مقدمة الترجمة العربية ل-النبي المنبوذ-، الجزء الثالث من سيرة ليون تروتسكي، تأليف اسحق دويتشر


كميل داغر
2004 / 3 / 26 - 10:28     

مقدمة الترجمة العربية ل "النبي المنبوذ" الجزء الثالث من سيرة تروتسكي، تأليف اسحق دويتشر.
كميل قيصر داغر
 
 حين قرأ تروتسكي الحوار الذي دار بين سفير فرنسا لدى الرايخ الثالث وهتلر قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتخوُّف الرجلين من أن يكون المنتصر الأخير، في حرب طويلة ورهيبة بدت نُذُرها آنذاك على الأبواب، هو تروتسكي بوجه التحديد.. حين قرأ ذلك الحوار كتب:  »إنهم يهجسون بشبح الثورة ويعطونه اسم رجل « .
وبالفعل، لم تقترن صورة الثورة، في التاريخ، باسم رجل، قدر ما اقترنت باسم تروتسكي، حتى في الفترة التي صوَّره دويتشر لنا فيها مشردا، منبوذا. لا بل إن ذينك التشرد والنبذ اللذين لازماه طوال المرحلة التي يؤرخ لها الجزء الأخير من الثلاثية (1929 ـ 1940)، كانا بالضبط النتيجة المباشرة لهذا الواقع. ذلك أن الخوف من قائد ثورة أكتوبر والمنظِّر للثورة الدائمة كان يجمع في خندق واحد البيروقراطية الستالينية في الدولة العمالية الأولى وكامل جوقة الحكومات البورجوازية في العالم، بحيث أبعته الأولى (قبل أن تجهز عليه جسديا في نهاية المطاف)، ورفضت الثانية استقباله على أرضها،  »فلم يعد ثمة ـ على حد قول تروتسكي بالذات ـ غير كوكب من دون تأشيرة « .
ودويتشر، في هذه التراجيديا  »الشكسبيرية «  اللاهثة، المشحونة بحرارة الحقيقة والحياة، التي يظهر فيها تروتسكي على مسرح هائل، حدَّاه العالم الشاسع والتاريخ، يقدم لنا بانوراما شاملة عن المعركة القاسية والمريرة وغير المتكافئة التي استمر  »النبي الأعزل، والمنبوذ «  يخوضها في وجه القوة الغاشمة. يقف البطل هنا بكل جبروته التاريخي وهيبته الفكرية ونبويته السياسية، قويا وعاجزا في آن معا أمام السلطة المسلحة بكل إمكانات القمع والسحق وغسل الأدمغة ومسخ حقائق التاريخ. شاهد بأن عينه كامل الجيل القديم الذي سبق أن أبحر معه على طريق الثورة يزول من على خشبة المسرح، يباد الجزء الأفضل منه، والجزء الأفضل من الجيل الشاب يداس بالأقدام ويطحن، أولاده يتساقطون الواحد بعد الآخر، وأنصاره تمر عليهم الآلة الحاقدة للدزرجيموردا القاتل والمتوحش. لكنه يبقى رغم هول المأساة وبشاعة الجريمة التي يعيش آثارها المدمرة يوما بيوم، على مستوى البطولة التي تليق بصانعي التاريخ، لا بل أبهى وأنصع ما فيه من صفحات. هكذا لا يعود يمكن أن يستغرب المرء، للحظة واحدة، ذينك الشغف والتعلق من جانب أنصاره الذين كانوا يتقدمون إلى الموت وعلى شفاههم الصيحة التي أصبحت مألوفة جدا لكثرة ما تكررت أمام مفارز الإعدام:  »فليعش تروتسكي إلى الأبد ! «. فهو كان يمثل لهم، ولكل المناضلين الذين فشل ستالين في تطويعهم، الشعلة الباقية من أكتوبر والأمل الصامد، رغم قسوة المحن وهول الردة، بمستقبل للبشرية وضاء ونظيف. وقد ظل يمارس نفوذه الأدبي والفكري والسياسي الهائل داخل روسيا حتى بعد سنوات نفيه وإبعاده، لدرجة أنه حتى»  المستسلمون والبوخارينيون والستالينيون المترددون كانوا ينهلون بنهم كل كلمة تصل منه إلى الاتحاد السوفياتي «، ويتهامسون في اللحظات الحرجة، حين تكون القرارات المهمة على وشك أن تؤخذ: »ماذا يقول ليف دافيدوفيتش بصدد هذا الموضوع؟ «  وذلك أحيانا، حتى في غرف انتظار الدخول على ستالين.
