محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية - 2 الجدلية جوهر التفكير العلمي وحقيقته


سعيد مضيه
2009 / 3 / 1 - 09:56     

2ـ الجدلية جوهر التفكير العلمي وحقيقته
أكد العالم في محاضرته تحت عنوان " الماركسية وسرير بروكوست"، أن الجدل هو جوهر المادية وحقيقتها. وقد بلور في المحاضرة خلاصة ما أوصله الجهد المثابر في تطوير الماركسية انطلاقا من التعمق في جوهرها الإنساني.
تميز محمود أمين العالم بدمج الفكر بالممارسة في علاقة تفاعلية وبالتجسيد العملي للجدل في نشاطه الدؤوب. وتجلت دينامية التطور الجدلي في الفكر من خلال انشغاله بالتجديد والتجاوز. ظل مسكونا منذ عقد الستينات بتطوير الفلسفة انطلاقا من تطور العلوم وظهور الاكتشافات والمد المتصاعد لحركة التحرر الوطني. التجديد والتجاوز منحيان لهما أهمية في تاريخ الفرد وفي التاريخ الإنساني العام.
وإذا كانت مقدمات الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر محدودة بما وصلت إليه العلوم والحركات الاجتماعية فإن المرحلة الراهنة تقدم إضافة لذلك "ما استجد منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم من تطورات علمية وتكنولوجية، وبخاصة ما يتحقق اليوم من ثورة كاملة في مجالي علوم الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن الخبرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، السلبية والايجابية، وخاصة خبرة انهيار النموذج السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وانهيار حركات التحرر الوطني واحتدام الصراعات العرقية والقومية والدينية في العالم، والأزمات التي يعانيها اليوم النظام العالمي ومحاولات الهيمنة على العالم، الى جانب بروز حركات اجتماعية جديدة في العالم كحركات السلام، والدفاع عن البيئة، والجماعات المدنية والأهلية، والمنظمات الدولية والصورة العامة للعولمة بدلالتيها الايجابية والسلبية فضلا عن تطور مفهوم قوى الإنتاج نتيجة للثورة العلمية الجديدة ومفهوم القيمة وما يفرضه هذان المفهومان من تطوير ضروري لمفهوم الطبقة العاملة، ومفهوم دكتاتورية البروليتاريا، فلم تعد الطبقة العاملة هي ذاتها في صورتها التقليدية بل أضيفت إليها قوى جديدة، كما ان مقولة دكتاتورية البروليتاريا أصبحت أضيق من أن تتسع للقوى الإنتاجية والإبداعية الجديدة التي يمكن اليوم ان تشارك في التحولات الثورية."( الماركسية وسرير بروكوست).
التطور لم يكن ولن يكون قطعا مع الماضي. فكل مرحلة تفضي إلى مرحلة جديدة تستند إلى خبرات سابقتها. وبناء عليه فإنه كان قادرا على مواصلة تقدمه الفكري وتكامله التدرجي، مستفيدا من نواقص وأخطاء المرحلة السابقة وعدم الانشغال بالتبرير لهذه الأخطاء إذا حدثت؛ بل يتناولها في سياقها العام بالتحليل والتقييم.
يلتقط الدكتور ماهر الشريف مسيرة العالم في دنيا الفلسفة متفاعلة مع الممارسة العملية، فيقول: "بالاستناد إلى الماركسية، التي توحد في وحدة عضوية النظرية والممارسة، اندفع محمود أمين العالم منذ مطلع الخمسينات لإعلاء شأن الفلسفة والتصدي لمن يرفع شعار "بلاش فلسفة" . مؤكدا أن الفلسفة التي يؤمن بها فلسفة علمية مرتبطة بالحياة " تدرك الحركة الشاملة للواقع المادي وتحترم قوانينها الموضوعية وتسعى لاستخلاص القواعد العامة منها. وهي لا تقتصر على مجرد المعرفة العلمية، بل تتسلح بهذه المعرفة لتحقيق مهمة تغيير الواقع(قضايا فكرية ـ الكتاب الأول /يوليه 1985). إن تاريخ البشرية حسب المادية التاريخية يسير بمقتضى قوانين الضرورة وتحكمه الحتمية كذلك؛ علما بان الحتمية في مجال التاريخ تتميز بصفة نوعية خاصة لا تتميز بها الحتمية الطبيعية، هي الوعي والإرادة البشرية. فبوعيه قوانين الضرورة والحتمية وسيطرة إرادته عليها يعجل الإنسان بتحقيق هذه القوانين ويتيح لنفسه الحرية الحقيقية. وردا على من زعم بأن العلم قد تخلى عن حتميته وضرورته بنتائجه الاجتماعية الجديدة أكد العالم منذ منتصف الستينات أن النهج الاحتمالي ليس تخليا عن الحتمية الاحتمالية وإنما عن الحتمية الميكانيكية وإفساح السبيل أمام حتمية جديدة هي الحتمية الاجتماعية. فالتاريخ البشري هو محصلة لعوامل متداخلة متفاعلة متناقضة من العلل والضرورات والمصادفات المختلفة، تحمل إمكانات متعددة مفتوحة، وتلعب التاريخية متفاعلة مع العوامل الموضوعية، بحيث لا تعبر الحتمية عن قدرية تاريخية محددة سلفا."
