اشتراكيون وليبراليون


عدنان عاكف
2009 / 3 / 15 - 09:01     

" إن من يحس التناقض في أقاويله، فكيف يوثق به في آراءه واعتقاده، وكيف يؤمن عليه أنه غير معتقد آراء متناقضة، ويكون فيها مخالفا لنفسه ولا يدري، وكيف يرجى منه الوفاق مع غيره وهو مخالف لنفسه، ومناقض لاعتقاده، وجاهل في معلوماته ".
هذه المقولة " الحكمة " التي خلفها لنا إخوان الصفا قبل أكثر من ألف عام، أهديها الى نفسي، والى جميع زملائي، وأخص بالذكر الأستاذ شامل عبد العزيز. وأقولها بصراحة جميعنا وبدون استثناء نعاني من التناقض في أقاويلنا ونعتقد بآراء متناقضة ونخالف أنفسنا وجهلة الى درجة ما في معلوماتنا. ولكن هذه الملاكات والمواهب، و كما هو الحال مع الثروة، موزعة بشكل متفاوت. فلو قدر وطلب منا تشكيل اتحاد المثقفين المتناقضين في أقاويلهم والمخالفين لأنفسهم لما ترددت لحظة في ترشيح الزميل شامل نقيبا فخريا ومدى الحياة. قبل أيام فقط اتحفنا بوصاياه العشرة التي نقضها وخالفها جميعا في نفس المقالة. وقد كان الأستاذ عبد العالي الحراك ( بغض النظر عن اتفاقي أو عدمه مع ما ورد في مقاله ) مصيبا وموفقا في اختياره عنوان المقالة " شامل ووصاياه العشرة التي لم يحترم واحدة منها ". وقبل أيام قرأت للسيد شامل ما يؤكد على انه من المستحيل ان يعادي الشيوعية، إنما هي مجرد اختلاف في الفكر وفي وجهات النظر. وفي حينها تمنيت ان يكون الكاتب صادقا في قوله. وقلت ذلك لأني لم أكن واثق من هذا القول، لأن الكثير مما ورد في المقالة كان يكشف عن عدم قدرته على الالتزام بوعده. وما نشر خلال الأيام الماضية، وخاصة اليوم كشف المستور. ما هو العداء للشيوعية ان لم يكن هذا اللملوم من الأفكار المبعثرة والاتهامات التي تتطاير في جميع الاتجاهات، والتشهير بمفكرين وفلاسفة، يقر العالم بقدراتهم الفكرية الكبيرة، بغض النظر عن الموقف المؤيد أو المعارض. وأهم ما كشفت عنه المقالات الأخيرة ان الخلاف بين شامل والماركسية لا يمت بصلة الى الخلافات الفكرية. فمن أجل ان يكون لك خلاف فكري ينبغي ان يكون لديك في البداية فكر كي تستطيع ان تختلف به مع فكري. نعم أنا مِن مَن أغاضه كثيرا تصريحك بانك تشعر بالغثيان بعد ان تقرأ ورقة واحدة من المؤلفات الماركسية. ولكنك واهم لو تصورت ان غضبي وغيضي هو من أجل ماركس والماركسية، بل هو نوع من الشفقة عليك، ليس إلا.
أمس أشار العراك الى نقطة في غاية الأهمية. اذا كان أسلوب الحوار الذي يديره السيد فؤاد النمري لا يليق بأسلوبه ومفرداته، فما هو ذنب الماركسية والاشتراكية وماركس ولينين؟. حتى لو افترضنا ان ملاحظات عبد العزيز واردة فهذا لا يعطيه الحق انب لجأ الى نفس الأسلوب في الحوار، وإلا فانه بهذه الطريقة يسلخ جلده الليبرالي الديمقراطي ليلبس جلد فؤاد النمري، أي الجلد الستاليني المتخلف. وها أنا اطرح نفس السؤال: اذا كان العراك قد أغضبك بأسلوبه ( بالمناسبة سبق له ان أغاضني ذات مرة لكني أخذت بإحدى نصائح ماركس فكتمت في نفسي ) ما دخل الماركسية وجميع الآلهة الذين سلخت جلودهم بما يكتبه العراك أو عدنان عاكف ؟ هل من المعقول ان أعد قائمة بأسماء آلهة الليبراليين في العالم وأطالب بإعدامهم لمجرد ان مقالة وأسلوب الليبرالي شامل قد استفزني. أنا أعارض الليبرالية بشدة ليس لسبب شخصي، بل لأسباب فكرية وأيديولوجية. ومع ذلك انا لا أكره الليبراليين ولا أكره الليبرالية. ولا أنكر باني رغم معارضتي لتوجهاتها لكني أجد في نفسي من الثقة بحيث لا أتردد في قبول أي شيء فيها يخدم التوجهات والأهداف التي أعمل من أجلها.,وانا على يقين باني أستطيع ان أستفيد من الكثير من ما توصل اليه الفكر اللبرالي، بل أذهب أبعد من ذلك للقول بان الليبراليين والماركسيين في الوطن العربي قادرون على ايجاد قواعد مشتركة في مجالات عديدة، بالرغم من الاختلافات الجوهرية القائمة.
