في الاشتراكية العلمية : الاشتراكية والبرمجة الوراثية


عدنان عاكف
2009 / 3 / 7 - 10:05     

في الاشتراكية العلمية
الاشتراكية والبرمجة الوراثية

ترجمة عدنان عاكف

كثيرا ما نسمع من يتساءل : " هل الطبيعة الإنسانية هي السبب ؟ " وغالبا ما يجري التركيز على الجوانب السلبية في التصرفات الشخصية وعلى السمات الانعزالية، وغير الاجتماعية، وكأن الأمر لا مفر منه، ولا يمكن تفاديه. ومن الملفت للنظر انك نادر ما تسمع من يتحدث عن الأشياء الايجابية الجيدة والنافعة التي بوسع الناس ان يقدموا عليها. ومما يثير العجب أيضا، اننا عندما نسمع بأن البعض قد خاطر بحياته من أجل الآخرين، فاننا، ولسبب ما، لا نميل الى القول : " نعم، انها الطبيعة الإنسانية ! ".
ان فكرة " الطبيعة الإنسانية " هي، على الأكثر، انعكاس لطبيعة المجتمع المنقسم على نفسه والمتمايز، والعاجز عن ضمان حياة جديرة بالاحترام لجميع أفراده. عندها يلجأ هذا المجتمع الى تبرير عجزه هذا بفكرة تشاؤمية، مفادها ان الناس ( وفي الغالب يشار الى الآخرين ) أنانيون وجشعون وكسالى بالوراثة. وتستخدم هذه الفكرة لنفي موضوعة الاشتراكية، والتي في العادة تجابه بجميع الأمثلة السيئة عن سلوك الإنسان وتصرفاته في المجتمع الرأسمالي، وذلك للتأكيد على ان المجتمع القائم على المساواة وحرية الاختيار هو أمر لا يمكن بلوغه.

ليست مبرمجة وراثيا

غالبا ما يتم تعزيز هذه النزعة المغرضة بالحجج والادعاءات، التي تؤكد على ان تصرفاتنا وعلاقاتنا تخضع لضوابط داخلية، من خلال " برمجتنا بيولوجيا " أو وراثيا. وتتجلى تلك التصرفات ( التي تتنافى مع طبيعة الاشتراكية ) في مظاهر مميزة، من أهمها : المنافسة، حب الزعامة، حب التملك، الروح العدوانية، عدم التكافؤ الاجتماعي والجنسي. ويجري التأكيد على ان هذه السمات أمور عامة. ولكن علينا أن لا ننسى ونؤكد على ان كل هذه السمات والتصرفات تشكل المعالم التي تعكس طبيعة المجتمع الرأسمالي.
ما من شك ان نشوء النظام الرأسمالي يشكل ظاهرة حديثة نسبيا، مقارنة مع التاريخ الطويل للإنسان ، والذي احتلت فيه مرحلة الصيد والجمع نحو 90 % ، حيث كان الناس يعيشون على شكل قبائل صغيرة تتنقل من منطقة الى أخرى. وقد انتهت هذه المرحلة مع بدء عملية الزراعة ، وذلك قبل عشرة آلاف سنة تقريبا، وظهور مختلف أشكال التنظيمات الاجتماعية، التي أخذت تنتشر في مناطق كثيرة من العالم. فلو كانت قدراتنا قد حُددتْ بيولوجيا فما كان لهذا التنوع في العلاقات الإنسانية والثقافة والسلوك الإنساني ان يجد له مكانا. ان الدلائل العلمية الواقعية تشير الى ان الإنسان قادر على التكيف حتى النهاية مع التحديات المتمثلة في الظروف الطبيعية والاجتماعية التي يعيش في ظلها. والأدلة التي تم جمعها من برامج جينات الإنسان تدعم فكرة تكيف الكائنات البشرية. فقد أعلن الدكتور كرايج فينتر، رئيس مكتب Celera للجينات، والمسؤول العلمي الأول في هذه المؤسسة العلمية ( وهي شركة خاصة لا يمكن لأحد أن يشكك بإخلاصها للنظام الرأسمالي أو يدعي ان لديها ميول الاشتراكية ) في مجلة " العلم :
" هناك الكثير من المفاجئات التي تظهر من خلال النظرة الأولى الى سجل جيناتنا، والتي تشكل معلومات مهمة للمجتمع الإنساني. منذ 26/6/2000 تغير فهمنا عن جينات الإنسان في معظم الاتجاهات الرئيسية. فالعدد الصغير من الجينات – 30000 ، الذي حل محل العدد السابق – 140000 قد عزز الفكرة القائلة باننا لسنا مقيدين بشدة، كما يتصور البعض. ونحن نعرف الآن بان الرأي الذي يؤكد على ان جينة واحدة تعطي بروتين واحد، وربما تقود الى مرض واحد، هو رأي خاطئ. ان جينة واحدة يمكن ان تقود الى نتائج كثيرة مختلفة، وهذه المنتوجات – البروتينات – يمكن ان تتغير بشكل جوهري بعد إنتاجها . نحن نعرف الآن ان مجالات الموروثات، والتي ليست بالجينات، قد تكون هي المفتاح المفقود للكشف عن سر التعقيدات التي نجدها عند الناس. ونعرف كذلك ان التأثيرات البيئية على هذه المراحل البيولوجية قد يكون العامل الذي يجعلنا ان نكون أنفسنا ( وليس أشخاص آخرين ). كذلك فان العدد الصغير ( المثير للانتباه ) من الأنواع الجينية التي تتجلى فيها الجينات ربما يشير أيضا الى الدور المهم للتأثير البيئي في تطور تفردنا ".