ويسجل الدكتور رفعت السعيد هذه الخصلة في فكر العالم وممارسته النضالية فيقول، " فهو إذ يُعمل العقل ويقرر الانتقال من موقف لآخر ينتقل محملا بالقديم محاولا إلباسه ثيابا جديدة تتلاءم مع الموقف الجديد. هكذا فعل بفلسفة المصادفة، وهكذا فعل بالتراث إذ تعلق بالجديد. وهكذا فعل عندما التقى بماركسيته الحازمة مع الفكر الناصري في إطار التنظيم الطليعي، أو حتى قبل ذلك.
ولعله يفصح عن ذلك صريحا :’ لتكن حياتنا احتفالا دائما بالجديد ونبضا متصلا بالجديد ، ولن يعني هذا أبدا انفصالا عن تراث ، أو انقطاعا عن تاريخ ، ذلك لأن الجديد هو بحق روح كل تراث، وروح كل تاريخ، بل الجديد هو روح الحياة نفسها ، وسر شجرتها الدائمة الاخضرار والنضارة‘. "
نعثر على مساهمة رشيقة للعالم في توسيع آفاق الجدل المادي في ما كتبه مقدمة مختزلة لكتيب صغير أصدره محمد إبراهيم نقد ، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني عام 1992 ، وهو يعيش اعتقالا منزليا بأمر حكومة " الإنقاذ". والمساهمة عبارة عن نقد علمي لمنجز الدكتور حسين مروة " النزعات المادية للفلسفة العربية الإسلامبية". في مقدمته الموجزة يقيم العالم كيف " ينعش ـ نُقُد ـ معرفتنا بهذا الصنيع الفكري الكبير الذي خلفه لنا حسين مرة، بتناوله النقدي لبعض جوانبه ، بما لا يقلل من تقديره لهذا الصنيع." فكتاب نقد " يقدم بوعي عميق ورحابة أفق حقيقة المنهج الجدلي في مواجهة العديد من التشويهات التي تعرض ويتعرض لها عند بعض الكتاب والباحثين ، وخاصة في المدرسة الفلسفية السوفييتية." كما يلفت العالم نظر القارئ إلى أن محمد إبراهيم نقد يسعى إلى تخليص دراسة العقل العربي من ذلك التحقيب(صيغة اسم الفعل من حقبة، ويقصد حقبة العصر الجاهلي) التاريخي الذي يجرد هذا العقل من قدراته على النظر الفلسفي في التاريخ القديم. ومحمد إبراهيم نقد لا يحرص على بيان وإبراز هذا التنظير الفلسفي القديم فحسب، وإنما يحرص كذلك على كشف ما يزخر به الفكر العربي الإسلامي المعاصر من محاولات واجتهادات لعلها تصطدم بما يرين على هذا الفكر من ازدواجية مصادر الثقافة ومناهج التعليم من اتجاهات سلفية وأخرى حديثة". ويستطرد العالم إلى القول في هذا المجال ، " والبحث التاريخي ليس تطبيقا لصيغ مسبقة جاهزة؛ وإنما هو دراسة عينية واستخلاص القوانين الموضوعية منها. فالواقع أغنى من أن نحبسه في هذه الصيغ الجاهزة، وأغنى من أن نفسره بعامل واحد هو الاقتصاد والإنتاج وإعادة الإنتاج ـ على أهميته ـ ونسخ بقية العوامل المادية والروحية الأخرى. وهو أغنى كذلك وأعقد من أن نفرض عليه تعريفات محددة ، كتعريف الوعي مثلا وتحديده بمرحلة تاريخية اجتماعية معينة. رغم أن البحث العلمي أثبت توافره في مراحل سابقة مختلفة. ولهذا لا بد ـ على حد تعبير محمد إبراهيم نقدـ من انتشال المنهج الجدلي من الجمود والكسل الذهني وخنوع الهمة".