تبقى هناك ملاحظتين تتكرر في مقالات السيد شامل. الأولى بشأن حلم السذج الطوباوي الذي يحلم به من لا يزال يؤمن بماركس. والملاحظة الثانية هي انه يتساءل دائما عن موعد انفتاح أبواب الجنة الشيوعية؟
بالنسبة للملاحظة الأولى فلا أظن ان من حق أحد ان يمنع الكاتب بتغيير اعتقاده هذا. وجدير بالذكر ان هذه الفكرة ليست من بنات أفكاره، بل تكاد تكون حجر الأساس الذي يستند اليه المفكرون في النظام الرأسمالي لدحضهم لفكرة الاشتراكية. ولكن مع فارق بسيط بين كاتبنا وبينهم. انهم قبل ان يحاججون يقضون الساعات والأيام الطويلة مع الإله الملتحي من أجل ان يصطادوا فكرة هنا وتناقض هناك، ويحاولو استخدام آخر ما توصلت اليه العلوم الحديثة، وخاصة في مجال البيولوجيا التطورية وعلم الوراثة والانتروبولوجيا، في حين ان كاتبنا يجاهر متفاخرا بجهله بالفلسفة التي ينتقدها، وعاجز عن قراءة ورقة واحدة..
أما بشأن السؤال عن موعد انفتاح أبواب الجنة الماركسية، فاني أنصحه ان لا يتعب نفسه بطرح مثل هذا السؤال. لن يجيبك أحد على الإطلاق، ولسبب بسيط هو لا وجود لمن يعرف الجواب. ولو انك كنت قد قرأت بضعة صفحات من الماركسية الجديدة لعرفت ان انهيار التجربة الاشتراكية السابقة لم تكن وبالا على الاشتراكيين فقط، بل انه شكل تجربة فيها الكثير من العبر والدروس، وطرحت الكثير من التساؤلات المستجدة .. وما من شك ان الكثير من المعضلات والمشاكل الجديدة سوف تنبع في المستقبل، ما دام الإنسان يواصل معركته من أجل مثل " العدل والحق والجمال ". ومن الدروس المهمة التي تعلمها الماركسيون هي إنزال جميع الآلهة من السماء، وفي مقدمتهم الإله الأكبر ماركس. والدرس المهم الآخر الذي تعلموه ينبع من الدرس الأول: ما دامت الآلهة نزلت من السماء الى الأرض فلم يعد هناك معلمين وأساتذة، ولم يعد هناك ماركسي حقيقي وماركسي منحرف. ولو حاول السيد شامل ان يستعرض أسماء الأحزاب والتنظيمات الشيوعية والاشتراكية التي تتبنى الماركسية، والتي ينشر أتباعها نتاجهم الفكري والثقافي على موقع الحوار المتمدن سيجد طيف واسع، ويصل الاختلاف بين البعض منها حد العداء المكشوف. لذلك فان عملية النقد الجماعي وكرف عدد كبير من الأسماء، مثل غرباشوف وماركس وستالين ولينين وفؤاد النمري مع عبد العالي العراك وعدنان عاكف، وحشرهم في خانة واحدة هي خانة المتحجرين وأهل الكهف الذين لا يرون ما يدور حولهم، هي من أساليب الماضي، أساليب من لم ير ما جرى حوله خلال العقدين الماضيين.
والدرس المهم الآخر الذي أخذ به الماركسيون ( أو على الأقل الكثير منهم ) وكما عبر عنه المفكر الماركسي البريطاني رالف ميليباند في كتابه المعروف " الاشتراكية في عصر شكاك " هو ان " الديمقراطية الاشتراكية، في حالات كثيرة، سوف تتبنى وتعزز كثيرا أشكال الديمقراطية الموجودة في المجتمعات الرأسمالية ". ويستشهد ميليباند بما قاله نورمان غيراس لتوضيح هذه النقطة :
" ان الإصرار على التخلي تماما عن الديمقراطية البرجوازية في مشروع السياسة الاشتراكية تحت شعار " تحطيم " الدولة، قد حجب عن أعين الكثيرين من الاشتراكيين الثوريين قيمة بعض المؤسسات والمعايير التي تحتاج أية ديمقراطية اشتراكية حقيقية الى اقتباسها ".
