روجيه غارودي تجاوز فلسفة الكورس !


جمال محمد تقي
2009 / 2 / 28 - 07:15     


مفكر مجتهد وقلم عملاق لم يترجل حتى اللحظة الاخيرة من انفاسه الحية ، يبحث في الاشكاليات دون ان يهاب الصعاب ، متمرس في التاليف والعمل النضالي ، زاوج بين النظرية وافاق التطبيق ، منهجيته النقدية النفاذة والمبدعة اثارت حفيظة المحافظين في اليسار واليمين ، جدلي مفوه ، ترك ارثا هي كنوزا من الخامات التي تحفز الدارسين والنقاد الموضوعيين على بذل الجهد لتعدينها ، اقتحم البقع الحساسة في الحركة الاجتماعية ، وتصدى للتغول الامبريالي والمركزية الغربية ، وحارب العنصرية المتصاعدة بكل اشكالها على قاعدة انها من افرازات الهيمنة على العالم ، عرى الصهيونية ، وكل اشكال استنطاق الدين لخدمة مشاريع الاستثمار الراسمالي ، دافع عن الحضارة الكونية كونها عطاء مشترك ، دافع عن الحضارة الاسلامية بعين علمية ناقدة تدعو احفادها الى استلهام المقاصد ورمي العوالق والمحبطات والدوغمائيات كما ترمى الجمرات ، دعا العالم لحوار انساني بين الثقافات ، وقف الى جانب حقوق المظلومين في العالم ، الى جانب الطبقات الضعيفة في بلاده فرنسا ، الى جانب حقوق العمال والطلاب والمثقفين وصغار المنتجين ، وقف مع حرية شعوب الجنوب ، وقف الى جانب الخيار الانساني لشعوب اوربا الشرقية ، وقف الى جانب القضية العادلة للشعب الفلسطيني ، كان جريئا ومتحديا وغير هياب عندما صنف الصهيونية كتوئم للنازية ، كان تاثيره افكاره خارقا ، لذلك حاولت اللوبيات ومؤسسات غسل الادمغة وترويضها التي تغذيها المصالح العليا للاحتكارات العالمية بعزله والانتقاص من مصداقيته بل ومحاكمته ، ضغوط هائلة وتزويرات وتزييف وامكانات ممولة ومسيطرة على اغلب وسائل الاعلام والنشر والابحاث راحت تغلق الابواب بوجهه ، قاوم وقاوم ولم يتنازل عن مواقفه حتى ان ترك الحياة وروحه مازالت تردد وبثقة ان النصر في النهاية سيكون للحقيقة واصحابها وان كره المستبدون والمنافقون !
انخرط في صفوف التنظيم الشيوعي مبكرا ، منذ منتصف الثلاثينيات ، وكان طموحا واسع الافاق حريصا على متابعة تحصيله العلمي !
في مطلع الخمسينيات نال درجة الدكتوراه من السوربون عن اطروحته المبدعة " الحرية بين الصدفة والضرورة " وقدم لاطروحته التي صدرت بكتاب منشور القائد الشيوعي الفرنسي الكبير موريس توريس ، عام 1970 استبعد من عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي ، وهو في اوج عطاءه القيادي والنظري ، وحسب قوله فان السبب الرئيسي كان : " ما اعلنته من ان الاتحاد السوفيتي ليس اشتراكيا " !
الاحداث شهدت له فيما بعد بانه الحاضر الغائب في اجواء ومواقف الحركات الشيوعية واليسارية في اوروبا الغربية ، فافكاره التي وضعها عام 1969 في كتابه منعطف الاشتراكية الكبير قد تفاعلت معها عناصر التجديد في التنظير الماركسي الغربي ، وكانت روح المبادرة التي صاغها في مقولة الكتلة التاريخية ، كتحالف طبقي بين ذوي الياقات الزرق والبيض ، متجاوزا على صيغة ـ ديكتاتورية البروليتاريا ـ كهدف برنامجي للحركة الشيوعية في ظرفها التاريخي الملموس ، بما يحفز لنهضة يسارية جديدة ، تجمع اوسع تحالف سياسي يستنفذ الشحنات الايجابية لاحزاب الاشتراكية الديمقراطية واتجاهات اليسار الجديدة المنبعثة من مستجدات الحداثة الراسمالية ذاتها ، حركات الخضر ، النقابات المستقلة ، المنظمات والاتحادات الاهلية !
نشر 53 كتابا ، ترجمت الى 29 لغة ، وكتب حولها 22 بحثا علميا جامعيا حول العالم ـ بعضها رسائل ماجستير ودكتوراه ـ كتابه الاخير " الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية " والذي ترجم الى 23 لغة اثار حفيظة الدوائر الضاغطة للوبي الصهيوني في فرنسا والذي اعتبروه وثيقة تدعو لمعادة السامية وعلى اسس هذه التهمة قدم للمحاكمة التي غرمته بالنتيجة 20 الف دولار ، وكانت المحاكمة مناسبة للاحتجاج على القدسية المزيفة لما ثبته المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ، لقد سارت موجة احتجاجات كبيرة بالضد من المحاكمة وموجباتها التي برهنت على ان المكارثية ما زالت حية وحية جدا ، وخاصة اذا تعلق الامر بالصهيونية ، وفضح جوهرها النازي الذي ما قام بتصفية مئات الالوف من اليهود الابرياء الا تواطئا مع الصهيوية لحمل المتبقين على الهجرة وايضا لابتزاز العالم وجعله مدينا ابديا لدعم قيام دولة اسرائيل وحمايتها ومدها بكل اسباب القوة ، ان مبالغات قضية المحرقة وجعلها اسطورة حية تشفع للصهاينة حكام اسرائيل صنع المحارق الحقيقية للفلسطينيين هو اجرام قانوني واخلاقي وانساني وفكري ، فلا توجد محرمات لتقصي الحقائق والخوض بالاحداث ، وعلم التاريخ لن يغلق ابواب نقده لحساب عنصرية هذا الطرف او ذاك ، او لمصالح هذه القوة الغاشمة او تلك فكما وصلت الحقائق عارية الى الناس عن الاحداث الغابرة ستصل حتما حقائق الارتباطات النازية الصهيونية ، مبرهنة للجميع ان حبل الكذب قصير ومهما طال الزمن !
ان كل المحرمات التفتيشية والارهاب الفكري الذي تتعامل به حكومات اوروبا وامريكا كنوع من انواع الشعور بالذنب تجاه ضحايا المحرقة لا تجدي نفعا فاصلاح الذنب ليس بارتكاب ذنوب اكبر واكثر وبحق شعوب لا ذنب لها سوى انها اصبحت مكبا لمشكلات اوروبا البنيوية والبيئية ومرتعا لتحقيق الاطماع الاستعمارية ، هم من فجر حربين كونيتين خطفت ارواح اكثر من 70 مليون انسان ، ثم يتناسون ذلك ويتهمون غيرهم بالعدوان والارهاب ؟

