة وسلطتها البوليسية بعد إكسابها رداء طائفياً / عشائرياً .

ثانياً : ـ البناء الطائفي للدولة العراقية الناهضة.

1 : ـ إعادة بناء الأجهزة السيادية والإدارية
أحدث الغزو الأمريكي للعراق انهيارا شاملا لبناء الدولة العراقية وسلطتها السياسية فضلا عن تفكك تشكيلتها الاجتماعية ويمكن للمهتمين تلمس تلك التغيرات في المعطيات التالية : ـ
أ : ـ تفكك سلطة الدولة الاستبدادية ونشوء ملامح دولة تعددية .
ب : ـ انهيار التشكيلة العراقية من خلال : ـ
ــ تفكك الشرائح الطبقية الأساسية والقاعدة الاجتماعية الساندة للسلطة الديكتاتورية .
ــ تهميش الطبقة العاملة بعد تفكك ونهب القطاعات الخدمية / الإنتاجية للدولة العراقية .
ـــ تشرذم أقسام من الطبقة الوسطى خاصة المدينية منها بسبب انهيار جهاز الدولة البيروقراطي .

إن التغيرات المشار إليها ترافقت وقرارات سياسية / اقتصادية متسرعة لسلطة الاحتلال هادفة الى إعادة بناء الدولة العراقية بمواصفات تتلاءم والاستراتيجية الأمريكية ، حيث أحدثت تلك الإجراءات كثرة من التبدلات يمكن تأشيرها بالموضوعات التالية : ـ
الموضوعة الأولى : ـ بالرغم من المسار الديمقراطي المصاحب للعملية السياسية إلا أن النتائج الملموسة أشارت الى أن إعادة بناء الدولة العراقية اتسم بسمات طائفية / عرقية كرستها الممارسة السياسية حيث أنتجت الشرعية الانتخابية تقاسما لمراكز الدولة السيادية تجسدت بـ : ـ
ـــ تقاسم رئاسة الجمهورية بين القوى السياسية المتصدرة للعملية السياسية.
ــ توزع المراكز الأساسية في رئاسة السلطة التنفيذية بين قوى الشرعية الانتخابية .
ــ اقتسام رئاسة السلطة التشريعية ( البرلمان )على أسس طائفية / عرقية .
ـــ توزيع الوزارات السيادية الداخلية والخارجية والنفط والدفاع استناداً الى توافقات حزبية .
ـــ بناء الأجهزة الأمنية والمخابرات وشبكة الطواقم القيادية للمؤسسة العسكرية وفق مقاسات حزبية ومساومات سياسية حيث احتلت أحزاب الإسلام السياسي المواقع السيادية بينما احتكر الجانب الكردستاني قيادة المفاصل الأساسية في إدارة الأجهزة الأمنية / العسكرية الكردستانية.
لقد اتسم البناء العسكري الأمني ألمخابراتي للعراق بكثرة من الثغرات منها مشاركة أمريكية في بناء المؤسسات الأمنية/ العسكرية. ومنها اختراقات خارجية لأجهزة العراق الأمنية / المخابراتية .
الموضوعة الثانية:ـ كرست الانتخابات العامة والمحلية البناء الإداري الطائفي للدولة العراقية حيث تلخصت النتائج المعلنة بالوقائع التالية: ـ
أ: ـ هيمنة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على المناطق الجنوبية والوسطي مقابل سيطرة أحزاب الإسلام السياسي السني على مناطق البلاد الغربية .
ب : ـ احتكار الحزبين الكردستانيين لمجالس البلديات في المدن الكردستانية .
ج: ـ انحسار التيار العلماني / الديمقراطي لكثرة من الأسباب جرى التعرض لها في كتابات وبيانات الأحزاب الديمقراطية المشاركة في العملية الانتخابية.
إن النتائج المشار إليها والسمات الجديدة لإعادة بناء أجهزة الدولة الرئاسية والسيادية ترافق ونهوض مكونات طبقية جديدة في التشكيلة العراقية استناداً الى قرارات سياسية .