وانطلاقا من هذا الدرس يدعو المفكر البريطاني الى رصد محاولات مفكري الأوساط الحاكمة في الدول الرأسمالية، والتي تتجلى بكل وضوح في كتابات البعض من ليبراليينا، وعلى الأخص تكررت في أكثر من مقالة من مقالات السيد شامل، وهي ادعاء الأنظمة الحاكمة في الدول الغربية على ان الديمقراطية القائمة في بلدانها هي من طبيعة الرأسمالية، وغالبا ما يؤكدون على العلاقة المتينة التي تربط بين النظام الرأسمالي والديمقراطية. ولكن تاريخ تطور الدول الرأسمالية يؤكد على ان " الرأسمالية خلال الجزء الأكبر من تاريخها، لم تكن مرتبطة بالديمقراطية، بأي معنى من المعاني. وان جميع المحافظين والليبراليين المدافعين عن النظام الرأسمالي كانوا دوما مصممين على مقاومة تقدم الشكل الديمقراطي، وخاصة ما يتعلق بتوسيع حق الانتخابات والكثير من التحسينات الديمقراطية الأخرى أيضا. " . ويرى المؤلف ان الرأسمالية احتاجت في البداية الى بعض الحريات من أجل ان تتطور، خاصة كان لا بد من توفير بعض الحريات لحماية الأفراد، وخاصة أصحاب الملكيات الكبيرة، وحمايتهم من ابتزاز الدولة. وبالرغم من أهمية هذه الحريات إلا انها أبقت سواد الشعب تحت شروط قاسية من الكبت الاقتصادي والسياسي. لقد كانت ديمقراطية لمن يملك الثروة، وبقيت الغالبية التي لا تملك خارج نطاقها. أما توسيع الديمقراطية فقد جاء نتيجة لنضال القوى الشعبية المتنوعة وخاصة النقابات العمالية وقوى اليسار، " وبمساعدة بعض العناصر من الطبقات المسيطرة الذين كانوا يخشون عواقب المقاومة المستمرة لتوسيع الممارسة الديمقراطية "..
من كل هذا تعلم الذين يسعون من أجل الوصول الى الاشتراكية أهم الدروس وهي ان المعركة من أجل الاشتراكية معركة متواصلة لا يمكن لها أن تتوقف، لأن الاشتراكية ذاتها ليست حالة محددة المعالم، يمكن الإعلان عن بلوغها بقرار صادر عن مؤتمر حزبي ( كما كان يحصل في الماضي ) ، بل هي في حالة صيرورة، حالة ما ان تدنو منها حتى تبتعد عنك. وفي هذه الحالة الحركية المتواصلة من التقارب والتباعد، النجاح والإخفاق، التقدم والتراجع، تتحقق الكثير من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تقربنا من الصورة الحقيقية للاشتراكية.
أعرف ان الأستاذ شامل عبد العزيز، الذي ضحك يوم أمس واليوم من ماركس والماركسية، وسخر من أحلامي وأحلام الملايين من الناس سيواجهني أيضا بسخريته اللاذعة، وبشماتة الواثق من نفسه، والعارف بكل شيء وهو يقول :
" كم أتمنى أن يفيق الحالمون من نومهم وأن ينظروا الى العالم نظرة مختلفة وأن لا يمضي العمر وتنقضي السنون بالأوهام وأخشى أن تستمر المقولة الصينية بانطباقها على الشعوب:::
ولدوا وعاشوا وتعذبوا وماتوا.............". وليس لدي ما أقابل به حجته القوية، وحكمة أهل الصين، إلا بكلمات رجل عجوز شغل الدنيا بعلمه وعبقريته خلال قرن من الزمن، قالها قبيل وفاته في 1955. انه ألبرت آينشتاين :
" جزء كبير من التاريخ مفعم بالكفاح من أجل حقوق الإنسان، وهو كفاح أزلي، ولن يتكلل بالنصر النهائي أبدا. ولكن أن تكل وتتعب من هذا الكفاح فهذا يعني نهاية المجتمع ".
وجدير بالذكر ان هذا الشيخ العجوز ، كان من أشد المعجبين بالحالم الطوباوي الكبير كارل ماركس، لا بل كان هو شخصيا من أكبر الحالمين، ودفعه حلمه الى كتابة مقالته الشهيرة " لماذا الاشتراكية "، في أول عدد من المجلة الماركسية ( مونثلي ريفيو )، الذي صدر في آيار 1949. وقد دأبت هذه المجلة على نشر تلك المقالة في عدد آيار من كل عام. وقد كبر حلمه الى درجة ان ملفه السري في مكتب التحقيقات الفدرالية في واشنطن زاد عن 1800 صفحة، وتضمن العشرات من التهم، كان في مقدمتها انضمامه الى 32 حزب شيوعي ومنظمة يسارية!!!
حقا ما زال في هذا العالم العجيب الكثير من السذج والمغفلين، حتى وان كانوا من أعلم العلماء، من أمثال آينشتاين!!!