مراوغات أوباما لن تحلّ الأزمة


يعقوب بن افرات
2009 / 3 / 13 - 08:59     

سياسة أوباما لا تقترب من الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي قامت بها إدارة روزفلت في الثلاثينات من القرن الماضي، ولا تشبه سياسة كلينتون وريغان التي اعتمدت على السوق الحرّة. إنّها سياسة تسير في مسارين متناقضين، البورصة من جهة وميزانية الرفاه من جهة أخرى. هذه السياسة لا تعالج المرض علاجًا شافيًا، بل تشكّل مسكّنات تعد بأمل كاذب في الشفاء والعودة إلى وضع أفضل.

نشاهد الرئيس الأمريكي أوباما يوميًا على شاشات التلفزيونات يعلن عن اتّخاذ إجراء اقتصادي جديد يقضي باستثمار مليارات الدولارات لكبح جماح الركود الاقتصادي، الذي لا يهدّد سلامة أمريكا فحسب، بل استقرار معظم دول العالم شرقًا وغربًا أيضًا. ولا نعرف إذا كان علينا تصديق كلامه الهادئ أو قبول مجموعة الإجراءات التي يتّخذها، والتي بدون أدنى شكّ، لم يكن لها مثيل في التاريخ الأمريكي منذ فترة الثلاثينات من القرن الماضي. إنّ لكلام أوباما نبرة تبشيرية تهدف إلى زرع الأمل والثقة في نفس المواطن الأمريكي القلِق، الذي يشهد كلّ يوم سقوط أحد البنوك أو الشركات الضخمة، وكيف تستولي الدولة على أكبر البنوك، وكيف تعلن الشركات الكبرى عن وشك إفلاسها. والنتيجة واضحة: ملايين المواطنين بلا عمل وبدون تأمين صحّي وبدون مأوى.

انتهاء سياسة السوق الحرّة

الأرقام التي نسمعها من أوباما هي خيالية بالفعل، وتثير كثيرًا من البلبلة بين المواطنين والمحلّلين الاقتصاديين على حدّ سواء. فعندما يقدّم أوباما خطّة اقتصادية فيها التريليون دولار (ألف مليار) هو المبلغ المتداول، يكون من الصعب إدراك كيفية صرفه وإمكانية إدارته، وفي النهاية يصعب التكهّن بنجاعته في معالجة الأزمة والتخلّص من الركود العميق. فأوباما وضع أمام الكونغرس ميزانية بقيمة 3,6 تريليون دولار، تتضمّن ميزانيات مخصّصة لتوفير أماكن عمل في مجال البنى التحتية، كترميم الجسور والطرق الرئيسة وبناء غرف مدرسية وإعفاءات ضريبية للطبقة الوسطى. أمّا الخطوة الأكثر جرأة فتتعلّق بتخصيص 630 مليار دولار كخطّة إشفاء للتأمين الصحّي.

ثلاثون سنة من سياسة السوق الحرّة، التي بدأت في عهد الرئيس رونالد ريغان وصلت الى نهايتها. ثورة ريغان التي ألغت الإجراءات والقوانين التي سنّت أيّام الرئيس فرنكلين روزفلت، وجاءت لبناء شبكة أمان اجتماعية وضمان أماكن عمل للمواطنين، أوجدت اقتصادًا جديدًا يهتمّ بمصالح وأرباح الرأسماليين وليس برفاهية العمّال. ريغان دمّر النقابات وخصخص المشاريع الحكومية وألغى الرقابة على البورصة والبنوك. نتيجة هذه السياسة واضحة المعالم: دمار المنظومة المالية، ركود اقتصادي، انهيار منظومة العقارات، ازدياد البطالة، افتقار 40 مليون مواطن أمريكي إلى تأمين صحّي.

