مكانة النظرية في الحزب الثوري


الاممية الرابعة
2004 / 3 / 20 - 08:22     

إن موضوع "النظرية" هو بلا ريب من أكثر المواضيع تداولا في صفوف الحركات الثورية. وهو، مع ذلك، أكثر المواضيع غموضا وضبابية... وليس في الملاحظتين أية مفارقة.
فبالعكس، نعلم أن انتشار فكرة ما غالبا ما يصحبه تمييع لهذه الفكرة وتذويب لها في بحر التبسيط والعمومية، وهذا بالضبط ما حصل لفكرة لينين الشهيرة، "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية": عندما تصبح هذه الجملة شعارا يرسم على الجدران، تفقد كل مغزاها العميق لتظهر في أعين الجميع وكأنها قول بديهي وحقيقة عامة لا تحتاج إلى تفسير أو تحديد . وتؤدي هذه الصفة البديهية التي تصبغ الفكرة إلى عدم تناولها في الأبحاث النظرية: هكذا نجد الذين يبحثون اليوم في مسائل التنظيم اللينيني لا يتطرقون إلى مكانة النظرية في مفهوم التنظيم هذا، بل يركزون اهتماماتهم على مسألة الوعي، الذي تشكل النظرية تعبيره الأسمى وليست مجرد مرادف له.

لينين ودور النظرية في التنظيم
لم يكن رد لينين على الاقتصاديين تأكيدا على ضرورة التنظيم السياسي فحسب، بل أيضا وبالدرجة الأولى، تأكيدا على دور النظرية. وإذا صح "أن التنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة"، كما جاء عند لوكاش، فإن العامل الحاسم هو النظرية، أما التنظيم اللينيني فهو سلاحها الأمضى، الشكل الوحيد الذي يسمح بحماية النظرية الثورية من الإيديولوجية البورجوازية، وبالتالي ضمانة الممارسة الثورية من كافة الانحرافات.
كان الاقتصاديون يرفضون التنظيم اللينيني (السياسي) رفضهم تحديد النظرية. وفي هذا الرفض المزدوج أفضل إثبات للارتباط الدياليكتيكي الذي لا ينفصم بين الأمرين.
"إن أكثرية الاقتصاديين ينظرون (...) بعدم رضى إلى كل مظهر من مظاهر المناقشات النظرية والخلافات بين الفرق والمسائل السياسية الواسعة ومشاريع تنظيم الثوريين وما شابه ذلك. "يحسنون صنعا لو أحالوا كل هذا إلى الخارج !" -هذا ما قاله لي ذات يوم أحد الاقتصاديين البالغين حدا كافيا من التماسك، معربا بذلك عن نظرة واسعة الانتشار (ولنقل مرة ثانية أنها تريديونيونية صرف) مآلها : تهمنا حركة العمال، تهمنا منظمات العمال هنا في منطقتنا، وما عدا ذلك هو من اختلاقات "المذهبيين"، هو "مغالاة في تقدير أهمية الأيديولوجية".." (لينين-"ما العمل؟").
إن تقديس العفوية في العمل الثوري يقترن دائما باحتقار النظرية، وهذا الواقع بذاته يشير إلى أن التحديد النظري لمسائل الثورة ليس بهواية "مذهبيين مثقفين" لا يمتون إلى حركة العمال بصلة، إنما هو على وجه التحديد شرط مسبق لأي تنظيم فعلي للعمل الثوري. إن تأكيد إنجلس مشهور على "أن نظريتنا ليست بعقيدة جامدة، بل هي دليل للعمل". وهذا التعريف إذا كان يعني شيئا، فهو أن الخلافات حول النظرية الماركسية لابد من أن تجر، في نهاية التحليل، خلافات حول العمل. وما رفض العفويين للجدال النظري سوى مظهر أساسي من مظاهر حرفيتهم، أي افتقارهم على حد تعبير لينين "لمنهاج منتظم، وضع سلفا بعد تبصر وإعمال فكر، لنضال طويل عنيد". هكذا يتضح لنا سر هذه المفارقة العجيبة التي نجد بمقتضاها أن الذين لا تنقطع ثرثرتهم حول "الارتباط بالواقع" و"هنا في منطقتنا" هم بالضبط الأكثر فشلا في الممارسة، يفاجئهم أبسط تبدل في الواقع الذي يدعون إلى الالتصاق به. هذا ما لاحظه لينين منذ أمد طويل...
"فهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون النطق بكلمة "نظري" دون أن يكشروا عن أنيابهم باحتقار، والذين يطلقون على سجودهم أمام نقص الإستعداد لأمور الحياة ونقص التطور اسم "حس الحياة" يكشفون في الواقع عن عدم فهم لمهامنا العملية الألح." لينين. "ما العمل؟").
إننا متى فهمنا ذلك، فهمنا أيضا العلاقة المباشرة بين تأكيد لينين على أهمية النظرية ومفهومه التنظيمي. فهو يقف ضد التيار الإقتصادي الحرفي، داعيا إلى ضرورة "منهاج منتظم لنضال طويل عنيد" أي استراتيجية ثورية متكاملة، يرى في تنظيم الثوريين الذي يدعو إلى بناءه سلاحا (وسيلة) لابد منه لنقل هذه الإستراتيجية إلى حيز الواقع والممارسة "بقوة وثبات واستمرار"، وليس هدفا بحد ذاته كما فهمه الكثيرون ممن حطوا مفهوم التنظيم اللينيني إلى مستوى وصفة تقنية، نظام داخلي ليس أكثر، فاصلين فصلا غير ديالكتيكي البتة بين الشكل والمضمون .
إن التنظيم اللينيني بمركزيته وشروط عضويته حماية للنظرية الثورية من تسلل الإيديولوجية البرجوازية (السائدة) إليها، إنه درع النظرية في وجه محاولات تحريفها، وقاية الممارسة الثورية من الوباء الإنتهازي !
لهذا السبب بالضبط يرفض لينين تعايش أناس لا يتبنون النظرية الثورية ذاتها في تنظيم واحد (هذا لا ينطبق بالطبع على الخلافات التكتيكية الطفيفة)، لهذا السبب شن هجومه الشهير على دعاة "حرية النقد"، لهذا السبب بالذات كان لينين أكبر "الإنشقاقيين"... "لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا بغية مقارعة الأعداء، لا للوقوع في المستنقع المجاور الذي لامنا سكانه منذ البدْء لأننا إتحدنا في عصبة على حدة وفضلنا طريق النضال على طريق المهادنة".
لنتوقف هنا ونعود إلى حيث بدأنا: "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية". إن هذه الجملة تكتسب على ضوء ما سبق معنى خاصا فلا يقصد بها لينين، كما يتصور العديدون الذين يفصلون هذه الجملة عن قرينتها، إن الحركة الثورية بحاجة إلى الماركسية بوجه عام، وإلا كانت قولا بديهيا ساذجا. لا يناقش لينين في نصه أناسا يرفضون الماركسية بوجه عام، بل أناسا يرفضون تحديد الماركسية بدقة، يريدونها نظرية مائعة الحدود. وهذا ما يتجلى بوضوح تام إذا وضعنا جملته في سياقها:
"لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالإنتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا. وتزداد أهمية النظرية بالنسبة للإشتراكية-الديموقراطية الروسية لثلاثة أسباب كثيرا ما ينسونها، هي: أولا، أن حزبنا ما يزال في دور التأسيس، ما يزال في دور تشكيل سيمائه وهو ما يزال بعيدا عن أن يصفي اتجاهات الفكر الثوري الأخرى التي تهدد بإخراج الحركة عن الطريق القويم (...) وفي مثل هذه الظروف يمكن لغلطة تبدو لأول وهلة "غير ذات شأن" أن تسفر عن أوخم العواقب، وينبغي للمرء أن يكون قصير النظر حتى يعتبر الجدال بين الفرق والتحديد الدقيق للفرق الصغيرة أمرا في غير أوانه أو لا لزوم له. فعلى توطد هذا "الفرق الصغير" أو ذلك قد يتوقف مستقبل الإشتراكية-الديموقراطية الروسية لسنوات طويلة، طويلة جدا.."("ما العمل؟").
