تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//الاشكالية الفكرية الجديدة للعصر العربي الجديد .


بلكميمي محمد
2009 / 2 / 17 - 09:36     

لكل عصر فكرته الايديولوجية المركزية .. كما كان لعصر الراسمالية التبعية العربي المتقهقر ، فكرته الاييولوجية المركزية التي تؤطره ، فكذلك لعصر الاشتراكية العربي الصاعد هو الاخر فكرته المركزية . وهذه الفكرة ليست شيئا اخر سوى فكرة الديمقراطية .

1- لكل عصر فكرته الايديولوجية المركزية ، التي تعبر عنه وتؤطره ، واذا كان العصر يتخذ لنفسه افكارا ونظريات مختلفة ، باختلاف مراحل تطوره التاريخية ، الا انها تبقى مع ذلك ، مجرد اشكال متنوعة لنفس الفكرة الاساسية الواحدة ، التي تظل ثابتة ، طالما ان العصر لم ينه حركته الموضوعية ، لينتقل الى عصر نقيض مختلف جذريا عن الاول ، وتعبر عنه فكرة مركزية جديدة نقيضة لفكرة العصر السابق .
ان العصر العربي الحديث الاول ، بدا تاريخيا في مطلع القرن التاسع عشر ، وانتهى موضوعيا في مطلع الستينات من هذا القرن . ولذلك فان الخاصية الجوهرية لعرب اليوم ، هي انهم يعيشون مرحلة انتقالية ، من عصر متقهقر الى عصر جديد صاعد هو العصر العربي الحديث الثاني ، من هنا فان المنطق الذي يحكم الوضع العربي الجديد ، هو الصراع المرير بين العصرين .
2- ان الفكرة الايديولوجية المركزية ، للعصر الحديث الاول ، كانت هي : التوفيق بين الهوية والاختلاف .. أي بين النحن والاخر ( الاصالة والمعاصرة .. التقليد والتحديث .. الاسلام والغرب ). ولقد كانت تلك الفكرة في اذهان الايديولوجيين العرب والمسلمين الاوائل ، بمثابة التبشير لعهد جديد ، يكون فيه العرب والمسلمون على نفس درجة التقدم والمساواة مع اوربا .
وخلال القرن والنصف من الزمن ، الذي استغرقه تطور العصر العربي الحديث الاول ، مرت تلك الفكرة المركزية ، من خمس مراحل رئيسية ، هي :
- الاصلاح الديني الذي كان يعني عند محمد عبده ، الحرب ضد « جهلة حملة العمائم الجامدين ، ودجل المتصوفة الخرافيين » .
- الديمقراطية .
- الاستقلال السياسي .
- الاشتراكية .
- الوحدة القومية .
3- في مطلع الستينات استيقظت الاجيال العربية الجديدة ، على حقيقة التناقض الصارخ : بين القيم والمثل العليا التي كان يبشر بها الايديولوجيون منذ القرن الماضي ، من جهة ، وبين الوضع المزري للطبقات الشعبية ، من جهة اخرى . ( مثلا في المغرب : كان طرفا ذلك التناقض العربي العام ، هما : التبشير الايديولوجي لكتاب علال الفاسي « النقد الذاتي » الصادر قبل الاستقلال ، من جهة ، وواقع المغرب المستقل ، من جهة ثانية ، ان انتفاضة 23 مارس 1965 ، لا تعني في عمقها سوى التعبير عن التناقض بين الاييولوجيا التبشيرية والواقع المعيش ).
ان التناقض بين الايديولوجيا والواقع ، سيبلغ مداه بعد هزيمة يونيو 1967 . هنا سينفجر نقاش واسع في اوساط المثقفين ، الذي بدا منذ تلك الفترة ولم ينته بعد ، لقد كان محوره هو : اسباب اخفاق التحرر العربي .
4- من بين ابرز الاتجاهات الايديولوجية التي ساهمت في ذلك النقاش ، الاتجاه التاريخي ، ان هذا الاتجاه يطرح الاشكالية ، ويقترح اسلوب حلها على الشكل التالي :
ان مشكل العرب هو مشكل تاخر تاريخي ، وهذا المشكل – في رايه – ليس خاصا بالعرب ، بل عانت منه شعوب اخرى : هناك الفرنسيون الذين كانوا متاخرين بالنسبة للانجليز ، والالمان بالنسبة للفرنسيين ، والروس بالنسبة للالمان ، والصينيون بالنسبة للروس .
من هنا فان التاخر التاريخي ، هو ظاهرة حتمية لانها تعبر عن تفاوت الامم في التطور .