سياسة اوماما

يحاول اليوم أوباما، من خلال هذه الحملة الاستثنائية التي تعتمد على مبالغ خيالية، إيقاف هذا النزيف الذي يعاني منه الاقتصاد الأمريكي وإدخاله إلى العناية المكثّفة. يطلق أوباما نيران حلوله الاقتصادية في كلّ الاتّجاهات؛ فهو يمنح مبالغ ضخمة لبنوك الرهن العقاري من أجل أن يخفضوا نسبة الفائدة على القروض السكنية لأصحاب البيوت الذين عجزوا عن تسديدها، وهم ثمانية مليون مواطن مهدّدون بإخلاء بيوتهم. ويخصّص أوباما مبالغ لمنح دراسية في الجامعات، وكما ذكرنا يعمل من أجل توفير تأمين صحّي لأربعين مليون أمريكي.

لتمويل هذه المشاريع قام أوباما بتغيير السياسة الضريبية التي كانت متّبعة في عهد الرئيس السابق بوش، الذي منح إعفاءات ضريبية للأغنياء في الوقت الذي قرّر فرض ضريبة العائلات التي يتعدّى دخلها 250 ألف دولار سنويًا. كما وبدأت الإدارة الجديدة بملاحقة الشركات التي تتهرّب من دفع الضرائب بإقامتها فروعًا شكلية لها خارج الولايات المتّحدة. بسبب هذه الإجراءات سيصل العجز في الميزانية إلى %12 من الناتج الإجمالي القومي، ولا أحد يعرف كيف سيتمّ تسديد هذا العجز.

ولكن رغم الخطاب الهادئ والمبالغ الضخمة التي تمّ استثمارها من أجل إنقاذ الشركات العملاقة كشركة صناعة السيّارات جنرال موتورز و"سيتي بنك" وشركة التأمين AIG، نشهد مؤشّر البورصة في نيويورك يتراجع باستمرار ويفقد من قيمته كلّ يوم. أصحاب البنوك والمستثمرون يعبّرون عن عدم رضاهم عن خطط أوباما ويدركون أنّه يريد فرض مزيد من الرقابة على الأسواق المالية، فهو يهاجم الشركات التي تمنح هبات مالية بالملايين لموظّفيها، لذلك نلاحظ أنّها تمتنع عن توسيع نشاطها الاقتصادي، والنتيجة وَقْف مَنْح الائتمانات للمواطنين وزيادة الركود الاقتصادي.

أوباما لا يكبح جماح البنوك

ولكن كما يتّضح مع انكشاف خطط الإدارة الأمريكية المختلفة، لا ينوي أوباما كبح جماح البنوك وصناديق التحوّط وصناديق الاستثمار، بل تشجيعها على إعادة النشاط الاستثماري من جديد. ويتبيّن أنّ كلامه عن الرقابة والحدّ من الأجور الخيالية التي تمنح لمديري البنوك ليس سوى ضريبة كلامية لتهدئة الجمهور الذي فقد كلّ مدّخراته مع انهيار سوق الأوراق المالية. هذا الجمهور الذي لا يفهم كيف يمكن للحكومة أن تنقذ البنوك بمليارات الدولار من جهة، وتجيز لمديريها مواصلة تقاضي ملايين الدولارات من جهة أخرى، ولا تفعل شيئًا لمساعدة هؤلاء الذين خسروا مدّخراتهم التقاعدية في البورصة بسبب الصناديق التي أساءت إدارتها.

وقد كُشفت الخطوة الأخيرة التي قامت بها الإدارة الأمريكية ووزير ماليتها تيم غايثنير، في رصدها مليار دولار لإحياء سوق بطاقات الائتمان الذي انهار مع انهيار السندات المرتبطة بسوق الرهن العقاري الثانوي. ففي الوقت نفسه الذي يتكلّم فيه أوباما عن الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة السابقة والبنوك نراه يعود ليضع كلّ ثقله على البورصة كمحرّك أساسي للاقتصاد. فما يقترحه أوباما هو منح صناديق التحوّط وشركات الاستثمار قروضًا مالية بفائدة منخفضة وضمانات لسداد خسائرها ليعود الجمهور إلى الاستثمار في السندات المرتبطة بالائتمان. ما يقصده أوباما هو مساعدة الشركات التي تمنح قروضًا للمواطنين لاقتناء سيّارة، والوِرَش الصغيرة التي لا تستطيع ان تقترض من البنوك.