إن الوحدة النظرية هي بالنسبة للينين شرط الوحدة التنظيمية. إنها اللحمة الضرورية للتنظيم الثوري، حجر الزاوية الذي يرتكز عليه الحزب. وبدون هذا الشرط، الوحدة النظرية، تفقد المركزية اللينينية (التي لا تمت إلى المركزية البيروقراطية بصلة) كل معناها. في غياب استراتيجية محددة يستند إليها التنظيم، تصبح ممارسة المركز لصلاحياته القيادية ممارسة إعتباطية مرجعها الرؤية الشخصية لأعضاء القيادة وتأخذ بالتالي طابعا قسريا بيروقراطيا (أنظر مثلا اتهامات التسلط البيروقراطي التي وجهها "المكتب العمالي" المنشق إلى المكتب السياسي في "منظمة العمل الشيوعي في لبنان")
ولعل في نقد المنشفي بوتريسوف (ستاروفير) لكتاب "ما العمل؟" أفضل انعكاس لحقيقة المفهوم اللينيني للتنظيم وفي الوقت نفسه إثباتا لصحة هذا المفهوم، إذا نظرنا إلى تطور الحركة الثورية اللاحق في روسيا. كتب بوتريسوف هازئا من لينين:
"نظرية صحيحة، هذا هو الحجر الذي يستطيع المثقفون تشييد بناء تنظيمهم عليه. (...) إن النظرية هي الضمانة الأكيدة الوحيدة، الأساس الأول والأخير للهندسة الثورية المثقفة، المخلصة الوحيدة الكلية الوجود، النظرية التي تمسك بيدها القوية زمام القيادة الثورية –المحترفة والتي تملك بالقوة البسيطة لصحتها العناصر الأكثر اختلافا والأكثر تغايرا."
رغم مبالغته الواضحة، إن هذا النقد معبر بما فيه الكفاية. وقد أدى تمسك البلاشفة بالنظرية الصحيحة إلى قيادتهم الثورة البروليتارية ، أما المناشفة فقد انتهوا في معسكر الثورة المضادة...

ما هي النظرية الثورية؟ الإنشطار العالمي
إن التمييز بين الوعي الإشتراكي العام والنظرية الثورية بتحديدها، تمييز بالغ الأهمية. فالحزب اللينيني، كما ذكرنا، ليس بحامل الوعي الطبقي العام فحسب، بل أيضا وبصورة خاصة، يحمل تعبيرا خاصا لهذا الوعي، تعبيره الأسمى، الوعي النظري. إن مقولة كاوتسكي ولينين حول دخول الوعي إلى الطبقة العاملة من خارجها (دور المثقفين)، لا يمكن فهمها إلا على ضوء هذا التحديد.
إن الطبقة العاملة لا تستطيع الوصول عفويا إلى إدراك النظرية الثورية جل ما يمكنها هو التوصل عبر تجربتها النضالية إلى وعي استنتاجات الماركسية (كما يذكره الرفيق ا. ماندل في إحدى مقالاته) أي: عدم إمكانية التوفيق بين مصالحها ومصالح الرأسمال، الطبيعة البرجوازية للدولة، ضرورة إزالة الإستغلال الرأسمالي، الخ. وبهذا المعنى، يبدو تأكيد لينين في "ما العمل؟" على أن العمال لا يمكنهم بقواهم الذاتية تجاوز الوعي النقابي، تأكيدا مبالغا فيه كما أعلن لينين نفسه .