وعن التاخر التاريخي العربي ، يقول الاتجاه التاريخي ، بان السمة الجوهرية لذلك التاخر ، تكمن في المنطق اللاعقلاني السلفي ، الذي تفكر به النخبة المثقفة العربية .
بهذه الطريقة في طرح الاشكالية اذن ، يتضح في نفس الوقت ، الحل والوسيلة لتحققه ، فالحل هو عقلنة المجتمع ، والوسيلة هي النخبة المثقفة . اما السيناريو الذي يتم به تصور انجاز العملية ، فيتكون من العناصر التالية : اولا ، يحصل وعي النخبة بالتاخر التاريخي العربي . وثانيا ، من اجل استدراكه وتجاوزه ، يتعين عليها خوض حرب ايديولوجية ضد السلفية واللاعقلانية ، وثالثا ، ان سلاحها في تلك الحرب ، هو اشكالية الايديولوجيا الالمانية ، المقروءة بالطريقة الماركسية ( فالماركسية بالنسبة للتاريخاني العربي ، كانت مجرد عقلنه للثقافة الليبرالية دون ان تقطع معها ، من هنا تمييزه بين ماركس «الايديولوجي» الصالح للعرب ، وماركس «العالم» - صاحب « راس المال » غير الصالح لهم).
ورابعا ان الماركسية تسمح بنشر العقلانية الليبرالية في اوساط النخبة المثقفة اولا ، قبل ان يتم تعميمها بعد ذلك على صعيد المجتمع ككل .
ان التاريخانية تعني اذن ، تمثل النخبة العربية لماكان مجرد « حدث » في المجتمع الاوربي المتقدم ( وهو الثقافة العقلانية الليبرالية ) ، وتحويله الى جوهر في المجتمع المتاخر ، لمحاربة السلفية ونشر العقلانية.
ان هذا الطرح يحتوي على العديد من الاخطاء النظرية فضلا عن تاويله الخاطئ للايديولوجية الالمانية ، وفهمه كذلك الخاطئ للماركسية . ولان الفقيد عبد السلام المؤذن يقول انه لا يستطيع هنا الدخول في نقاش تفصيلي ، فاقتصر على التركيز على المنهج المنطقي العام ، الذي يحكم ذلك الطرح .
ان المقارنة بين التاخر الالماني ( الذي يستمد منه التاريخاني العربي ، بنيانه النظري ) ، والتاخر التاريخي العربي ، هي مقارنة خاطئة من اساسها . فالتاخر الالماني كان تاخرا في الدرجة وليس في الطبيعة ، بمعنى ، انه تاخر مجتمع حر ، مستقل ، تاخر كلن يمس فقط درجة التطور الراسمالي ( بينما على صعيد الفلسفة والاداب والموسيقى ، كان المجتمع الالماني متقدما ) . وحين يكون المجتمع المتاخر ، حرا مستقلا ، فانه يكون قادرا على تجاوز تاخره في ظرف زماني قياسي ، وهذا ماحصل بالضبط بالنسبة لالمانيا – الدولة القومية ، التي اصبحت اقوى قوة اقتصادية اوربية في الربع الاخير من القرن الماضي .
اما بالنسبة للتاخر العربي ، فهو تاخر في الطبيعة وليس في الدرجة ، انه تاخر نظام راسمالي تابع ، خاضع للهيمنة الامبريالية ، وليس تاخر نظام راسمالي تابع ، خاضع للهيمنة الامبريالية ، وليس تاخر نظام راسمالي بوجه عام ، ولذلك كان التاخر شاملا في الاقتصاد والفكر معا .
ان الخطا المنهجي الذي تسقط فيه التاريخانية ، يكمن في تجريد ظاهرة التاخر .. في النظر اليه كتاخر وفقط ، وليس كعلاقة .. علاقة النقيض بنقيضه .. وحدة اضداد.
ان الحقيقي هو الكلي الذي يوحد الضدين ، وليس الذي يجردهما ويعزلهما عن بعضهما البعض . ولذلك فان التاخر هو في نفس الوقت تقدم ، بمعنى ان المجتمع العربي متاخر ، لان المجتمع الغربي الراسمالي متقدم ، اذ ان نهب ثروات الوطن العربي ، واستغلال قوة عمل شغيلته ، هو الذي يزيد في تاخر المجتمع العربي ، وفي نفس الوقت يزيد في تقدم المجتمع الغربي الراسمالي . ان تمركز التقدم في قطب ، وتمركز التاخر في القطب المقابل ، بين البلدان المتقدمة والبلدان المتاخرة ، هو شبيه بتمركز الثروة في قطب ، وتمركز البؤس في القطب الاخر ، على صعيد البلد الواحد ، وكما انه لا يمكن فهم ظاهرة البؤس الا بربطها بنقيضها الثروة ، فكذلك لا يمكن فهم ظاهرة التاخر الا بواسطة ضدها التقدم.