2: ـ البناء الطبقي للتشكيلة العراقية .
أنتج الاحتلال الأمريكي للعراق تفككاً سريعاً للقاعدة الاجتماعية الساندة للنظام الاستبدادي حيث هاجرت أقسام من هذه القاعدة الى دول الجوار العراقي بعد أن تحول البعض منها الى ــ تجار ، ملا ك عقار ، فئات عاملة في قطاع الخدمات ــ فاقدة بذلك تأثيراتها السياسية ومواقعها الاقتصادية التي كانت تتمتع بها أبان حقبة المرحلة الاستبدادية .
لقد أفضى انهيار النفوذ الاقتصادي السياسي لقوى النظام الاستبدادي الى تشكل قوى طبقية جديدة ساعدت على نشؤها قوى السلطة الجديدة بسبب سيطرتها على مؤسسات الدولة الإنتاجية / الخدمية وإشغال مناصريهم للمراكز القيادية في مؤسسات الدولة العراقية، وانطلاقا من ذلك فقد نشأت شرائح اجتماعية جديدة في التشكيلة العراقية يمكن رصدها عبر المكونات التالية : ـ
أ: ـ فئات بيروقراطية ذات سمة طائفية / عشائرية ارتكز نشوءها وبناءها على مساندة فعلية من الأحزاب السياسية التي تحكمت بمسار العملية السياسية العربية منها والكردية.
ب: ـ شكلت الطواقم القيادية للأحزاب السياسية المترابطة مع أجهزة الدولة هي الأخرى شريحة طبقية جديدة بمواصفات طائفية / عشائرية .
ج : ـ نتيجة لنهب مؤسسات الدولة الإنتاجية / الخدمية فضلا عن السطو المعلن على البنوك الرئيسية بعد الفوضى الشاملة التي أحدثها الغزو الأمريكي للعراق نهضت شريحة ثالثة جرت تسميتهم بالحواسم .
د : ـ مالكي الأراضي الجدد : ـ
أن اعتماد أحزاب الشرعية الانتخابية على المؤسسة العشائرية اشترط تمليك كثرة من شيوخ العشائر لأراضي زراعية بهدف تعزيز وجاهتهم الاجتماعية الأمر الذي أدى الى نشوء ( طبقة إقطاعية ) تترابط مصالحها مع الطواقم الطائفية في المؤسسات الدينية .

إن تحديدنا لطبيعة ملاكي الأراضي يكتمل إذا اشرنا الى أن الطبقة ( الإقطاعية ) الناهضة تستمد قوتها من انضواء الطبقة الوسطى الى الخيمة العشائرية وتبني تقاليدها التكافلية . وبهذا المعنى يمكننا الاستنتاج أن الطبقة (الإقطاعية) المترابطة والجهاز البيروقراطي باتت تتحكم بهذا الشكل أو ذاك بتوجهات الأحزاب السياسية وبرامجها الاجتماعية.
لغرض تقدير شرعية تلك الفرضية لابد من تعليلها فكرياً من خلال عرض الوقائع التالية: ـ
ــ أصبحت المؤسسة العشائرية بروحها التضامنية قاعدة اجتماعية لكثرة من أحزاب الشرعية الانتخابية.
ـــ اعتماد القوى السياسية على قاعدة عشائرية يقود الى تحولها ــ الأحزاب ــ الى قوى سياسية مدافعة عن مصالح طبقية تتشكل من قيادة الجهاز البيروقراطي الطائفي المتحالف مع ملاكي الأرض والعقار فضلا عن الفئات التجارية الناهضة في التشكيلة العراقية . وبهذا الاطار نشير الى أن ارتكاز أحزاب الشرعية الانتخابية على قاعدة عشائرية أفضي الى نتيجتين خطرتين : ـ الأولى منهما تتمثل بسيادة قوتين فاعلتين في الحياة السياسية قوة الدولة وقوانينها الرسمية و (سلطة العشيرة ) بأعرافها وتقاليدها التاريخية . أما الثانية فيمكن تلخيص مضمونها بإمكانية تحول الحزب من مؤسسة مدنية الى قوة طائفية مغلقة تسعى الى احتكار السلطة اعتماداً على المال السياسي و (سلطة ) المؤسسة العشائرية وبنائها التكافلي .

ثالثاً : ـ مواقع الأحزاب السياسية في الدولة العراقية الناهضة .

إن اللوحة الاجتماعية الناهضة في التشكيلة الطبقية العراقية والتغيرات السياسية رافقتها جملة من الإشكالات السياسية والاجتماعية نحاول التقرب منها برؤية مكثفة: ـ
ـــ انحسار العمل الحزبي الجماهيري المنظم المستند الى أهداف سياسية وبرامج اجتماعية.
ـــ تحكم الايدولوجيا الطائفية والتقاليد العشائرية في الحياة السياسية بعد انحسار الوعي السياسي المرتكز على مفاهيم وطنية ديمقراطية .
ـــ تفكك القاعدة الاجتماعية للقوى السياسية العلمانية وخراب تقاليدها التنظيمية .
ـــ انحياز الطبقة الوسطى الى الروح الطائفية والتقاليد العشائرية .

استنادا الى تلك الآراء يتحتم علينا صياغة بعض الاستنتاجات التي أجدها في الموضوعات التالية :ــ
أولا: ـ تميزت الدولة العراقية ومنذ نشأتها بعدم استقرار بنيتها السياسية / الاجتماعية وما نتج عن ذلك من سيادة المؤسسات الأهلية في مسار تطورها التاريخي.
ثانيا : ـ أفضى غياب الطبقات الاجتماعية الفاعلة في الحياة السياسية الى سيادة الايدولوجيا والشعارات السياسية لدى الأحزاب العراقية وتجذر نزعتها الشمولية .
ثالثاً: ـ شكل البناء الطائفي للدولة العراقية الناهضة امتداداً لبنائها الطائفي السابق بعد تغليفه بشرعية انتخابية.