كان غارودي عالما موسوعيا متقد الحماس في عمله ، وغزير العطاء ، ولتوخي الاحاطة بمجمل اعماله سنستعرضها بتبويب انواع اجناسها على النحو التالي علما انه اتجه للتاليف من مطلع الاربعينات ولم يوقفه عن المواصلة الا الموت مع بدايات الالفية الثالثة : 1 ـ تاريخ الماركسية : كتب فيها اربعة مؤلفات المصادر الفرنسية للاشتراكية العلمية ، الله قد مات ـ دراسة حول هيغل ، فكر هيغل ، كارل ماركس رؤية متجددة !
2 ـ مشكلات الماركسية : النظرية المادية للمعرفة ، الحرية ، آفاق الانسان ، ماركسية القرن العشرين ، من اجل نموذج فرنسي للاشتراكية ، هل يمكن للمرء ان يكون شيوعيا اليوم ، منعطف الاشتراكية الكبير ، الماركسية والوجودية ، اسئلة موجهة الى سارتر !
3 ـ الدين : الكنيسة والشيوعية والمسيحيون ، محو حتمية التاريخ ، اصوليات ، هل نحن بحاجة الى الله ، الاسلام الحي !
4 ـ علم الاخلاق : الماركسية والاخلاق ، ما الاخلاق الماركسية ، الانسانية الماركسية !
5 ـ علم الجمال : مسار آراغون ، واقعية بلا ضفاف ، لنرفض حياتنا !
6 ـ حوار الحضارات : الاسهام التاريخي للحضارة العربية الاسلامية ، المشكلة الصينية ، من اجل حوار الحضارات ، كيف يصبح الانسان انسانا ، وعود الاسلام ، قضية اسرائيل ، فلسطين ارض الرسالات الالهية ، الاسلام في الغرب !
7 ـ ابحاث في استشراق المستقبل الانساني : استعادة الامل ، الخيار ، مشروع الامل ، ما قولك بما انا وهي عبارة عن رواية كتبها عام 1978 ، عهد الرجال ، نداء الى الاحياء ، مازال في الوقت متسعا للعيش ، من اجل مجيء المرأة ، ترجمة القرن العشرين ـ وصية روجيه غارودي الفلسفية ، في معاكسة الليل عبارة عن قصيدة طويلة كتبها عام 1987 ، جولتي في القرن وحيدا عبارة عن مذكرات ، الى اين نذهب ، حفار القبور !
اضافة الى مئات من المقالات والابحاث المتناثرة في مختلف المطبوعات وعلى مدار اكثر من خمسة عقود متواصلة من العمل البحثي والدراسي والنقدي ، ومحاضرات عامة وخاصة ، وحلقات دراسية وندوات علمية كان حضوره فيها يكسبها رصانة وحيوية !