ان التاريخانية ، حتى عندما تشير الى عامل السيطرة الاجنبية ، فهي انسجاما مع منطقها التجريدي ، لاتنظر اليه كعامل داخلي بل مجرد عامل خارجي . فالتاريخانية في الاساس ، ليست سوى المعاصرة التي تتيح قراءة مقطوعة عن الجوهر .
5- ان الاتجاه الثاني الذي انتشر في المدة الاخيرة ، في اوساط المثقفين العرب ، هو الاتجاه الايديولوجي البنيوي . ان هذا الاتجاه يتبنى ، نقطة ، نقطة ، اشكالية الاتجاه الاول وطريقته في معالجتها ، ان الفرق الوحيد بينهما هو ، ان التاريخانية العربية تدعو الى العودة الى الماضي الاوربي ، من اجل تمثل عقلانيته الليبرالية ، واستعمالها كسلاح في نقد العقل العربي السلفي ، بينما تدعو البنيوية الى العودة الى الماضي العربي ، من اجل نقد العقل العربي التراثي نفسه ، الذي تشكل في عصر التدوين العباسي ، لانه هو الاطار المرجعي للعقل العربي الحديث . ( على حد زعم هذا الاتجاه ) .
ان البنيوية تكرر نفس اخطاء التاريخانية ، وتضيف لها اخطاء جديدة .
الاخطاء المكررة هي : اولا ، كلاهما يرفض البحث عن حلول لمشاكل الاحياء في واقع الاحياء انفسهم حيث يفضلون عن ذلك العودة الى جماجم الاموات .
وثانيا : كلاهما يقرأ الماضي الموضوعي بواسطة الاسقاطات الذاتية للهموم الخاصة ، أي ان الماضي لم يتم كماهو في الواقع ، بل كما اراده الباحث ان يكون ، انطلاقا من فريضة بحثه ، ومن اجل تبريرها في النهاية ، من هنا جاء تزييف التاريخانية للايولوجيا الالمانية وللماركسية ، وجاء تزييف البنيوية لعصر التدوين .
وثالثا / كلاهما يسقط في منطق التجريد المثالي : الاول يجرد مقولة التاخر عن نقيضها التقدم ، والثاني يجرد مقولة العقل عن نقيضها الواقع المادي .
اما الخطا المنهجي الذي اضافته البنيوية ، فيكمن في اللجوء للمنهج البنيوي لتحليل الثقافة العربية التراثية ، وهذا امر مستحيل ، للسبب الثاني : ان المنهج البنيوي يقوم في اساسه على فكرة اللاتغير Invariance ، أي انه ينظر للبنية كشيء ساكن ... ثابت ، ومعنى هذا انه يجرد البنية عن ضدها الذي هو الصيرورة ، ويجرد مقولة التزامن Synchronie عن نقيضها التعاقب Diachronie ، بعبارة انه يعدم التاريخ .
ان المنهج البنيوي يمكن ان تكون له قيمة ، فقط بالنسبة للبنية التي تتميز بنوع من الركود النسبي ، والحال ان الثقافة العربية التراثية ، كانت بالعكس تتطور بسرعة كبيرة ، لان المجتمع العربي هو نفسه كان في ذلك الوقت يتطور بسرعة كبيرة ( وهنا ما اشار اليه هيجل عن حق ، في الفصل الذي خصه للحضارة العربية ، في كتابة « فلسفة التاريخ » ) .
6- ماذا يعني مفهوم العقلانية ، الذي يدعو اليه كل من التاريخاني والبنيوي العربي ؟ .
ان عيبهما معا ، هو انهما يطرحان ذلك المفهوم بصفة الاطلاق ، والاطلاق وهم ، لان العقلانية مفهوم تاريخي نسبي ، كان كانط مثلا يعتبر الفلسفة البشرية لاعقلانية ولا علمية ، ولذلك كان مشروعه النقدي يتمحور كله حول مسالة مركزية واحدة هي : تحويل الميتافيزيقا الى علم .
ولما جاء هيجل ، اعتبر فلسفة كانط وكل الفلسفة التي سبقتها ، فلسفة لاعقلانية ، لان منطقها يقوم على اساس ما يسميه هيجل منطق Venstand، أي منطق الادراك العادي ( او Entendement بلغة الفرنسيين ) . ولذلك بالنسبة لهيجل ، فان العقلانية هي Vernunft، أي العقل ( Raison ) ، والعقل عند هيجل هو العقل الجدلي ، الذي يقوم على مبدا وحدة الاضداد .