ليست النظرية الثورية جملة استنتاجات عامة. إنها أكثر من ذلك بكثير، إنها كل متماسك متكامل من التحاليل والإستنتاجات، كل يغتني دائما بما يضيفه عليه التاريخ. إنها بالدرجة الأولى دراسة للتاريخ ليس فقط بمحركاته العامة بل أيضا بما يقدمه من دروس وعبر يمكن استخدامها في النضال العام ضد النظام الرأسمالي. لذلك نجد جزءا كبيرا، إن لم نقل الأكبر، من كتابات عظام المفكرين الثوريين، مكرس لدراسة تاريخ الثورات (الفرنسية والروسية خاصة).
وهذا هو بالضبط السبب الثاني في نظر لينين لإزدياد أهمية النظرية:
"ثانيا، إن الحركة الإشتراكية-الديموقراطية هي حركة أممية في جوهرها. وذلك لا يعني فقط أنه يتعين علينا أن نناضل ضد الشوفينية القومية. بل ذلك يعني أيضا أن الحركة المبتدئة في بلاد فتية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا طبقت تجربة البلدان الأخرى. ولبلوغ ذلك لا يكفي مجرد الإطلاع على هذه التجربة أو مجرد نسخ القرارات الأخيرة. إنما يتطلب هذا من المرء أن يحسن القيام بتحليل نقدي لهذه التجربة وأن يتحقق منها بنفسه. وكل من يستطيع أن يتصور مبلغ اتساع وتشعب حركة العمال المعاصرة، يفهم مبلغ ما يتطلبه القيام بهذه المهمة من احتياطي من القوى النظرية والتجربة السياسية (والثورية أيضا)". ("مـا العمل؟")
وما ينطبق على النظرية الثورية عامة، ينطبق على جزئها المذكور المتعلق بدراسة تاريخ الحركة الثورية: هنا أيضا يجب "تحديد الفروق الصغيرة"، نقصد بذلك أنه لا يجوز التسليم بكل ما صدر عن الثورات المنتصرة... لأنها انتصرت. إن هذا الموقف التجريبي الصرف أبعد ما يكون عن استيعاب النظرية الثورية.
إن دراسة تاريخ الثورة الصينية، مثلا، لا يمكن توقيفه على قراءة ماو تسي تونغ، بل يجب القيام بتحليل نقدي لمجرى هذه الثورة العظيمة، تحليل نقدي لسياسة الحزب الشيوعي الصيني والتحقق من صحة هذه المواقف (مواقف ماو) على ضوء التاريخ الواقعي الملموس للثورة الصينية. وما يقال هنا يصح بالنسبة لجميع الثورات.
ولا بد للتحليل النقدي من أن يستند إلى اتجاه محدد أو على الأقل، أن يصب في اتجاه محدد. إذ أن "تشعب حركة العمال المعاصرة" يشير إلى وجود إتجاهات نظرية مختلفة تتجلى في تيارات منظمة مختلفة (تنم عن طبائع اجتماعية مختلفة).
إن تحديد النظرية الثورية يقتضي في ضوء ذلك تحديد موقف من تشعبات حركة العمال، أي اتجاهات الفكر الثوري المختلفة.
وإن تجاهل هذه الضرورة يجر إلى مغالطات تاريخية فادحة كالتي وقعت فيها دراسة لحلقة "لبنان الإشتراكي" حول "المفهوم اللينيني للديموقراطية المركزية" حين أكدت أن النظرية "كانت موجودة (كالماركسية بالنسبة لروسيا عام 1902، أو الماركسية اللينينية بالنسبة للعالم الثالث –كذا !- في النصف الأخير من القرن العشرين)... ".
إن كل من يحوز على معرفة مهما كانت بدائية لتاريخ الثورة الروسية أو لكتابات لينين يعلم أن روسيا عام 1902 كانت تشهد صراع اتجاهات متعددة تزعم جميعها الماركسية (التيار الشعبي، الإقتصاديون، "الماركسيون الشرعيون"، الإسكرا...).