ولا شك أن مخيلة ستالين التي استنبطت كل أشكال التضييق والحصار والخنق لتحول دون ذلك النفوذ المتجدد والخلاق، في صفوف الأجيال السوفياتية التي كانت لا تزال تقع تحت الإغراء الآسر لشخص تروتسكي وفكره وبرنامجه، لم تجد مخرجا آخر غير الإبادة الجسدية لآلاف الثوريين، وحتى عائلاتهم وكل ما قد يذكّر بهم. تلك الإبادة حفرت هوة رهيبة ـ يقول دويتشر ـ في وعي الأمة، بحيث»  جرى طحن ذاكرتها الجماعية، وتحطيم استمرارية تقاليدها الثورية وتدمير قدرتها على أن تكوّن أي نوع من الفكر غير الامتثالي وتبلوره « .
التفاؤل الثوري الملازم
ويسلط دويتشر الضوء ساطعا، في حياة تروتسكي وفكره، على التفاؤل الثوري الذي بقي ملازما له حتى لحظاته الأخيرة، ورغم كل ما عاين من إحباطات وضربات مريعة للحركة الثورية، بنتيجة السياسة الستالينية المثبطة والمبلبلة، المنظِّمة لأكبر هزائم الطبقة العاملة في عصرنا، كما رغم المآسي الشخصية المدمرة التي عاشها هو ذاته، والتي لا تنفصل بتاتا عن المأساة العامة لقوى الثورة في مرحلة تاريخية كاملة، هذا التفاؤل فسَّره دويتشر في الفصل الأخير، الانتصار في الهزيمة، بقوله إن تروتسكي كان يطبق المقياس التاريخي الكبير على الأحداث وعلى قدره الخاص به، معتبرا أنه  »حين يتعلق الأمر بالتغييرات الأكثر عمقا في النظام الاقتصادي والثقافي، فإن 25 عاما تزن في التاريخ أقل مما تزن ساعة في حياة إنسان « ، وأنه إذا قيس ما أنجزه المجتمع السوفياتي، بهذا المقياس، فهو لا شك بداية متواضعة جدا لكنها تبرر الثورة والتفاؤل الأساسي حيالها و »تبدد الضباب الكثيف للإحباط واليأس « .
وقد عبر عن هذه الرؤيا المشرقة لمصير الإنسانية في وصيته بالذات، التي خطها قبل أشهر من مصرعه على يد عميل ستاليني في منفاه بالمكسيك، فاختتمها بهذه الكلمات:
» وصلت ناتاشا لتوها من الساحة إلى الشباك وفتحته على مصراعيه كي يدخل الهواء بحرية إلى غرفتي. أستطيع أن أرى الرقعة النّيرة الخضراء من العشب تحت الجدار والسماء الصافية الزرقاء فوقه، وضوء الشمس في كل مكان.
 »الحياة جميلة، فلتنظفها الأجيال القادمة من كل شر، ومن كل اضطهاد، ومن كل عنف وتستمتع بها كليا « .
تفاؤله هذا، الذي يتطور إلى رؤيا شعرية مفعمة بالضوء، ربما يبلغ درجته المثلى في الكلمات الأخيرة التي نطق بها، وهو يلفظ أنفاسه:
 ».. أنا واثق بانتصار الأممية الرابعة. إلى الأمام « ! .
هذا باختصار شديد جانب أساسي من الصورة التي يقدمها دويتشر عن تروتسكي في الحقبة الأخيرة من حياته، الحقبة التي نشهده فيها منفيا، وطريدا، ومحاصرا، لكن في الوقت ذاته محتفظا بروحه القتالية التي لم تفارقه لحظة، والتي جعلت من حياته ملحمة يومية من النضال، النظري والعملي، العنيد والصارم والمنسجم لأجل تمهيد الطريق أمام  »المستقبل الشيوعي للبشرية « . إلا أنه مع إبداء التقدير والاحترام العظيمين للعمل الثمين والخلاق الضخم الذي أنجزه دويتشر عن حياة تروتسكي وعمله، لابد من مناقشة ولو سريعة، للعديد من المفاهيم والآراء التي يتوصل إليها، عبر دراسته، وتنعكس بقوة على التقويم العام لمجمل تجربة تروتسكي في السنوات الأخيرة من حياته.
