أطياف روزا الحمراء : ماركسية واغتراب!


عبد الحسين شعبان
2009 / 2 / 21 - 09:37     

لم يتوقف الجدل الماركسي في القرن التاسع عشر، لاسيما في أواخره، والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين، في البحث عن سبل جديدة لتطوير الماركسية أو إعادة النظر ببعض أحكامها التي عفا عليها الزمن، ولم يكن المقصود منهج ماركس الجدلي، إنما بعض الاستنتاجات والأطروحات التي تجاوزتها الحياة، وكان إنجلز أول الداعين إلى ذلك، بقوله إن علينا أن نغيّر استراتيجيتنا عند كل اكتشاف في العلوم الحربية وفي ميدان السلاح تحديداً.
وقد احتدم الجدل الفكري والنقاش النظري والعملي حول الماركسية وآفاقها بين لينين وبليخانوف ومارتوف وتروتسكي وبوخارين وزينوفيف وكامينيف وكاوتسكي وكارل ليبكنخت وروزا لكسمبورغ وبرينشتاين وغيرهم، وتوّزعت الاجتهادات يميناً ويساراً بينهم في إطار معرفي وأجواء فكرية رحبة تتّسع للاختلاف وقرع الحجة بالحجة، الأمر الذي يصعب تفهمه على الكثير من «أصحابنا» والذي لو حدث اليوم لاعتبر أقرب إلى الكفر والخيانة.
كانت روزا التي عرفت بالحمراء إحدى المنظّرات الماركسيات القليلات، وأكثر نساء عصرها جاذبية وجمالاً وعلماً، وقد انحدرت من أسرة بولونية ميسورة من الملاكين وأصحاب المصانع، حيث ولدت في مدينة صغيرة تدعى زاموسك في(15 مارس 1871) وهي أصغر من فلاديمير إيليش لينين بعام واحد، حيث ولد في 22 إبريل 1870، وارتبطت بصداقة فكرية معه أنجبت حوارات وسجالات ذات قيمة كبيرة على صعيد الفكر الاشتراكي.
وكانت مع كارل ليبكنخت القائد الماركسي الألماني الأكثر تعبيراً عن المواقف الأممية المناهضة للنزعة العسكرتارية، وقبل ذلك كانت قد أعدّت مع لينين ومارتوف العام 1907 البرنامج الاشتراكي ضد الحرب، رغم تشاؤمها، لاسيما عند عودتها من روسيا، بعد فشل ثورة 1905.
وقد أنجزت بحثاً لاحقاً باسم مستعار وعُرف البحث باسم كرّاسة «جانيوس» عام 1915 بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، واعتقلت على أثرها في برلين بين عامي 1916-1918. ورغم تأييدها من السجن لثورتي شباط (فبراير) البرجوازية وأكتوبر البلشفية عام 1917، فإنها حذّرت من دكتاتورية البلاشفة، حيث دعت إلى إجراء الانتخابات العامة وإطلاق حرية الصحافة والحريات العامة وحق التجمع والحق في صراع الأفكار الحر، لأن الحياة ستصبح من دون ذلك زائفة بل ميتة حسب ما كتبت، لأنها أدركت بحسّها الإنساني وتفكيرها الحر والمستقل وتمسكها بالحرية كقيمة عليا، ماذا سيعني دعمها بلا ثمن لنظام اكتشفت منذ البداية، وعورة الطريق الذي سار فيه؟!
ورغم أنها لاقت عند انتقالها إلى ألمانيا حيث المركز الأممي الكبير الكثير من العقبات والاعتراضات، لكونها امرأة أولاً وثانياً لكونها «ضيفاً ثقيلاً» كما كان البعض يغمزها من هذه القناة، وثالثاً لأن جرأتها وشجاعتها حسب البعض «تجاوزت الحدود»، لكنها لم تعبأ بمثل هذه التحديات، التي زادتها إصراراً على التميّز والإبداع.
