الماركسي الفقيه والماركسي العملي


ابراهيم علاء الدين
2009 / 2 / 19 - 10:19     

رجل على ابواب الخمسينات من العمر ثري الى حد ما، ناجح في عمله، يمتلك مؤسسة ناجحة، يؤمن بانه لا يمكن للشعوب ان تتطور اذا لم تمر بمرحلة التطور الراسمالي، وبأن من يبني المجتمع الراسمالي هي البرجوازية الوطنية، وبأن الاقتصاد هو المحرك الرئيسي للتاريخ، كما يؤمن بدور الفرد في التاريخ، ولديه قناعة راسخة بان المجتمعات ما قبل الراسمالية لا يمكنها تحقيق الاستقلال الناجز، ولا يمكنها ترسيخ اسس حقيقية للديمقراطية، ولا يمكنها ان تضع قواعد ثابتة لحقوق الانسان، ولا يمكنها ان ترسخ مبادئ سيادة القانون.
ويؤمن ايضا ان سيادة الثقافة الدينية مرتبط بمرحلة ما قبل الراسمالية، ومقتنع تماما ان دخول أي مجتمع لمرحلة الاقتصاد الراسمالي سوف ينحي جانبا المؤسسة الدينية، ويبعدها عن التدخل في شؤون الدولة، وسوف يعزل تيارات وجماعات الدين السياسي، ويعزز من الحركات السياسية والمؤسسات العلمانية.
ويتمسك بوجهة نظر مفادها انه لا يمكن تحسين اوضاع الطبقة العاملة في ظل مجتمعات شبه بدوية، وشبه ريفية قبلية اقطاعية، ويرى ان المواطن الذي يبني مصنعا او منشأة انتاجية ويوظف فيها بضعة عشرات من المواطنين في مثل هذه الدول يكون دوره افضل بكثير من حزب باكمله لا يقدم للفقراء سوى الوعود. وللوطن سوى الامال، وللمستقبل سوى الاحلام.
لكنه استدرك قائلا انا لست ضد الحزب ولست ضد الكفاح بكل اشكاله ولكنني ارى ان عدم ادراك الاحزاب وخصوصا التقدمية منها اهمية الكفاح من اجل انتقال المجتمع من مجتمع البداوة والاقطاع السياسي الى مجتمع راسمالي يجعل من هذه الاحزاب معيقا للتطور والاستقلال الناجز، كونها تدغدغ عواطف المواطنين وتبيعهم امالا وأوهاما، لا يمكنها تحقيقها.
وارتسمت بسمة تحمل الكثير من معاني السخرية على وجهه وهو يقول للاسف ان البعض يعتقد ان النضال الثقافي هو الوسيلة لرفع مستوى وعي الجمهور، وانه يكفي لانتقال المجتمع من قيم البداوة والريف، والغاء العلاقات القبلية والعشائرية وعصبية الدم الى مجتمع معاصر ديمقراطي، ويذكرني هؤلاء بالثورة الثقافية الماوية بالصين، والتي لم تنتج سوى قناعة واحدة هي ما نراها في الصين اليوم بتحولها الى الانتاج الرأسمالي ولكن بنظم اشتراكية سوف تتحلل حتما عندما يجد المجتمع الصيني نفسه مضطرا للانتقال الى الانتاج والابداع الحقيقي وليس تقليد ما يبدعه الغرب الراسمالي.
ثم عاد لترتسم عليه معالم الجدية وهو يقول ان الافكار هي نتاج لطبيعة الانتاج وليس العكس، هكذا قال ماركس وغيره من كبار المفكرين.
وتابع قائلا هناك نوعان من الماركسيين الاول ماركسي يحفظ جيدا كل ما جاء في مؤلفات ماركس ويستطيع ان يناظر لساعات ويستشهد على كل كلمة يقولها بجملة او عدة جمل من المقولات الماركسية، وهؤلاء مثلهم مثل المسلمين السلف وغيرهم من التيارات الدينية يحفظوا القران غيبا وتختزن ذاكرتهم الكثير جدا من الاحاديث النبوية، فاذا كلمك الواحد منهم يدعم كل كلمة تصدر من بنات افكاره بآيات القران وبعدد من الاحاديث النبوية.