والأهم من ذلك، أن عالم عام 1902 –إذ أن "الماركسية في بلد واحد" أكثر استحالة من "الاشتراكية في بلد واحد"- كان يشهد صراع اتجاهات رئيسيين يعبران عن تفسيرين مختلفين للماركسية: البرينشتاينية والكاوتسكية.
"لا يخفى على أحد أن اتجاهين قد نشآ في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية الراهنة، اتجاهين يحتدم بينهما النضال ويضطرم أوراه حينا، ويهدأ حينا آخر..." (الصفحة الأولى من "ما العمل؟"). لا يخفى على أحد.. سوى على واضع الدراسة الآنفة الذكر !
إن نضال لينين في عام 1902 ضد الاقتصاديين والتيارات الأخرى في روسيا، انضوى كله تحت راية الكاوتسكية وهي، في تلك الفترة، المدافعة عن تراث الماركسية الثوري في وجه محاولات برنشتاين التحريفية.
لقد إنطلق لينين من نظرية ثورية محددة اختارها من بين الإتجاهات النظرية السائدة في أيامه. وقد لمس وفهم انشطار اتجاهات الماركسية على الصعيد العالمي، وهي نزعة حتمها تطور النظام الرأسمالي كنظام عالمي (التطور الإمبريالي).
"إن هذا الواقع يكاد يكون وحيدا في تاريخ الاشتراكية الحديثة وهو معز فائق التعزية في بابه: فلأول مرة نرى الجدال بين مختلف التيارات في داخل الاشتراكية يتعدى النطاق القومي إلى النطاق العالمي. ففيما مضى كان الجدال بين اللاساليين والإيزيناخيين (..تتبع تسمية أهم التيارات في أهم البلدان) وظل جدالا في النطاق القومي الصرف، يعرب عن خصائص قومية صرف، لقد كان الجدال يجري، إن أمكن القول، على مسارح مختلفة. وفي الوقت الحاضر (ويبدو هذا الأمر اليوم بكل وضوح) يؤلف الفابيون الإنجليز والمستوزرون الفرنسيون والبرينشتاينيون الألمان والنقاد الروس عائلة واحدة يكيل بعضهم لبعض المديح ويتعلمون بعضهم من بعض وينقضون معا على الماركسية "الجامدة". وفي هذه المعركة الأولى العالمية حقا ضد الانتهازية الاشتراكية، عسى أن تبلغ الاشتراكية-الديموقراطية الثورية العالمية من القوة ما يكفي لوضع حد للرجعية السياسية السائدة في أوروبا منذ أمد بعيد." ("ما العمل؟").
إن هذا الواقع الذي لاحظه لينين في 1902 ظل ينمو فيما بعد حتى رسخ نهائيا بعد الحرب العالمية الأولى حين تم تأسيس الأممية الثالثة التي وقفت عالميا في وجه الأممية الثانية الانتهازية والخائنة. وقد سمحت هذه القفزة النوعية بإعطاء مفهوم الحزب اللينيني بعدا عالميا إذ أن الأممية الثالثة تنظيم مركزي توحده استراتيجية ثورية مرسومة على الصعيد العالمي وهي أكثر تحديدا بكثير مما كانت عليه الوحدة النظرية في الأممية الثانية.

تروتسكية أم ستالينة
كان مصير الأممية الثالثة أن انشقت بدورها: فتطور البيروقراطية الستالينية في الإتحاد السوفياتي وتسلطها على الحزب الشيوعي قابله بروز "المعارضة اليسارية" المدافعة عن تقاليد البلشفية في السياسة الداخلية (الديموقراطية السوفياتية) كما بالنسبة للأممية (الثورة الصينية 1925-1927، خاصة). وامتداد الهيمنة الستالينية على الأممية الثالثة باسم "بلشفتها" قابله عالميا التيار "البلشفي-اللينيني" الملتف حول ليون تروتسكي بعد أن نفته البيروقراطية من الإتحاد السوفياتي. إن هذا التيار أسس في سنة 1938 الأممية الرابعة بعد أن تأكد نهائيا إفلاس الأممية الثالثة (التي حلها ستالين فيما بعد، سنة 1943).