فالفكرة الطاغية التي يخرج بها المرء من مطالعة الجزء الأخير من ثلاثية دويتشر مفادها أنه كان أجدى بكثير لو انصرف تروتسكي في سنواته الأخيرة للكتابة النظرية والتاريخية، التي لا يجارى في مضمارها، بدل الغرق في متطلبات الممارسة اليومية والنضال السياسي والتنظيمي، حيث لم يعد في استطاعته أن يقدم إلا ضمن حدود لا تبرر الجهد الهائل الذي كان يأخذه منه ذلك. هكذا بضربة واحدة يلغي عمل سنوات ل »تسليح جيل جديد بمنهج ثوري « ، ولا سيما نضاله التنظيمي الدائب والصبور الذي تتوج بتأسيس الأممية الرابعة، ومتابعته عن كثب لتلامذته وأنصاره وتجمعاتهم، مهما ضؤل حجمها، وللخلافات التي كانت تنشب في صفوف تلك التجمعات. بيد أن دويتشر الذي ينظر بالكثير من الإكبار لإسهام تروتسكي النظري، ويسمح لنفسه بتحجيم الجانب العملي من نضاله في سنوات نفيه، من موقع الأسف على ما مثَّله، في رأيه، من هدر لوقت ثمين كان يمكن تكريسه للكتابة النظرية، لم يوفِّر كذلك نقده لتلك الكتابة في بعض جوانبها. وهذا ظاهر بوضوح في حديثه عما يسميه  »الماركسية الكلاسيكية « لدى تروتسكي، التي شهدت نوعا من الطلاق، وفقا لتعبيره، مع الواقع، كما بصدد مفهوم  »الثورة السياسية « ، الذي يطرحه تروتسكي في مؤلفه  »الثورة المغدورة « كأفق لتطور الصراع داخل الاتحاد السوفياتي، على طريق الخلاص من الانحطاط البيروقراطي وما يمثله من إعاقة خطيرة للبناء الاشتراكي.
1- الموقف من الأممية الرابعة
إن الموقف الذي يتخذه دويتشر في » النبي المنبوذ « ، المنشور عام 1964، من تأسيس الأممية الرابعة، ليس موقفا لاحقا، بعد وقوع الحدث، ولا سيما بزمن طويل، بل كان متبلورا ومحددا بالضبط، كما يذكر هو ذاته، منذ فترة مؤتمر التأسيس، عام 1938، حيث عبر آنذاك مندوبا الفرع البولندي، الذي كان دويتشر من أبرز قادته، عن المعارضة الإجماعية لذلك الفرع بصدد إعلان الأممية الجديدة، على أساس أنه  »من قبيل الانخراط في طريق مسدود محاولة خلق أممية جديدة في حين كانت حركة الشغيلة، بمجملها، في حالة انحسار، وتمر بفترة انتكاس كثيف وجمود سياسي « ، وناشدا رفاقهما أن يمتنعوا عن القيام  »بحركة لا معنى لها «  وعن  »اقتراف عمل جنوني « .
هذا الموقف لم يتبدل بالتأكيد مع الوقت، وظل دويتشر على هذا الرأي بعد عشرات السنين، حيث يتكرر في الجزء الأخير من ثلاثيته إعدامه للتجربة بكلام سريع ومقتضب. فهو حين يشير إلى قرار ستالين، في نهاية المطاف، تصفية تروتسكي جسديا، يقول: »قبل سنوات كان يمكن أن يخشى ستالين رؤية تروتسكي يقود حركة شيوعية جديدة في الخارج، لكن ألم يكن يدرك الآن أن الأممية الرابعة قد انهارت كليا؟ « .
إن نظرة متفحصة ودقيقة لابد أن تبيّن كم أن دويتشر، في أحكامه التي أصدرها أوائل الستينات، كان لا يزال يحاول البقاء ضمن موقف "تاريخي" يتناسب كليا مع الموقف السياسي القديم الذي اتخذه، هو والمجموعة البولندية التي انتمى إليها في الثلاثينات. وحتى إذا أخذنا بالإعتبار أن الأممية الرابعة لم تنجح، بعد تأسيسها بعشرات السنين في أن تصبح منظمة عالمية جماهيرية، إلا أ، هذا ليس كافيا لإطلاق أحكام بالقدر من الجزم الذي نجده لدى دويتشر، مؤرخا، لا سيما إذا أدخلنا في الحسبان الظروف القاسية، موضوعيا وذاتيا، التي حالت دون ذلك، سواء من حيث الإبادة الواسعة التي تعرض لها كادراتها ومؤسسوها وقواعدها، على أيدي الستالينية والنازية في الثلاثينات والأربعينات، أو بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية والاستقرار الاقتصادي الذي تلا تلك الحرب وبقي قائما أكثر من عشرين عاما في البلدان الغربية بوجه خاص، وعلى امتداد فترة طويلة، لا ريب، أطلقت عليها الأممية تسمية  »مرحلة اجتياز الصحراء « . وقد تلت هذه المرحلة بعد انتعاش الصراع الطبقي في الغرب، منذ أواخر الستينات، ولا سيما بعد أحداث 1968 الفرنسية، مرحلة نمو جدي وأكيد لمنظمات الأممية المشار إليها، ربما كانت كافية لتعدل من نظرة دويتشر لو قيض له أن يبقى على قيد الحياة سنوات معدودات*.
