تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//التطور التاريخي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمغرب//2 تحول الارستقراطية القبلية الى ارستقراطية تجارية .


بلكميمي محمد
2009 / 2 / 23 - 10:07     

ان التناقض بين الارستقراطية القبلية واعضاء القبيلة المسلحين ، مادام لايزال في شكله البسيط ، فانه يسمح بامكانية تضامن القبيلة مع ارستقراطيتها ، وبالتالي تعبئتها لخدمة المشاريع السياسية للارستقراطية . واذا كان ابرز انجاز سياسي حققه التضامن القبلي خارج المغرب هو فتح الاندلس ، فانه على الصعيد الداخلي يتجلى في قابليته لجعل الارستقراطية القبلية على راس دولة . ام الدول الكبرى الثلاث ، المرابطية والموحدية والمرينية ، تشكل امثلة ساطعة على ذلك .
في القرن التاسع ، برز المغرب كحلقة وصل اساسية بين افريقيا السوداء وبلدان المشرق الاسلامي . لكن هذا الدور سيصبح حاسما عند تعاظم تجارة الذهب المتدفق من تومبكتو بمملكة مالي ، ومن جاو والمناطق المجاورة ، الى بلدان الشرق واروربا عبر الصحراء الغربية المغربية .
ان تجارة الذهب قد اعطت للارستقراطية القبلية التي تمكنت من الوصول الى راس الدولة فائضا اقتصاديا هاما سمح لها ببناء حضارة مغربية خلال تلك الحقبة التاريخية . وان مدينة فاس التي ارتبط اسمها تاريخيا بتلك الحضارة ، انما تستعد دورها الاشعاعي هذا مع موقعها التجاري المركزي . ذلك انها جغرافيا كانت تحتل موقعها استراتيجيا على مفترق الطريقين الرئيسيين في نقل تجارة الذهب ، فمن جهة ، ان تواجدها قرب مدينة تازة التي تعتبر الممر الوحيد الممكن في اتجاه الشرق ، بسبب تواجدها في نقطة الانقطاع بين جبال الاطلس وجبال الريف ، قد مكنها من ربط السهول المغربية الممتدة على الساحل الاطلسي ، ببلدان المشرق الاسلامي عبر الجزائر وتونس .
ومن جهة اخرى ، ان تواجدها على الطريق الرابطة بين سجلماسة في الجنوب التي هي بمثابة بوابة الصحراء نحو افريقيا السوداء . وبين مدينة سبتة في الشمال على البحر الابيض المتوسط مكنها من نقل الذهب من مصادره في افريقيا السوداء الى اوربا .
ان التناقض الكامن بين الارستقراطية القبلية واعضاء القبيلة ، سيحتد بمجرد وصول الارستقراطية الى الحكم وسيكون محور الصراع بين الطرفين هو مسالة الفائض الاقتصادي الناجم عن المداخيل التجارية. فالارستقراطية ستستغل نفوذها السياسي المتعاظم من اجل الاستحواذ على الجزء الاعظم من الفائض التجاري . اضافة الى ذلك فقد تولدت لديها ميولات سياسية الى خلق نظام ملكي وراثي مطلق ، وهو ما يتناقض مع التقاليد القبلية الديمقراطية البدائية .
ان انفجار التناقض الاقتصادي – السياسي بين الارستقراطية القبلية المتحولة الى ارستقراطية تجارية وبين القبيلة ، سيؤدي حتما الى تفكيك التضامن القبلي الذي كانت تستمد منه الارستقراطية كل قوتها . لذلك تضطر الارستقراطية التجارية الى الاعتماد على مصادر اخرى للقوة العسكرية ، حيث ستجدها في تجنيد المرتزقة ، غير ان هذا الاختيار له منطق خاص مليئ بالتناقضات التي سرعان ما سترتد على اصحابها : فتجنيد المرتزقة يتطلب الاموال واقتطاع الاراضي لصالح الزعماء . والزعماء الذين يملكون الاراضي يريدون الاستقلال عن الدولة للسيطرة على كل الفائض الاقتصادي الناجم عن استقلال الفلاحين . والدولة لكي تردع هؤلاء المتمردين مضطرة الى تجنيد المزيد من المرتزقة . وهذا يتطلب بدوره المزيد من الاموال ، التي لايمكن الحصول عليها الا بواسطة الرفع من الضرائب على التجارة البعيدة وعلى الفلاحين ، والنتيجة : تدهور الوضع الاقتصادي وانفجار الازمة الاجتماعية .
وفي خضم هذه الازمة ، تتسرب الى الحكم ارستقراطية قبلية جديدة ، حيث ستكرر نفس الذي سلكته الارستقراطية السابقة . وستنتهي بدورها الى الانهيار لتفسح المجال لارستقراطية اخرى .