و الاحتفال الأمثل بالجدل كتشكل لحركة المادة وحقيقتها يتوهج أيضا في افتتاحية الكتاب الثاني عشر من قضايا فكرية . يقدم من تجربة التاريخ العواقب الكارثية لخنق الجدل أو الغدر به. يكتب محمود أمين العالم في افتتاحية كتاب " سبعون عاما على الحركة الشيوعية المصرية" ويقول، "فالمادية التاريخية ليست رؤية قدرية لإيديولوجيا قبلية لحركة التاريخ، وإنما هي رؤية موضوعية علمية لتعددية وصراعية الواقع الإنساني التاريخي، في أنماط إنتاجه المختلفة. وهي رؤية متفتحة على إمكانيات شتى، وليست منغلقة على نسق نهائي محدد. وهي تتضمن في الوقت نفسه أداة التحليل الموضوعي العلمي للوقائع والمصالح وأنماط الإنتاج المختلفة في سيرورتها وصيرورتها، والاستناد على نتائج هذا التحليل لتسليح الوعي والإرادة الإنسانية الجماعية بالقدرة على تغيير التاريخ وتطويره وتجديده. وعلى هذا فالمادية التاريخية والمنهج المادي الجدلي يشكلان وحدة واحدة، ويعبران عن رؤية جماعية تغييرية للتاريخ نابعة من القراءة العلمية للتاريخ نفسه، وليست مفروضة من خارج التاريخ أو تخطيا أو تجاوزا لنتائج دراسته العلمية".

ثم ينعطف نحو محنة تجميد الجدل، فيقول: "إلا أن المدرسة السوفييتية سارت على النهج الستاليني في فهم المادية التاريخية، ولم تقف فحسب عند حدود رؤية خطية للتاريخ تلغي حقيقته كإمكانية مفتوحة خاضعة لعوامل متشابكة متداخلة متناقضة تجمع بين الجانب الذاتي والموضوعي، بل اتخذت من هذه الرؤية الخطية للتاريخ سندا لتغليب الجانب الذاتي الإرادوي البيروقراطي العلوي تعجيلاـ في ظنهاـ لحركة التغيير التاريخي، ضاربة عرض الحائط بمختلف العناصر الذاتية والموضوعية الأخرى. وهكذا أصبحت المادية التاريخية في التطبيق رؤية مفروضة على التاريخ وليست رؤية مستمدة من دراسة موضوعية عينية للتاريخ. ولهذا أفضت إلى إلغاء حركة التاريخ بدلا من التعجيل بها. بل أصبحت النظرية عقبة في وجه التاريخ واستبدادا بالتاريخ وقمعا له. ولا شك أن كل نظرية تسعى لفرض ذاتها على الظواهر التي ندرسها ونتعامل معها هي بمثابة سلطة استبدادية إزاء هذه الظواهر".
ويعود إلى المصادفة في أثرها السلبي فيقول،"لقد كانت السياسة الاقتصادية الجديدة ( النيب) ثمرة إدراك موضوعي لحقيقة الواقع الاجتماعي والتاريخي المتخلف ومحاولة تطويره بشكل يحترم خصوصيته. وفي تقديري انه كان من الممكن لو استمرت هذه السياسة لعقد من الزمان بعد عام 1928( حيت تم التحول عنها ونسف اشتراطاتها المادية والروحية)او أكثر من عقد، أن تقدم بديلا تنمويا سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا وثقافيا وإنسانيا عن التنمية السلطوية الاستبدادية ، وبالتالي نموذجا اشتراكيا مختلفا... .