ورغم تقدير روزا للينين، لكنها دخلت معه في سجالات حامية، شملت قضايا نظرية تتعلق بالثورة والتنظيم، وقبل ذلك في الحب والجنس والمرأة، وقد اكتسب نقدها للينين أهمية كبيرة، لاسيما معارضتها لكتاب ما العمل؟ الذي أصدره عام 1903، منددة بالمركزية البيروقراطية المفرطة والصارمة، معتبرة أن تطبيق منهج لينين المركزي سيقود إلى تقييد المبادرات ويمنع أو يحول دون التفكير الديمقراطي المستقل، والممارسة العفوية المستقلة، الأمر الذي سيضع الانتهازية تتسلق لمواجهة الديمقراطية، وانتقدت لينين بالقول: إن مكافحة الانتهازية لا يقتضي تكرار مناهجها أو أساليبها التنظيمية!!
وأدخلت روزا تطويراً لفكرة النخبة أو الطليعة الحزبية، التي نوّهت إلى احتمال انحرافها طالما أن المعرفة حكراً على المثقفين في الحزب، الأمر الذي يحتاج إلى إشراك أوسع قدر ممكن من القطاعات في اتخاذ القرار، وفي دراسات حديثة نشرت عن روزا كشفت لنا عن معارضتها الشديدة للينين في محاولاته تطهير الحزب من غير البلاشفة، ورغم قربها منه ومن البلاشفة، لكنها انتقدت بشدّة الأعمال الثورية الفظّة لليسار اللينيني، وقد كانت تقف فيه على أرضية مغايرة لفكرة الواحدية والإطلاقية وادعاء امتلاك الحقيقة، إذ كانت بحكم تكوينها أقرب إلى التنوع والتعددية في إطار الكيانية التنظيمية.
وكانت روزا كثيرة التشديد على كون الاشتراكية متلازمة مع الديمقراطية على نحو جدلي ولا انفصام فيه، إذ لا يمكن إنجاز واحدة دون الأخرى أو إهمال جانب والتمسك بالآخر، ولعل هذا هو ما كان لينين يردده عشية الثورة، ووردت إشارات إليه في كتاب «الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي» حين اعتبر من يريد الوصول إلى الاشتراكية بطريق آخر غير طريق الديمقراطية، فإنه سيتوصل إلى استنتاجات رجعية وخرقاء لا بمعناها السياسي فحسب، بل بمعناها الاقتصادي أيضاً، لكن السلطة البلشفية اتجهت نحو ضفة أخرى وبررت لنفسها تحجيم وقمع الديمقراطية تدريجيا، بالتحديات الداخلية والخارجية، التي ظلّت شمّاعة تعلّق عليها القمع البوليسي والفكري كلما انتُقِدت.
لقد ابتدأت الثورة البلشفية بإلغاء الاتجاهات غير البلشفية أولاً، ثم قامت بالتصفيات للمعارضة وللرأي الآخر داخل الحزب البلشفي، حتى طالت قيادات تاريخية مثل تروتسكي وبوخارين وغيرهما، وتسلّط على عرش الكرملين ستالين، ليحكم الاتحاد السوفييتي، وفيما بعد البلدان الاشتراكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً لموديل واحد للاشتراكية ونموذج واحد للحكم، لاغياً التنوع والخصائص الوطنية والقومية ومُفرِطاً في استبداد لا نظير له!