ان العنصر الأساسي في التركيبة الاقتصادية الأمريكية ليس الإنتاج بل الاستهلاك، ودون بطاقة الائتمان لا يستطيع المواطن الأمريكي العودة إلى المراكز الشرائية لاقتناء حاجاته؛ أساسية كانت أو كماليات. ولكي يغري صناديق التحوّط للاشتراك في خططه، فقد وعد بأنّه سيمتنع عن فرض الرقابة على رواتب المديرين كما هي الحال مع البنوك التي حصلت على مساعدات حكومية. وقد علّقت صحيفة "وول ستريت جورنال" الصادرة في تاريخ 4 آذار على هذه الخطوة بقولها :" تحاول الحكومة، بشكل أساسي، إنقاذ الاقتصاد من خلال تبنّي نفس النهج المالي الذي سبق وخرج عن السيطرة في فترة أزمة الائتمان".

وماذا عن الاقتصاد الحقيقي

وهذا بالضبط لبّ المشكلة في إدارة أوباما، التي منحت خيوط إدارة السياسة الاقتصادية في أيدي سياسيين قريبين من البنوك وصناديق التحوّط. إنّ ما يقوم به أوباما هو منح الأموال الحكومية للجمهور من خلال استثمار مباشر في مشاريع بنية تحتية أو من خلال خفض الضريبة على الطبقة الوسطى لتعود إلى الاستهلاك ببطاقات الائتمان. إنّ المواطن الأمريكي لا يشتري، لأنّ راتبه لا يسمح له بذلك، فأمريكا التي كانت تنتج وتصدّر للعالم كلّه تخلّت عن الإنتاج الذي لا يتعدّى %12 من مجمل الاقتصاد، ودفعت بالعمّال إلى العمل في مجال الخدمات برواتب زهيدة. فالثروة الأمريكية تعتمد اليوم على المضاربة في البورصة من جهة والاقتراض من دول كالصين واليابان من جهة أخرى من أجل توفير مستوى المعيشة اللائق الذي يعيشه الشعب الأمريكي.

أمريكا بحاجة ماسّة للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، في المجالات المنتجة، التي يمكنها ضمان رواتب عالية وبالتالي النهوض بمستوى المعيشة. غير أنّ إدارة أوباما عاجزة عن طرح خطّة إصلاحية حقيقية تعيد لأمريكا دورها الإنتاجي. تفضّل الشركات الأمريكية استغلال الصينيين أو الهنود بدلاً من التخلّي عن جزء من أرباحها من أجل رفاهية المواطن الأمريكي. وفي هذه الحالة، لم يبقَ لأوباما سوى الاعتماد على الائتمان؛ على إغراء المواطن على الاقتراض والعيش في مستوى يفوق إمكانياته المالية الحقيقية. هذه السياسة معرّضة للفشل سلفًا، الشعب الأمريكي تعلّم درسًا عندما قام بالاقتراض دون التفكير في الغد؛ فهو اليوم بدون عمل وبدون تأمين صحّي وبدون مأوى في حالات كثيرة.

من هنا، سياسة أوباما لا تقترب من الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي قامت بها إدارة روزفلت في الثلاثينات من القرن الماضي، والتي غيّرت وجه المجتمع الأمريكي لمدّة ثلاثين عامًا، وهي أيضًا لا تشبه سياسة كلينتون وريغان التي اعتمدت على السوق الحرّة. إنّها سياسة تسير في مسارين متناقضين، البورصة من جهة وميزانية الرفاه من جهة أخرى. هذه السياسة لا تعالج المرض علاجًا شافيًا، بل تشكّل مسكّنات تعد بأمل كاذب في الشفاء والعودة إلى وضع أفضل. الذي سيحسم مصير أوباما في نهاية المطاف، هو نسبة البطالة من جهة ورغبة البنوك من جهة أخرى في المساهمة والتضحية من أجل إنقاذ الاقتصاد. المعطيات الحالية لا تدع مجالاً للتفاؤل. العالم ينتظر الفرج من أمريكا، ولكنّها فقدت الوسائل الأساسية لإنعاش اقتصادها، فرأس المال فقد حيويته.