وهكذا يظل تعاقب دول الارستقراطية يدور في حلقة مفرغة . ان هذا القانون الدائري قد عبرت عنه احسن تعبير ، نظرية العصبية القبلية لابن خلدون ، التي تتميز بمنطقها القوي من الناحيتين الجدلية والمادية .
ان جوهر الصراع بين الارستقراطية التجارية المتقهقرة والارستقراطية القبلية الصاعدة الطامحة لان تحتل مكان الاولى على راس الدولة .كان دائما جوهرا ماديا يتمحور حول الرغبة في السيطرة على الفائض الاقتصادي الناجم عن التجارة البعيدة . لكن في مجتمع اصبح رسميا مجتمعا دينيا اسلاميا . فان الصراع بين المصالح المادية سيكتسي طابع الصراع الايديولوجي الصرف ، ان اسطع دليل على ذلك هو تجربة الدولتين المرابطية والموحدية .
اولا – بالنسبة للدولة المرابطية : لايمكن فهم طبيعة الايديولوجيا التي اعتمدتها تلك الدولة في بداية دعوتها السياسية ، لتبرير شرعية الاستيلاء على الحكم ، بدون فهم طبيعة الايديولوجيا التي سبقتها ولا يمكن فهم هذه الايديولوجيا بدورها ، بدون ربطها بالوضع الاجتماعي المادي الذي كان سائدا في المغرب مباشرة قبل قيام الدولة المرابطية ، فماهو اذن هذا الوضع ؟ .
بعد الفتح العربي الاسلامي للمغرب ، اصبح المغرب بالتالي مجرد اقليم من اقاليم دولة الخلافة التي يوجد مقرها في الشرق . ان اندماج المغرب في دولة الخلافة . قد جعله يتاثر بالضرورة بكل الصراعات السياسية الكبرى التي كانت تعصف بتلك الدولة في مركزها . ان اول صراع سياسي كبير انفجر في الشرق ، والذي كانت له انعكاسات سياسية بالغة الاهمية في المغرب . هو الصراع الكبير التاريخي بين علي ومعاوية .
ولقد كان ذلك الصراع يتمحور حول الخيار بين الحفاظ على البنية القبلية ، العشائرية القديمة للدولة ( وهو موقف علي وبعده الشيعة والخوارج ). وبين بناء دولة طبقية مهيكلة على الطراز البيزنطي والفارسي ، مع ضرورة القبول بكل الشروط المؤدية الى ذلك . وفي مقدمتها تعميم الخراج على الجميع سواء كانوا مسلمين او غير مسلمين( وهو موقف معاوية والبورجوازية التجارية العربية ) . ولقد حسم ذلك الصراع لصالح الاتجاه التقدمي الذي كان يمثله معاوية ، على حساب الاتجاه المحافظ الطوباوي المشدود الى الماضي الذي كان يمثله علي .
غير ان الايولوجيا الشيعية ، الخوارجية التي انهزمت في المركز ، بسبب التقدم الحاصل هناك في التركيب الطبقي ( بلاد فارس ، العراق ، سوريا ، مصر ) فانها قد انسحبت الى اطراف دولة الخلافة وضمنها المغرب . حيث الشروط الاجتماعية – المادية اكثر ملائمة لدعايتها . تعميم الخراج اذن على الفلاحين المسلمين المغاربة من طرف الحكومة المركزية في دمشق . سيلاقي معارضة من قبل هؤلاء الفلاحين ، حيث ستستغلها الايديولوجيا الخوارجية بهدف تنظيم عصيانهم ضد الحكومة المركزية . وان الحرب الفاصلة التي دارت رحاها فوق ضفاف نهر سبو ، بين القبائل المغربية الرافضة للخراج بزعامة الخوارج ، وبين الجيوش العربية القادمة من دمشق ، والتي انتهت بانهزام هذه الاخيرة ، ستكون بمثابة الاعلان النهائي عن استقلال المغرب عن دولة الخلافة في الشرق . والبديل الذي سينتج عن ذلك . هو تشرذم المجتمع المغربي بين مجموعة من الامارات الخوارجية المتعايشة مع امارات تعتنق خليطا من الديانتين الاسلامية والوثنية كان ابرزها امارة برغواطة في سلا .
هذا بوجه عام هو الوضع الاجتماعي الذي كان سابقا في المغرب ، عند بداية ظهور المرابطين ابان تعاظم دور المغرب كوسيط تجاري بين افريقيا واوربا ، انه الوضع الذي ارادوا تغييره من اجل السيطرة على تجارةالذهب .