اما النوع الاخر فهو الماركسي العملي الذي فهم مضمون وجوهر الماركسية وتجده لا يتذكر حتى فقرة واحدة مما قاله ماركس او لينين او أي من رموز الماركسية.
والفرق بين النوعين ان الاول يستطيع ان يكون نجما في ندوة او مؤتمر او مقابلة صحفية او تلفزيونية، ويظهر براعة اذا كتب مقالا صحفيا بما يدعمه من مقولات ومفردات والفاظ ماركسية، اما الثاني فانه يكون نجما حقيقيا في الميدان العملي في بناء الاسس التي لا يمكن للفكر الماركسي الا ان يستمد مقومات وجوده منها. وتراه يعلم الناس كيف تزرع بطرق افضل، وكيف يؤدي العامل عمله حتى في خدمة الراسمالي بشكل افضل، وكيف يقدم الطبيب خدمته لمرضاه بشكل افضل، وللطالب كيف يدرس ليحصل على نتائج علمية افضل، وكيف تربي الام اطفالها على المبادرة والابداع. الى اخر ميادين الحياة..
أي باختصار النوع الاول كل قدراته وعبقريته لا تخرج عن كونه مقلدا جيدا للشيخ ماركس، مثله مثل الفقيه المسلم لا يعرف من الدنيا شيئا سوى ترداد ما قاله الشيخان، فيما النوع الثاني (وهو منهم كما قال) هو من يستخدم المنهج الماركسي بالتعامل مع الواقع بهدف تغييره وفق مراحل التطور الطبيعية التي مرت بها البشرية حتى وصلت الى ما وصلت اليه من تطور وتقدم، على قاعدة الشك قبل اليقين.
وقال ان البعض يعتبر ان السبب الرئيسي لتخلف بلاد العرب هو "ازمة وعي" وعندما تسأله ماذا تقصد بأزمة وعي يجيبك بتقديم امثلة مثل " سيطرة الخرافة والاسطورة والاوهام على عقول الناس والتمسك بالموروث الشعبي من قيم وتقاليد واعراف ".
وعندما تسأله لماذا لا يكون السبب "ازمة معرفة" يقول لك انهما سيان أزمة وعي، او أزمة معرفة سيان، رغم ما بينهما من فروقات هائلة.
ويضيف الماركسي العملي على حد وصف نفسه انا لا اظن ان الماركسية جاءت ردا على أزمة وعي تسود العالم، بل كانت للرد على ازمة معرفة شاملة سائدة في اوساط الطبقات الفقيرة في العالم، وبسبب فقدانها للمعرفة لم يكن لديها للحصول على قوت يومها الا ان العمل (شبه عبيدا وشبه ارقاء) عند من امتلك المعرفة.
وهذا الذي امتلك المعرفة قام بتوظيفها فحولها الى وسائل انتاج درت عليه ايرادات اكبر من احتياجاته، ثم وظف جزء من هذا الفائض بتطوير وسائل الانتاج وانشاء مؤسسات جديدة، ولأهمية المعرفة فقد طورت الحكومات المتطورة مؤسسات متخصصة في انتاج المعرفة فانشأت مئات والاف مراكز البحث العلمي في كافة ميادين الحياة، ويصب انتاج هذه المؤسسات في مصانع جديدة ومنتجات جديدة، تدر اموالا جديدة، يذهب بعضه الى الفقراء عبر مؤسسات الضمان الاجتماعي والصحي والتقاعد وغيرها من اشكال الرعاية الاجتماعية.
في هذا المجتمع يمكن لابناء الطبقة العاملة ان يمتلكوا الوقت والمعرفة والقدرة والخبرة وفي ظل مؤسسات ديمقراطية ترعى الحريات وفيها هامش واسع للنضال المطلبي من انشاء احزابها، وتجمعاتها للحصول على المزيد من الحقوق، ومن المؤكد ان النهاية المنطقية لهذا النضال سيؤدي الى وجود مجتمعات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي وهي غاية الهدف الماركسي، وغاية الاهداف الانسانية، وعندها فليسمى هذا المجتمع بأي اسم كان، سواء شيوعي او هوليودي او بانورامي او راسمالي او أي اسم.