ولو وافق لينين على مناقشة فكرة روزا بصوت عال وبمشترك إنساني، فلربما كان أمام الاشتراكية حلول وخيارات أخرى، وقد لا تصل بالضرورة إلى الصيغة المغلقة التي وصلتها. وكانت هواجس روزا تنصبُّ على ضرورة مناقشة ما الذي يحدث بعد الثورة؟ وما العمل لضمان أن طبقة جديدة (بما فيها البروليتاريا) لا تصبح بيروقراطية؟ وما هو السبيل لتجاوز الاغتراب؟
ولعل تلك الأسئلة هي التي واجهت المنظومة الاستبدادية-الاشتراكية طيلة القرن العشرين، دون أن تجد إجابات شافية، لاسيما في الاشتراكية المطبّقة. وكانت روزا قد تنبأت بأن احتكار السلطة من قبل حزب واحد (البلاشفة) سيكون مغامرة لتدمير أساس التطور الثوري لروسيا، وهو الأمر الذي أثبت صوابه لا في الاتحاد السوفييتي فحسب، بل في البلدان الاشتراكية كلها وبلدان ما أطلقنا عليها «التحرر الوطني» أيضاً، حيث انحدرت التجربة إلى مزالق ضيقة، وهيمنت بالتدريج فئة قليلة ومحدودة بامتيازات لا حدود لها على الحزب والشعب، ووضعت جميع مقدراته بيدها.
أسهمت روزا في ثورة سباتاكوس الألمانية في عامي 1918-1919 ولكنها راحت ضحيتها أيضاً، يوم اغتيلت مع كارل ليبكنخت بطريقة غادرة، فبعد أن ألقت خطاباً ثورياً في الرايخشتاغ وغادرت من الباب الخلفي، كان هناك من يتربصها وقام باغتيالها وقيّدت ورميت في نهر الراين بالقرب من حديقة الحيوانات (ZOO). وقد حاولتُ اقتفاء هذا الأثر بصحبة الصديق الشاعر بلند الحيدري، وكنت قد فعلت ذلك لأول مرة منذ عام 1972.
كانت روزا تعتقد أن التخلص من الديمقراطية البرجوازية يقتضي بناء بديل عنها أي الديمقراطية الاشتراكية، وليس التخلص من الديمقراطية، وكانت تعتبر الممارسة الاشتراكية تعني التحول الروحي الكامل للجماهير للتخلص من الذل التاريخي وليس عكسه.
ورغم محدودية المعرفة في عهد روزا (معرفة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين) فإن روزا تمكّنت من تقديم فهم متطور لقضايا الحرية والثورة لاتزال الكثير من جوانبه صالحة إلى يومنا هذا، رغم تغيّر الظروف والأوضاع.
وكانت روزا حالمة بالتحرر الإنساني والمشترك المجتمعي متطلعة إلى دور ريادي للمرأة ينتشلها من وضعها اللامساواتي، إضافة إلى الاستغلال الطبقي. ولم تمنعها مكانتها الفكرية والثقافية من ارتداء أجمل ثيابها والنزول إلى الشارع مرتين في مدينة كولون الألمانية بجانب النساء المومسات دفاعاً عن حقوقهن، حيث كانت تعتبرهن ضحايا مرتين للمجتمع الاستغلالي، بتعرضهن إلى اضطهاد مزدوج جنسي واجتماعي، ناهيكم عن عدم المساواة.
وقد عرفت روزا حباً كبيراً تشهد به رسائلها إلى «هانز» (ليو جوغيشنز) حبيبها ورفيقها الحميم، وهي الرسائل المتسمة بعاطفة ومزاج إنساني متقد، وكانت قد تعرّفت عليه في سويسرا، حيث درست في جامعة زيوريخ العلوم الطبيعية والقانون والاقتصاد.
وعندما اغتيلت روزا نعاها لينين بكلمته المشهورة قائلاً إنه رغم أخطائها فقد كانت وستظل بالنسبة لنا نسراً محلقاً. رحلت روزا وهي لم تبلغ الخمسين وتركت لنا ثروة كبيرة سواءً بسيرة حياتها المفعمة بالحيوية أم بمؤلفاتها وسجالاتها الغنية، كاشفة على نحو ساطع الاغتراب الإنساني في ظل نظام الاستغلال، الأمر الذي ستكون استعادته لا غنى عنها في ظل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي نعيشها حالياً!!