ان تحكم الارستقراطية القبلية المرابطة في تجارة الذهب ، كان يتطلب منها التحكم في مراقبة كل الطرق التجارية التي يمر منها الذهب . وتلك المراقبة كانت تتطلب بدورها اخضاع جميع المناطق الاستراتيجية المحيطة بالطرق التجارية . وهذا بدوره يقتضي توحيد المغرب في ظل دولة مركزية . ان عبد الله بن ياسين المنظر الايديولوجي للمشروع السياسي المرابطي ، سيبلور الايديولوجيا التي تستجيب لذلك المشروع . ولقد تاسست هذه الايديولوجيا على ركيزتين اساسيتين : 1) التاكيد على الجانب الشمولي الوحدوي للاسلام ، عن طريق اعادة الاعتبار لمفهوم اجماع الامة ، وذلك من اجل محاربة الاتجاهات الايديولوجية الاقليمية الانعزالية التي كان يمثلها في ذلك الوقت في المغرب ، كل من الخوارج والشيعة والبرغواطية . 2) اختيار من بين المذاهب الفقهية الاسلامية الاربعة ، المذهب الاكثر ملاءمة مع الشروط الاجتماعية – المادية المغربية التي لم تتطور بعد الى الطور الطبقي من حيث واقع التركيب الاجتماعي الذي ظل قبليا – عشائريا . ولقد كان ذلك المذهب هو المذهب المالكي .
ان الانتصار السياسي لدولة المرابطين ، كان في نفس الوقت انتصارا ايديولوجيا كبيرا . اذ لاول مرة يتم فعلا دحر جيوب رواسب الوثنية الماقبل توحيدية ، ولاول مرة يتم تعميم نشر الاسلام في جميع المناطق . والجدير بالذكر هنا ، هو ان هذه المهمة كانت من انجاز البربر سكان المغرب الاصليين انفسهم . وكما كانت التجارة من قبل ، هي صانعة الوحدة السياسية والايديولوجية بالنسبة لقبائل الجزيرة العربية ، فان التجارة هي نفسها التي صنعت الوحدة السياسية والايديولوجية بالنسبة للقبائل المغربية .
ثانيا – بالنسبة للدولة الموحدية : بعد ان اكتملت الدورة المرابطية على راس الدولة ، ودخلت في ازمتها البنيوية التي اصبحت تهددها بالسقوط ، قامت الارستقراطية القبلية الموحدية المرشحة للاستلاء على الحكم ببلورة الايديولوجيا الجديدة التي ستتخذها سندا في دعوتها السياسية . ولقد كانت تلك الايديولوجيا الجديدة من تاسيس المنظر الكبير المهدي بن تومرت . ان بن تومرت سينطلق من التناقض الذي كان ينخر الايديولوجيا المرابطة المالكية . وهذا التناقض يتجلى في التالي : ان الدولة المرابطية بعد ان تحولت الى امبراطورية ، اصبحت لا تتحكم في المغرب وحسب ، بل وفي الاندلس ايضا . وهذا معناه ، انها اخضعت لنفس الايديولوجيا المالكية الرسمية الواحدة ، مجتمعين شديدي الاختلاف من حيث مستوى تطور بنيتهما الاجتماعية المادية . واذا كانت الايديولوجيا المالكية تتلاءم مع شروط المجتمع المغربي العشائرية – القبلية البسيطة ، فانها لا تتلاءم مع شروط المجتمع الاندلسي المتطور طبقيا .
لقد كان هدف ابن تومرت اذن ، هو بلورة ايديولوجيا شاملة تكون قادرة ، في نفس الوقت ، على الاستيعاب ، والتعبير عن خصوصيات المجتمعين معا المغربي والاندلسي . ولقد استلهم هذه الايديولوجيا من الفكر الاشعري . ان ابن تومرت نفسه قد تعرف شخصيا ، لدى سفره الى الشرق على الغزالي كبير الفلاسفة الاشعريين .
ان الدولة الموحدية التي وصلت الى الحكم ، ستخضع هي بدورها لنفس قانون الصعود والسقوط ، وكما تم سابقا اسقاط الارستقراطية التجارية المرابطة على ايدي الارستقراطية الموحدية الصاعدة ، فقد تم لاحقا اسقاط الارستقراطية التجارية الموحدية نفسها على ايدي الارستقراطية المرينية الصاعدة .
لكن هذه الحلقة المفرغة بين الارستقراطيات التجارية المتعاقبة لم تدم ، اذ سيتم تكسيرها في منتصف القرن الرابع عشر .

عندما تحولت الارستقراطية التجارية الى طبقة اقطاعية .