فطالما ان الهدف النهائي هو الوصول الى مجتمع يعيش فيه الناس بسعادة، ويمتلكوا فرصا متساوية على كافة الاصعدة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، فلا يهم ماذا يطلق على هذا المجتمع من تسمية.
ويسند صاحبنا ظهره على مقعده الوثير ويمد رجليه قليلا ويقول : انا لا اتخيل مجتمعا خال من الطبقات مهما وصلت اليه من تقدم وتطور ومهما حققت من الرفاه الاجتماعي، والاقتصادي، وربما هذه من احد النقاط التي اختلف فيها مع الفلسفة الماركسية، لان البشر لا يمكن ان يتساووا في قدرتهم العقلية، وفي امتلاك نفس الحوافز ونفس الدوافع، حتى لو عاش افرادا عشرين عاما في ظروف متطابقة فلن تتطابق قدراتهم العقلية او تتطابق دوافعهم او تتماثل رؤاهم لكافة الامور او الاشياء. وهذه القدرة وهذه الدوافع هي التي تلعب دورا مركزيا في التحصيل المعرفي، وطالما انها لن تتطابق، فان التحصيل المعرفي لن يتطابق، وطالما لا يوجد تطابق معرفي بين البشر، اذا من يمتلك قدرا اكبر من المعرفة سيكون وضعه الاجتماعي والاقتصادي افضل من الاخرين.
فمن الثابت ان التمايز الطبقي يقوم على التفاوت في الملكية الفردية، ولو افترضنا ان حكومة مجتمع الرفاه حددت راتبا موحدا لكافة الاطباء العاملين باقسام الولادة، لكنها لا تستطيع ان تحدد نفس الراتب للاطباء العاملين بقسم جراحة القلب او الجراحات الدقيقة او الاطباء العموميين، فكل منهم يتقاضى راتبا حسب كفاءته وقدراته، ولا فان من يمتلك قدرات اكبر ويتقاضى نفس راتب من هو اقل مقدرة منه فانه سيشعر بالظلم والاستغلال وبعدم العدالة، وهذا يخلق تمايزا طبقيا كون من يحصل على راتب اعلى فانه يستطيع ان يمتلك اكثر، سواء كانت الملكية وسائل رفاهية استهلاكية، او وسائل انتاجية، كما لا تستطيع دولة الرفاه ان تمنح جميع العمال نفس الراتب فهناك العامل المبتديء والعامل الماهر والعامل النشيط والعامل الكسول، وهكذا الامر في كافة قطاعات العمل، كما سوف نجد ان هناك شخص يوفر جزء من راتبه، فتتكون لديه ثروة بعد فترة من الزمن، وهناك شخص يحب اللهو او تسيطر عليه سلوكيات استهلاكية غير منظمة ويضطر للاستدانة، وشخص اخر يرغب بامتلاك سيارتين بدلا من واحدة ويدفع اقساطهما ولا يبق لديه أي وفر، فيما اخر يستخدم المواصلات العمومية، وكثيرة هي الامثلة لاثبات ان بعض الناس وربما الاغلبية ينفقون كل دخولهم، على الاقل بدافع اطمئنانهم لتوفر دخل مستمر هو الراتب الشهري، وتوفر الضمان الاجتماعي والصحي ومكافات التقاعد، واخرين يدخرون ومع الزمن تتكون لديهم ثروة، قد يستثمروها بادوات انتاج صغيرة لتدر دخلا اضافيا ، وهذا حق مشروع طالما انهم لا يستغلوا احدا، (وفق المنظور الماركسي) وهذا سوف يؤدي الى نوع من التمايز في الملكية. وبالتالي الفروقات الطبقية.