من وجهة نظر هيجل اذن ، فان التاريخاني والبنيوي العربي ، هما لاعقلانيان ، رغم ادعائهما للعقلانية لان منطق فكرهما يبقى في حدود الادراك العادي . ( وبالطبع فان هيجل لايقلل من شان ذلك المنطق ، الذي يعتبره لحظة ضرورية في تشكل المنطق الجدلي ).
ان الدعوة للعقلانية الليبرالية ، على صعيد المنطق الفكري ، هو مجرد تعبير ايديولوجي عن تطلع الطبقة الوسطى ، لقيادة المجتمع الى التحديث والعقلنة ، وفي الجوهر لايختلف هذا الطرح ، عن الموقف الذي سبق لعلال الفاسي ان عرضه بتفصيل قبل اربعين سنة في كتابه « النقد الذاتي » ولقد كانت لكتاب علال الفاسي فعلا ، اهمية تاريخية في تلك الشروط ، لان المجتمع المغربي كان لايزال في ذلك الوقت ، مفتوحا على الطبقة الوسطى التي يمكن لها ان تقود المجتمع نحو تحديث تقدمي ، والصراع الاجتماعي – السياسي الكبير ، الذي عرفه المغرب في نهاية الخمسينات وبداية الستينات ، كان بالضبط يدور حول هذه النقطة من سيتولى قيادة التحديث الراسمالي ، هل الطبقة الوسطى ام الملاكون العقاريون ؟ . ولقد حسم ذلك الصراع لصالح الطرف الثاني ، وبذلك دخل المغرب في مرحلة جديدة ، نحن اليوم شهود على نهايتها التاريخية .
7- ان المرحلة التاريخية العربية الراهنة ، تتميز في الجوهر ، بانتصار النظام الراسمالي التبعي في جميع اقطار الوطن العربي ( باستثناء اليمن الديمقراطية ) ، بغض النظر عن الطبقة التي تولت مهمة القيادة الى ذلك الانتصار ( اهي الطبقة الوسطى ، ام الملاكون العقاريون ، ام الارستقراطية النفطية ؟ ).
ان انتصار الراسمالية يعني نهاية عصر عربي ، وبداية عصر عربي جديد ، والفكرة المركزية التي اطرت الفكر العربي ، منذ القرن الماضي ، وهي فكرة « التوفيق بين الاصالة والمعاصرة » ، لم تكن في حقيقتها شيئا اخر ، سوى التعبير الايديولوجي عن حركة صعود الراسمالية التبعية في الوطن العربي .
ان ازمة المثقفين العرب ، التي اثارت حولها نقاشا واسعا ، تجد اذن جذورها العميقة في عدم الوعي بحقيقة المرحلة العربية الموضوعية الراهنة ، بما هي مرحلة انتقالية بين عصرين .
اما المظهر الخارجي للازمة ، فيقوم على هذا التناقض بين الاستمرار في التمسك بالفكرة المركزية القديمة ، التي بلورها الاجداد الايديولوجيون منذ القرن الماضي ، وبين العصر العربي الجديد الصاعد الذي يرفضها ، والذي يريد فكرته المركزية الجديدة الخاصة به .
8- ان العصر العربي الصاعد ، هو عصر التحول الى الاشتراكية العلمية بقيادة الطبقة العاملة العربية ، وهذه الاشتراكية ، لن يتم بلوغها دفعة واحدة باشراق صوفي ، بل هي صيرورة تاريخية طويلة ومريرة ، لن يلعب فيها المتسرعون والاراديون ، والقصيرو النفس ، واصحاب الافكار الذاتية أي دور فعال .
وكما كان لعصر الراسمالية التبعية العربي المتقهقر فكرته الايديولوجية المركزية التي تؤطره ، فكذلك لعصر الاشتراكية العربي الصاعد هو الاخر فكرته المركزية . وهذه الفكرة ليست شيئا اخر ، سوى فكرة الديمقراطية التي اكتشفتها بعفوية ، بعض المنظمات الثورية العربية تحت ضغط الصراع الاجتماعي – السياسي الواقعي .
ان قضية الديمقراطية هي المفتاح الفكري للعصر العربي الجديد ، لانها ليست مجرد شعار سياسي ، بل هي في عمقها قضية فكرية .
والمثقفون العرب التقدميون ، يمكن لهم لعب دور فعال في مصير امتهم ووطنهم ، فقط عندما يجعلون من قضية الديمقراطية محورا مركزيا في فكرهم ونشاطهم ، وعندما يساهمون في نقلها من مستوى العفوية الى مستوى التنظير .