في كل حال، سيكون مفيدا أن نورد مقطعا من المناقشة القيِّمة التي كتبها بيير فرانك، أحد مؤسسي الأممية، في أيلول/سبتمبر 1964**، بعد قليل من صدور  »النبي المنبوذ « ، حيث يقول ردا على كلام المؤلف:
 ».. وفقا لدويتشر، انتهت محاولة تروتسكي لخلق الأممية الرابعة بإخفاق كلي (ص 513). وهذا التقويم يرتكز فقط على واقع أنه حين كتب دويتشر سيرة تروتسكي، لم تكن الأممية الرابعة غدت حركة جماهيرية، لأنه على صعيد الدفاع عن الماركسية الثورية منذ موت تروتسكي، وإغنائها، ما من تيار سياسي ساهم بنسبة يمكن مقارنتها، من قريب أو من بعيد، بما كان عليه نشاط الأممية الرابعة ونتاجها النظري والسياسي. وليس ثمة أدنى تبجح في قول ذلك، فلو لم تفعل الأممية الرابعة إلا هذا، لكان تأسيسها مبررا. هذا الإسهام النظري والسياسي كان مستحيلا تماما لولا وجود المنظمة، ولولا مشاركة أعضائها في كل المعارك الثورية عبر العالم. الكل يعرف أن أحد المعطيات الأساسية للماركسية يتمثل في استحالة الفصل بين النظرية والممارسة من دون مخاطر وقوع في الخطأ، سواء بالنسبة لهذه أو بالنسبة لتلك. وما كان صحيحا عموما، غدا اليوم أكثر إلحاحا بكثير (...) فالسياسة العالمية تصنع حاليا في أكثر من مئة بلد مختلف جدا بعضها عن البعض الآخر، سواء اجتماعيا، أو من ناحية التطور الاقتصادي (...) إن النضال لأجل الاشتراكية يتطلب سياسة عالمية، إذا لم يكن إلا بمواجهة الدور القيادي الذي تلعبه الإمبريالية الأميركية في المعسكر الرأسمالي. إن سياسة عالمية كهذه تتخطى كل استيعاب كُتُبي للوضع، ولا يمكن أن تصدر عن تجمعات قومية من حيث الجوهر حتى إن كان على قادتها أن يقوِّموا الوضع العالمي. فلا يمكن التوصل إلى الحد جديا من الأخطاء المحتومة إلا بمجابهة مستمرة بين خط أممي من جهة ونشاط عملي داخل الحركة العمالية العالمية، من جهة أخرى.
 »كان أفضل، بالتأكيد، أن تتم هذه المواجهة على يد أممية رابعة أكبر عددا، لمصلحة قضية الاشتراكية بالذات، لكن (...) ما يهم قبل كل شيء أن يكون هنالك حقا وحدة أممية فعلية للفكر والعمل. وفي وسعنا القول إن الأممية تقدمت، في هذا الصدد، بخطوات جدية نسبة إلى ما قبل الحرب (...) وثمة مقاييس أكثر صحة من مقياس القوة العددية للحكم على شرعية حركة ما وحيويتها.
 »لقد تعلمنا في مدرسة تروتسكي أن ثمة فائدة، دائما، في المسائل الكبرى، بأن يضع المرء نفسه على المستوى التاريخي. فمنذ نصف قرن، بدأت أزمة الراسمالية مع حرب 1914 (كتب فرانك نصه عام 1964). في تلك السنوات الخمسين، المزدحمة بانقلابات جبارة، مرت الحركة العمالية بمحن هائلة، وتمت محاولات تنظيمية كثيرة، فأية موازنة يمكن أن نقيمها الآن؟ احتفظت الاشتراكية - الديمقراطية بمواقع قوية في أوروبا، وفي متناول الحركة الشيوعية الرسمية ـ عدا البلدان التي تحكمها ـ عدد من الأحزاب الجماهيرية، بينما لم تتطور في العديد من البلدان. ومن التجمعات التي تكونت كرد فعل على سياسة الاشتراكية – الديمقراطية أو الستالينية، وغالبا ما كانت تحوز قوى أكبر عددا من قوى فروع الأممية الرابعة، لم يبق أي شيء عمليا (...) لم تصبح الأممية الرابعة منظمة جماهيرية، لكنها امتدت إلى الكثير من بلدان العالم المستعمر. بعبارات أخرى، تبين موازنة الحركة العمالية خلال نصف قرن أن ثلاثة تجمعات أثبتت حيويتها، وهو ما لا يمكن تفسيره بأسباب ذاتية، كصفات أعضائها وقادتها، بل بأسباب موضوعية، بأسباب تاريخية: منظمات الأممية الثانية التي تمد جذورها في الطبقة العاملة وفي الرأسمالية في الوقت ذاته، والمنظمات الستالينية لأن لها صلات بالطبقة العاملة وبالقيادة البيروقراطية للدولة العمالية الأولى في العالم؛ وأخيرا منظمات الأممية الرابعة، الضعيفة عددا والتي عانت من قمع لا مثيل له في التاريخ، من جانب البرجوازية والبيروقراطية، لأنها تمثل الطبقة العاملة العالمية في مصالحها التاريخية الأساسية، ولأنها السليل المباشر للحزب البلشفي لعام 1917 وللأممية الشيوعية1  « .