صمت الرجل فجأة واشعل سيجارة لاول مرة منذ جلسنا قبل حوالي الساعة وقال هناك سؤال يؤرقني وهو: طالما انه سيظل هناك طبقات حتى في مجتمع الرفاه فهل سيختفي الاستغلال وينزوي الاضهاد..؟
واجاب اتمنى ان يؤدي الحوار الذي سوف يرافق التطور الانساني الى مجتمع يختفي فيه الاستغلال وينزوي الاضطهاد..!!
وختم الرجل الماركسي العملي بقوله : ما علينا ان كل مجتمع مسؤول عن تغيير واقعه الى واقع افضل، فاذا كان مجتمعا قبليا عشائريا او شبه ريفي كما هي اغلب المجتمعات العربية، فعليه ان يعمل بكل جد للانتقال الى مجتمع راسمالي عصري.
فسألته للمرة الاولى خلال الجلسة بطولها وماذا عن الوحشية التي سيتعرض لها الفقراء في ظل الراسمالية..؟
قال : اولا مهما كانت درجة وقسوة الوحشية التي سوف تعاني منها الطبقات العاملة والفقيرة في ظل الراسمالية فانها تعتبرنوعا من النعيم، ونوعا من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي اذا ما قيست بالمعاناة التي عاشتها وتعيشها الطبقات الفقيرة في المجتمعات الثيوقراطية الدينية او المجتمعات شبه الاقطاعية القبلية، أوفي المجتمعات شبه الرأسمالية "المعوقة" حيث تسيطر طبقة الوسطاء التجاريين والسماسرة على السلطة والمجتع. ويمكن ملاحظة الفارق الهائل بين اوضاع العامل في المانيا او كندا او اليابان وفي معظم دول اوروبا الغربية والولايات المتحدة، وبين العامل في مصر او المغرب او الاردن او سوريا وكل العالم العربي تقريبا ، فكافة المجتمعات المتخلفة (مع استثناءات قليلة كبعض دول الخليج مثلا) تفتقد لابسط شروط العدالة الاجتماعية او الرعاية الصحية الملائمة، او الرعاية الاجتماعية المناسبة، او مكافات التقاعد التي تحفظ كرامات الناس في نهاية اعمارهم.
وثانيا لان المرور بمرحلة المجتمع الراسمالي يمثل شرطا اساسيا لا يمكن القفز عنها للوصول الى مجتمع الرفاه، وها هي تجربة الاتحاد الاسوفياتي " اللينينية" نهايتها ماثلة امامنا.
اذا بماذا تنصحنا يا صديقي..؟؟
انصحكم بامتلاك المعرفة وليس الوعي فقط لان الوعي وحده لا يكفي فهو جزء من المعرفة، واذا امتلكتم المعرفة تستطيعون بناء بلادكم.
وكيف نمتلك المعرفة يا سيدي ..؟
بالعمل وفق قاعدة " المبادرة الفردية والعمل الجماعي".
فعلى اساس هذه القاعدة ارست الولايات المتحدة وكندا ومن ثم الغرب الاوروبي كله اساسات النهضة المعاصرة العظيمة.
لكن هناك في بلادنا من يقولون "الاسلام هو الحل" واي شيء غيره هو ضلال وكفر ستكون عاقبته جهنم وبئس المصير. فماذا نقول لهم..؟؟
قولوا لهم .. لو كان الاسلام هو الحل او بمعنى اصح ان الفكر الاسلامي يحمل حلولا لمعالجة مشاكل المجتمعات وقادر على تطويرها فان عمر الفكر الاسلامي 1400 سنة فيفترض ان تكون الجزيرة العربية موطن الرسالة او العراق او الشام او مصر اول البلاد التي فتحها المسلمون على التوالي، تسبق الولايات المتحدة، واليابان، والمانيا، او حتى هونغ كونغ، وكوريا، وتايلند، بالف سنة على الاقل (حسب الاقدمية) فلماذا تلك الدول تسبق العالم العربي الذي تدين شعوبه بالاسلام 500 سنة على الاقل..؟؟
شكرا لك يا صديقي على هذا الحوار ولكن ارجوك لا تزورني مرة اخرى اثناء النوم، على الاقل حتى استوعب بشكل افضل رسالتك القيمة..!!!