" والواقع أن كل نظرية مهما كانت درجة علميتها تتضمن ـ بطابعها الكلي أو الكلياني ـ قمعا وتقليصا لما تعبر عنه من واقع طبيعي أو إنساني، يتكون من عناصر ومعطيات وضرورات ومصادفات متعددة متجددة، زمانا ومكانا. فكل نظرية تسعى لامتلاك ما هو جوهري في الواقع، وهو ما يشكل علميتها في الحقيقة. إلا أن هذا المسلك، وإن استطاع أن يمتلك بحق ما هو جوهري أو يقترب منه في دراسة الواقع الطبيعي المادي ، فلن يكون الأمر ميسرا بالمستوى نفسه في دراسة الواقع الإنساني....
" تحولت النظرية الماركسية إلى نسق مغلق مفروض بشكل علوي إرادوي على المجتمع وعلى بقية بلدان المنظومة الاشتراكية. وبدلا من أن تكون النظرية وسيلة لتحرير المجتمع من الاغتراب ، فضلا عن تجديده وتطويره، أفضت إلى مضاعفة اغترابه وسجنه في نسق نظري مغلق وتجميد حركته. وكانت المفارقة المأساوية أن تنجح العوامل الذاتية الإنسانية من صراعات ومظاهرات وإضرابات واعتصامات وتناقضات طبقية محتدمة ، ومنافسات من اجل الربح ، ومن أجل السيطرة المعرفية والتكنولوجية والتنوير العقلاني في تطوير النظام الرأسمالي الذي يقوم أساسا على الاستغلال والاغتراب ، على حين أن النظام الاشتراكي ـ في نموذجه السوفييتي ـ الذي من المفروض أن يقوم أساسا من أجل إلغاء الاستغلال الإنساني وإنهاء اغترابه، يفشل بسبب تجاهله وإهداره للعوامل الذاتية الإنسانية."
إلى أن يتساءل بحسرة وألم :" ألم تكن هناك إمكانيات لبدائل أخرى غير هذه البيروقراطية تتيح لهذه التجربة السير في طريق تحقيق الهدف الاشتراكي وتقديم نموذج ديمقراطي إنساني متقدم مختلف عن النموذج الرأسمالي، وأكثر احتراما للتناقضات والمبادرات المجتمعية ، وأكثر قدرة على التنمية الديمقراطية الإبداعية الإنسانية ؟"
لكنه يرفض إطلاقية التجربة الأولى للبناء الاشتراكي، فنراه يقيم راهنية الماركسية وصدقيتها ( الماركسية وسرير يروكوست) من إلحاح حاجات المرحلة الراهنة:" فلم تبرز الحاجة الى الاشتراكية والى الفكر الماركسي كما تبرز الحاجة إليه هذه الأيام. ان الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما أصاب التجربة السوفييتية الاشتراكية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني". ولم تكن الأزمة الرأسمالة المستفحلة قد برزت إرهاصاتها بعد.
إن الاستخلاص النظري المجرد للتناقض الاجتماعي بين طبقتي البرجوازية والبروليتاريا يعني أنهما يتحققان على نحو خاص في كل مجتمع. وتنطبق الخصوصية بالذات ـ في نظر العالم ـ "على مجتمعات البلاد النامية والمتخلفة التي لم تتبلور فيها بشكل كامل الأبنية الطبقية، بل ما أشد التداخل بين تكويناتها الطبقية والاجتماعية سواء من الناحية الاقتصادية أو الإيديولوجية. وما أكثر ما تتشكل داخل كل طبقة من هاتين الطبقتين ـ حتى في حالة بلورتها ـ شرائح وفئات مختلفة. بل ما أكثر ما نتبينه من استمرار بعض التشكيلات الاجتماعية والثقافية السابقة القديمة، مما يجعل الصراع الطبقي بالغ التعقيد. علاوة على أن التحليل الطبقي لا يصح في كثير من الأحيان إزاء العمليات السياسية الجزئية الآنية المباشرة، التي قد تكون ثمرة أخطاء في التقدير والسلوك أو تكتيكات مؤقتة... إنما يصح التحليل الطبقي إزاء مراحل زمنية طويلة نسبيا وممارسات ذات أفق مجتمعي شامل.