2 – »الثورة عبر الفتح «  و »الماركسية الكلاسيكية « .
منذ الجزء الأول من الثلاثية، كان دويتشر قد رفع ما دعاه  »الثورة عبر الفتح « إلى مقام نظرية سوف يضعها فيما بعد، أثناء كتابته  »النبي المنبوذ « ، بمواجهة  »ماركسية كلاسيكية « اعتبر أن تروتسكي ظل مرتبطا بها ومنظلقا منها في تحليلاته، ومواقفه وتوقعاته. وكان كتب في  »النبي المسلح « أن معارضة تروتسكي العقلانية للثورة عبر الفتح لم تكن  »إلا الوجه الآخر لإيمانه شبه اللاعقلاني بالطاقة الثورية الخاصة بالطبقات العاملة الغربية وبقدرتها على صنع الثورة2  «. وأشار إلى أن تروتسكي اعتبر  »أن تضامن الثورة الروسية مع الطبقات العاملة في البلدان الأخرى ينبغي أن يعني بصورة رئيسية مساعدتها على فهم تجربتها السياسية والاجتماعية وتفسيرها وطرح مشكلاتها، ولكن ليس حلها نيابة عنها. وخلال نقاش، تكلم بغضب على أولئك الذين يعتقدون في البلدان الأجنبية بإمكانية الحلول محل الثورة عن طريق عمليات الجيش الأحمر، وقال:  »أفضل لهم أن يوضع حجر الرحى في عنقهم ويلقى بهم في البحر2 « .
وقد توصل دويتشر في جزئه الأول إلى بلورة مفهومه حول الدورات الثورية، المختلفة من حيث طبيعتها. ورأى أن الحرب العالمية الأولى افتتحت دورة ثورية حملت البلشفية في بدايتها  »موجةُ ثورة أصيلة، وحوالى نهايتها شرعت البلشفية تنشر تلك الثورة عبر الفتح*. إن مسافة طويلة، تمتد ما يقارب ربع قرن، تفصل الدورة الأولى عن الدورة الثانية التي ستفتتحها الحرب العالمية الثانية. وبين الدورتين بقي البحر البلشفي راكدا. أما الدورة الثانية فستبدأ، بما اختتم الدورة الأولى، عنينا الثورة عبر الفتح3 « .
هذا الفهم سيستعيده كليا في  »النبي المنبوذ « ، في عبارات تكاد تكون حرفية، وذلك في نهاية الفصل الأخير بعنوان:  »الانتصار في الهزيمة « . وقد خلص إلى اعتبار أن تروتسكي أخطأ حين اعتقد أن الدورة الجديدة، التي افتتحتها الحرب العالمية الثانية، ستبدأ  »بالأشكال التي اتخذتها الدورة الأولى، بصراعات طبقية وانتفاضات بروليتارية تتوقف نتيجتها إجمالا على توازن القوى الاجتماعية داخل كل أمة كبرى ومواصفات القيادة الثورية القومية « ، متوصلا إلى القول إن المقاييس  »التي كان الماركسيون اعتادوا أن يحكموا بواسطتها على النضج الثوري لأمة أو انعدام نضجها قد أخفقت « . وعزا ذلك الإخفاق إلى ما يسميه  »الماركسية الكلاسيكية « ، التي كانت تتحكم ـ في نظر دويتشر ـ برؤية تروتسكي للأشياء وبتحليلاته وتوقعاته، والتي جعلت  »الطلاق بين النظرية والممارسة، أو بين القاعدة والواقع، يتعمق أكثر فأكثر « .