الحرفة، اللغة و التفكير

مع ان الطبيعة الإنسانية الوراثية تترك مجالا واسعا للاختلافات في السلوك عند الأفراد، إلا ان هناك ملامح معينة مشتركة تميزنا نحن البشر عن الأنواع الأخرى. ومن بين هذه السمات : قدرة الإنسان على المشي منتصب القامة، وجود الأعضاء القادرة على النطق والكلام، المقدرة على الفهم، كفان بابهامين متعاكسين، وغير ذلك. وقد أدت هذه السمات الفيزيائية الى تعدد إمكانيات الجنس البشري المتجسدة في عمله، كما في السلوك الاجتماعي، مثل تراكم التجربة المشتركة، التي يمكن تناقلها عبر الأجيال. ان تطور الآلات من تقنية عمل الصوان خلال العصر الباليوليثي ( العصر الحجري القديم ) حتى الوصول الى أجهزة الكومبيوتر وعربات الفضاء في أيامنا يشكل مسألة جوهرية لفهم التاريخ الإنساني.
قد تكون هذه التقاليد الحرفية في الصناعة قد لعبت الدور الأهم في تطور وعي الإنسان. لقد أخذ الصناع من خلال ابتكارهم وتصنيعهم لأدوات العمل ، وإدراكهم لوجودها، أخذوا يدركون وجودهم ذاتهم. ربما قاد هذا الانعكاس لحياتهم الخاصة في إبداعاتهم الى مستوى أعلى من وعي الذات، والى قدرة على التفكير في مدى زمنى أوسع في الماضي، والحاضر والمستقبل. ويمكن للغة عندئذ ان تكون قد تطورت من المصادر الأساسية للأشياء المادية الى مستو أعلى من التفكير التجريدي، الذي يعبر عن تطور رؤية أعقد الى عالمهم. وربما أصبح من الممكن، في ما بعد، ان تكون الإنسانية قد أبدعت أفكارا وثقافة، لتصبح أقل غريزية وأكثر عملية – تصميمية من خلال هذا التأثير الديناميكي المتبادل بين الطبائع الإنسانية والبيئة التي كانت جوهرية في عملية الشغل. لذا نجد ان الناس نجحوا ليس فقط في تغيير ظروف حياتهم ، بل وان يغيروا أنفسهم أيضا، وذلك من خلال تغييرهم لتلك الظروف. ولم يكن هذا يتطلب إدخال نماذج سلوكية مبرمجة ومثبتة من خلال السجل الوراثي، بل من خلال التأقلم مع البيئة.

الاستعداد للتعاون

ولكن ما كان لأي شيء من كل هذا ان ينشأ ويتحقق لولا روحية التعاون التي كانت سائدة في تلك المجتمعات القديمة. وفي الوقت الذي لا يمكننا الجزم بان روحية التعاون كانت مبرمجة بواسطة جيناتنا، لكننا نستطيع التأكيد على ان ذلك كان استعداد تم خلقه فيزيائيا. وقد جاءت نتائج الدراسات التي قام بها الأنثروبولوجي اندريه وايتن، في عصرنا الحالي، لتدعم وجهة النظر القائلة بان التعاون كان سمة مهمة وجوهرية لبقاء وتطور مجتمعنا. ويؤكد وايتن على ان المساواتية والمشاركة في القيادة أو افتقادها كانت من أكثر السمات الدائمة في مجتمعات الصيد / الجمع... اننا من خلال التعاون مع الآخرين، ومن خلال تقسيم العمل، نضاعف بشكل كبير ما يمكن إنتاجه لمصلحتنا المشتركة. والى جانب هذه المنافع المادية فان التعاون يُمَكننا من ان نتطور كأفراد. ان فرديتنا تنمو وتجد تعبيرها من خلال الموقف من الآخرين, وهذا سيكون أمرا مستحيلا في ظروف العزلة الاجتماعية. ومن خلال عملية النمو الفردي هذه نتقدم، ليس في علاقاتنا الفردية فحسب، بل نتقدم في المجتمع بشكل عام...
يقال أحيانا ان التعاون مع الآخرين أمر مستحيل بسبب التناقض المتوارث بين المصلحة الذاتية ومصالح لآخرين. ولكن الحقيقة هو العكس تمما. ان مصالح الفرد تتحقق بصورة أفضل حين يعمل الناس سوية...