"ولعل هذا يثير تساؤلا حول العلاقة بين الواقعي والنظري. أو بتحديد أكثر تعلقا بموضوعنا، بين التاريخ والنظرية. فالنظرية هي علاقة ضرورة بين معطيات معرفية عامة تشكل نسقا محددا. ومن حيث أنها نظرية فهي تتسم بالعمومية والكلية من ناحية، والثبات والاستقرار النسبيين من ناحية أخرى، ما لم تخلخل من كليتها، وتقلقل من ثباتها واستقرارها نظرية أخرى. فإذا كان هذا شأن النظرية، فكيف يمكن أن تنطبق على التاريخ الذي سبق أن عرضنا لمفهومه باعتباره محصلة عوامل ذاتية وموضوعية متداخلة متشابكة متفاعلة متناقضة، تشكل إمكانيات مفتوحة متعددة؟ كيف يمكن أن تكون هناك نظرية تستوعب حركة التاريخ؟"
يجيب العالم على تساؤله في نفس الافتتاحية ويقول "في نظري لا غنى عن النظرية والتنظير والتعقيل في تعاملنا مع التاريخ. فرغم أن النظام الرأسمالي نفسه نشأ وتطور بشكل تلقائي متدرج غير موجه، ورغم الطابع البراغماتي لممارساته، فهو يتحرك طبقا لنظرية كامنة في حركته، هي نظرية التناقض بين العمل ورأس المال، بين الإنتاج الجماعي والملكية الفردية ، أي بتعميم آخر الاستغلال واستخلاص فائض القيمة لمصلحة الأقلية المالكة، فضلا عن التنافس والتناحر من أجل الربح ، بما أفضى ويفضي إلى أشكال مختلفة من العدوان والتوسع والاستعمار والقهر الطبقي والقومي والثقافي والاغتراب الإنساني."
ويواصل القول،" إن القيمة الحقيقية للنظرية الاشتراكية العلمية ليست فحسب فيما تتضمنه من رؤية إنسانية على أسس علمية لتحقيق العدالة والحرية والرخاء والتقدم والسلام، وإنما فيما تتضمنه أساسا من منهج جدلي علمي كذلك في التعامل مع حركة التاريخ. فقوانين هذا المنهج ليست قوانين أقنومية ثبوتية، وإنما هي قوانين للحركة ذاتها في تحقيقاتها العامة. ... إن نقطة البداية في التعامل مع حركة التاريخ هو الاجتهاد في معرفة خصوصية هذه الحركة، باعتبارها حركة للجماهير المزودة بالوعي والإرادة.
ارتكز العالم إلى ماركس في النص المعروف في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، وذلك في دراسته الغنية " الماركسية وسرير بروكوست"، حيث اقتطف قول ماركس "ان الناس في إنتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، علاقات إنتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الإنتاجية. ان مجموع علاقات الإنتاج هذه تكون البنية الاقتصادية للمجتمع والأساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الأساس الفوقي القانوني والسياسي والذي ترتبط به أشكال الوعي الاجتماعي المحددة. إن نمط الإنتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم؛ وإنما العكس، ان وجودهم هو الذي يحدد وعيهم".
ويعلق العالم على ذلك بالقول "إن بعض القراءات الجامدة الاطلاقية الشكلية لهذا النص تسارع الى القول بان الوجود الإنساني محكوم ومشروط بشكل حتمي بالواقع المادي. وهذا الواقع المادي هو الذي يحدد المسار التاريخي الإنساني كله.
"على ان القراءة الموضوعية لهذا النص، تكشف منذ بدايته ان إنتاج الناس لوجودهم الاجتماعي هو الذي يفضي إلى تحقيق علاقات مستقلة عن إرادتهم الفردية. وهذا لا ينفي أولا مشاركتهم في شكل هذه العلاقات وإنما يكون بشكل غير إرادي، أي بشكل موضوعي. وهنا تلتقي الممارسة الذاتية بالتشكل الموضوعي، الذي سوف يعود بدوره إلى التأثير في الوعي الذاتي، والممارسة الذاتية، بما يفضي بدوره إلى أشكال أخرى متطورة من العلاقات.
"أي هناك تفاعل بين الذاتي والموضوعي، هناك ضرورة موضوعية تتحقق بالممارسة الاجتماعية، على ان هذه الضرورة الموضوعية يمكن ان تتغير بالوعي الذاتي بها. ولهذا يقول ماركس بوضوح ساطع "ان الناس هم الذين يصنعون التاريخ" ولقد فسر ذلك قائلا "حتى الآن فعلوا ذلك بغير وعي خاضعين لقوى اقتصادية واجتماعية لا يفهمونها ولكنهم قادرون الآن على الوعي" بها، هذه – في تقديري – القيمة الثورية التاريخية الأساسية للماركسية.