ومن الواضح أن هذا المفهوم الذي يقدمه دويتشر لتفسير حقبة بكاملها من التطورات الثورية والهزائم والانتكاسات، معارضا به ماركسية  »كلاسيكية « مفترضة، يختزل حركة التاريخ على امتداد تلك الحقبة، بشكل تعسفي إلى حد بعيد. فبين دخول الجيش الأحمر إلى جورجيا عام 1921 ودخوله أوروبا الشرقية عام 1939 شهدت أوروبا نضالات ثورية  »كلاسيكية « ـ لكي نستخدم عبارته ـ عديدة، ناهيك بما مثلته الثورة الصينية من حركة جماهيرية أصيلة. كما أن ما تلا الحرب العالمية الثانية لا يمكن أن يفسره، حصرا، مفهوم  »الثورة عبر الفتح « ، وإلا كيف نفهم الثورة اليوغسلافية، بوجه خاص، التي لم تتم على يد الجيش الأحمر، بل بفعل الشيوعيين اليوغسلاف، ورغم أنف ستالين بالذات؛ أو الثورة الألبانية؛ ناهيك بحركات المقاومة في العديد من بلدان أوروبا الغربية، ولاسيما فرنسا وايطاليا واليونان، تلك الحركات الثورية التي قادها الشيوعيون المحليون وكان يمكن، على الأرجح، أن تستولي على السلطة في تلك البلدان لولا تعليمات ستالين وتوجهاته التي حكمتها اتفاقاته مع حلفائه الغربيين، ولعبت دورا طاغيا في حَجْر العملية الثورية في أوروبا، والعالم، لحقبة تاريخية كاملة.
من جهة أخرى، إذا كان دويتشر يعني بمعارضته ما يسميه »ماركسية كلاسيكية «  بمفهومه عن »الثورة عبر الفتح « أن الماركسيين الثوريين أخطأوا حين توقعوا انتصار الثورة في أوروبا أولا، وأن جملة من المنظورات الماركسية القديمة كان لابد من إعادة النظر بها على ضوء التطورات التي تلت الحرب الثانية، ولاسيما في الشرق الأقصى وخارج أوروبا والمجتمعات الصناعية المتقدمة بوجه العموم، فهذا من الأمور التي لابد من التسليم بها. في كل حال، لم تكن مهمة الماركسية يوما أن تستكشف المستقبل بدقة العلوم الطبيعية، إنما هي قبل كل شيء دليل للعمل. وهذا لا يعني أن ليس بالإمكان استخدامها كطريقة لفهم احتمالات التطور في مجتمعات محددة والتوصل أحيانا لتوقعات تأتي الحركة الفعلية لصراع الطبقات، على المستويين الإقليمي والعالمي لتثبت صحتها، إلا أن هذا لا يعني أن تلك الاحتمالات تخضع دائما للمسار الذي تحدده لها حسابات عمالقة الفكر الماركسي. فحتى ماركس فشل في العديد من الأحيان بتوقعاته حول تطور حركة الثورة في أوروبا وآسيا، ولاسيما حين توقع في الخمسينات من القرن الماضي ثورة وشيكة في القارة الأوروبية كان يخشى عليها من الصعود الرأسمالي في الصين واليابان وأميركا. ذلك أن الحياة هي، وفقا لتروتسكي ذاته،  »معقدة من الناحية العملية أكثر مما من الناحية النظرية4  «. لكن مهما يكن، ومع أخذ هذه الأمور بالحسبان، لقد أدرك تروتسكي، والى حد ما أكثر من غيره، أن التاريخ لا يتحرك وفقا لقوالب جاهزة؛ وجاءت نظريته حول  »الثورة الدائمة « تتيح لنا أن نفهم، على ضوئها، المسار الفعلي الذي اتخذته الثورات المنتصرة في العقود الأخيرة.
وحتى بالنسبة لمسار »الثورة عبر الفتح « غير المتوقع أصلا، والذي دخل لاحقا على صراع الطبقات، بفعل قيام الدولة العمالية الأولى وتوطدها، فقد كان تروتسكي، حسب ما يقول بيير فرانك، الشخص الذي ترك في هذه الصدد الكتابات الأكثر عمقا، لأنه  »بنتيجة نشاطه السياسي ونضاله ضد البيروقراطية فهم أفضل من أي شخص آخر طبيعة هذه الظاهرة « . ويتابع فرانك فيفسر الصعوبات التي وضعت على طريق تروتسكي والأممية الرابعة في سعيهما لتجديد الحركة الشيوعية العالمية، قائلا:  »إن وجود ميدان مربك بالقيادات القديمة، وسطوة البيروقراطية السوفياتية التي تتواصل ما بعد الفترة التي اختفت فيها الظروف التي خلقتها، والمسافة بين مستوى الجماهير الثقافي غداة الاستيلاء على السلطة والمتطلبات التي تطرحها مشكلات ممارسة السلطة البروليتارية، كل ذلك يفسر الصعوبات التي أعاقت إنجاز المهمة التي تصدى لها تروتسكي بعد إفلاس الأممية الثالثة5 « .
3 – الثورة السياسية.
هذه الموضوعة فسرها تروتسكي في  »الثورة المغدورة « ، معتبرا أن بروليتاريا بلد متخلف قد اضطلعت بأول ثورة اشتراكية،   »لذا سوف يكون عليها أن تدفع ثمن هذا الامتياز التاريخي بثورة ثانية ضد السلطة البيروقراطية المطلقة« . هذه الثورة  »لن تكون ثورة اجتماعية كثورة عام 1917، فلن يكون الهدف منها تبديل القواعد الاقتصادية للمجتمع السوفياتي وإحلال شكل للملكية محل شكل آخر (...) إن قلب الفئة البونابرتية سيكون له نتائج اجتماعية عميقة الأثر ولكنها ستكون داخل إطار التطور السياسي6 « .
وقد ناقش دويتشر هذا المنظور مستبعدا إياه، متسائلا  »إذا كان تروتسكي، بإلحاحه على ضرورة ثورة سياسية في الاتحاد السوفياتي لم يتصور منظوره هذا بصورة دوغمائية للغاية، ولم يعط، خلافا لنصائحه هو، تحديدا جاهزا جدا لسيرورة غير منجزة « . وفي دحضه لاحتمال تلك الثورة، استعاد شروط الثورات كما حددها لينين، وهي:  »أ- ألا يكون القادة قادرين على الحكم كما اعتادوا أن يفعلوا؛ ب- أن يرفض المحكومون، بفعل بؤسهم ويأسهم وغيظهم، مواصلة الحياة كما في السابق؛ ج- أن يوجد حزب ثوري قادر على تجربة حظه وعازم جديا على أن يفعل ذلك « . وقد رأى أن تلك الشروط لم تكن متوفرة في الاتحاد السوفياتي، ولم تتوفر فيما بعد.
إلا أن علينا أن نأخذ بالحسبان أن  »الثورة المغدورة « صدرت عام 1936 في فترة كانت الستالينية تعاني فيها من أزمة عصيبة هي التي دفعت بها بعد قليل إلى هوة التطهيرات السحيقة والمجازر المريعة لنخبة الثوريين الروس، وكانت جماهير واسعة تحس في قرارة نفسها بالنفور العميق من البيروقراطية السائدة وطرائق حكمها، بالإضافة لعشرات الألوف من الكوادر الثوريين الذين كانوا يتطلعون بالتأكيد إلى اليوم الذي يخرج فيه الاتحاد السوفياتي من تحت كابوس الستالينية المرعب، والذين لم يكن قد توصل تروتسكي بعد إلى تصوّر المصير المأساوي المذهل الذي كان يعده لهم ستالين، والتصفيات الدموية الرهيبة التي سيمارسها ضدهم على امتداد السنوات اللاحقة.
في كل حال، فإن منظور الثورة السياسية، هو الآخر، إذا كان بدا حتى الفترة التي أنجز فيها دويتشر ثلاثيته (عام 1964) غير راهن، فإن صحته لابد أن يُنظر إليها على أساس  »المقياس التاريخي الكبير «  بالضبط الذي أشار إليه في الصفحات الأخيرة من الثلاثية. وإذا كانت لم تظهر إلى الآن إرهاصات لتلك الثورة في الدولة العمالية الأولى، فلا مجال لنكران أن تلك الإرهاصات ظهرت في أكثر من دولة عمالية أخرى، على امتداد العقود الأخيرة. ولعل التحركات العمالية البولندية في السنتين الماضيتين، التي بلغت حدا نادرا من الاتساع، وطرحت فيما طرحت ديمقراطية بروليتارية حقيقية تجمع إلى الحرية الكاملة للرأي والتعبير، وحرية التجمع النقابي المستقل عن أجهزة الدولة، مجالس العمال والتسيير الذاتي، إلى غير ذلك من المطالب... وأرعبت بيروقراطيات الدول العمالية بلا استثناء، هي الخطوات الأولى والأساسية نحو الثورة السياسية كما عرَّفها تروتسكي. وإذا كانت تلك التجربة قد أجهضت مؤقتا فهذا لا يعني أنها لا تشكل طورا بالغ الأهمية من تراكمات لا بد أن تؤدي في نهاية المطاف إلى كسر القوقعة البيروقراطية وتحقيق قفزة نوعية تعيد الاعتبار للديمقراطية العمالية وللسير الحثيث نحو إنجاز المهام الاشتراكية، ليس فقط في بولندا بل كذلك في كامل المعسكر غير الرأسمالي، وفي طليعته الاتحاد السوفياتي.
على كلٍّ، لم يكن دويتشر حاسما في موقفه من هذه المسألة، وحرص على الاعتراف بأنه يفضل  »أن يسلم الأمر، بما يخص الحكم النهائي على تروتسكي وفكرة الثورة السياسية لديه، إلى مؤرخ الجيل القادم « ، وحسنا فعل !
* * *
بيد أن هذه الملاحظات الضرورية الواردة أعلاه لا يمكن إلا أن تترافق بالتنويه الشديد بعظمة العمل الذي أنجزه دويتشر، وبالنزاهة النادرة للمؤرخ وكاتب السيرة والمفكر، الذي تعامل مع الشخصية المهيبة لتروتسكي بما يتناسب مع موقعها الفريد والفذ في تاريخ الماركسية. وحسبنا أن نورد التقويم الأخير الذي يقدمه لنا عن هذه الشخصية، لنرى كيف أن دويتشر كان، دون أي جدال، على مستوى المهمة الضخمة التي تصدى لها، مهمة إعادة تكوين تفاصيل السيرة الحقيقية لرجل عظيم سطا  »لصوص المقابر « على ضريحه، و »رواية منجزاته المحفورة على ألواح من ذهب « ، ونفض الغبار عن الملحمة الخارقة للماركسية الثورية منذ بداية هذا القرن، والتجرؤ على تثمين دوره بما يتوافق مع حقيقة هذا الدور وموقعه من كل ما يقدمه عصرنا من واعد ومتألق وجميل. يقول دويتشر:
 »إن حياة تروتسكي وعمله الهائلين يشكلان عنصرين أساسيين من تجربة الثورة الروسية، وحتى من حبكة الحضارة المعاصرة. إن الطابع الفريد لأحداث حياته والصفات الأدبية والجمالية الخارقة لمحاولته تدافع عن نفسها بنفسها وتشهد على أهميته. ومن المستحيل ألا تحدث طاقة فكرية بهذا السمو، ونشاط بذلك الإعجاز، وشهادة بذلك النبل، كامل تأثيرها، إذ إن ذلك يتعارض مع كل معنى للتاريخ. فهذه هي المادة التي تصنع منها الأساطير الأكثر سمواً وإلهاماً. إلا أن أسطورة Legend تروتسكي منسوجة من وقائع ثابتة وحقائق يمكن التأكد منها. هنا لا ترفرف أية أسطورة Mythe فوق الواقع، بل يرتفع الواقع بالذات إلى مستوى الأسطورة.
 »إن مجرى حياة تروتسكي غني ومتألق لدرجة أن أياً من أجزائه كان كافياً ليملأ حياة شخصية تاريخية مرموقة. لو توفي في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره، قبل عام 1917 بقليل، لكان وضع في مصاف مفكرين وثوريين روس من أمثال بيلينسكي وهرزن وباكونين، كسليلهم الماركسي والمساوي لهم. ولو أن حياته انتهت عام 1921، أو بعد ذلك، في الفترة التي مات فيها لينين تقريباً، لكان الناس تذكروه كقائد ثورة أكتوبر ومؤسس الجيش الأحمر وقائده الكبير خلال الحرب الأهلية وكمرشد الأممية الشيوعية، الذي كان يتوجه إلى عمال العالم بقوة ماركس وألقه، وبنبرات لم يجر سماعها منذ البيان الشيوعي (...). إن الأفكار التي نادى بها والعمل الذي أنجزه بصفته قائد المعارضة بين 1923 و 1929 ، تشكل المادة والجوهر في أحد الفصول الأكثر أهمية والأشد درامية في حوليات البلشفية والشيوعية. جاء إلى الواجهة كالشخصية الأولى في أكبر مساجلة إيديولوجية عبر القرون، وكالملهم المعنوي والفكري للتصنيع والاقتصاد المخطط، وأخيرا كالناطق بلسان كل أولئك الذين قاوموا من داخل الحزب البلشفي صعود الستالينية. حتى لو توفي عام 1927 ، لكان ترك خلفه تراثا من الأفكار لا يمكن تدميره أو الحكم عليه بنسيان طويل الأمد، تراث من أجله واجه الكثير من أنصاره مفرزة الإعدام واسمه على شفاههم، تراث يزيد الزمن من راهنيته ووزنه ويتلمس الطريق نحو جيل سوفياتي جديد « .
كميل قيصر داغر
 


*   توفي عام 1967 (م).
**   علما أن هذه المناقشة تمت في فترة لم تكن شهدت بعد النمو الجديد للأممية الرابعة، بعد استعار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في الغرب في النصف الثاني من الستينات، وما بعد ذلك. (م).
1   Quatrième Internationale  العدد 23 ، تشرين الثاني 1964 ، ص 60 – 61 – 62 .
2   دويتشر، النبي المسلح، ص 484 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981 .
 
*   إشارة إلى الحملتين، الفاشلة ضد بولندا عام 1920 ، والمنتصرة ضد جورجيا عام 1921 (م) .
3   دويتشر ، النبي المسلح ، ص 487 .
4   تروتسكي ، الثورة المغدورة ، ص 177 ، دار الطليعة ، 1980 .
5   بيير فرانك ، مجلة  Quatrième Internationale ، ص 60 .
6   تروتسكي ، المرجع ذاته ، ص 177 .