لكن ميزان القوى كان راجحا بقوة إلى جانب الستالينيين. فبينما كانت السلطة في الإتحاد السوفياتي إلى جانب الثوريين في 1918 (تاريخ تأسيس الأممية الثالثة) تحولت إلى أيدي البيروقراطيين الذين لم يقصروا في استخدامها لتصفية المعارضة الثورية. هكذا وجدت نفسها الحركة التروتسكية في عزلة خانقة تحت النيران المشتركة للبورجوازية والإستعمار والستالينية. واستطاعت شرطة ستالين وشبكة عملائها أن تصفي أبرز قادة الأممية الرابعة في سنوات نشأتها، بمن فيهم تروتسكي نفسه. وهذا هو السبب الأهم في بقاء الأممية الرابعة فترة طويلة اتجاها نظريا معزولا أكثر منه قيادة لنضالات جماهيرية واسعة. ولم تشهد أية حركة في التاريخ شروط القمع الدولي التي شهدتها الحركة التروتسكية.
لكن البيروقراطية الستالينية رغم مساعيها المضادة للثورة وإفشالها لثورات عديدة (الصينية الأولى، الإسبانية، الفرنسية، الإيطالية، اليونانية...) ما كانت لتنجح في إجهاض كل الثورات. فقد فلتت من جناحيها الثورتان الصينية واليوغوسلافية وانتصرتا رغم أنف ستالين. وتبعتهما الثورة الفيتنامية (ضد الاستعمار الفرنسي). والملاحظ في جميع هذه الأحوال أن قيادة الثورة كانت في أيدي حزب كان فرعا في الأممية الثالثة الستالينية قبل حلها، وأن إتمام الثورة جاء خروجا على تعليمات موسكو. أي أن هذه الأحزاب تخطت في ممارستها الحدود التي يفرضها انتماؤها الإستراتيجي للحركة الستالينية. ولا عجب من أن يلتقي منظروها عندما يحاولون تلخيص دروس ثورتهم، يلتقون في مجال الإستراتيجية مع نظرية الثورة الدائمة، نظرية تروتسكي (أنظر مثلا من بين أمثلة عديدة كتاب لي دوان حول "الثورة الفيتنامية").
أما الثورة الكوبية فلا علاقة لها تاريخيا بالحركة الستالينية. ولذلك السبب ذهبت قيادتها أبعد الأشواط بين القيادات المذكورة نحو تقاليد الماركسية الثورية الأصلية (شي غيفارا، بوجه خاص).
إن هذه القيادات تمكنت بتجريبيتها أن تصل إلى استنتاجات التروتسكية (أي استنتاجات البلشفية). لكن هنا أيضا لا تستطيع الإستنتاجات أن تغني عن النظرية الثورية المحددة المتكاملة. ولهذا السبب بالضبط عجزت هذه القيادات عن بناء أممية جديدة، بينما كانت تلك المهمة أولى مهام الثورة البلشفية الروسية.
ولا عجب من انزلاق هذه القيادات إلى مواقع انتهازية يمينية بهذا القدر أو ذاك: وهو حال القيادات اليوغوسلافية والصينية والكوبية ، باستثناء فيتنام التي تعيش حالة ثورية دائمة نتيجة لاستمرار العدوان الإمبريالي.
إن جميع هذه التجارب بعيدة عن أن تشكل دحضا لنظرية التنظيم اللينينية كما ظن البعض، هي بالعكس اثباتات ساطعة لأهمية وصحة هذه النظرية.
ويكفي للتحقق من ذلك النظر إلى واقع الحركة الثورية اليوم: إن المد الجديد للثورة العالمية الذي شهدناه في السنوات الأخيرة قد أفرز طلائع جديدة في معظم البلدان بعد أن تفسخ نهائيا المعسكر الستاليني (يعود الفضل الأكبر في نسف تسلط بيروقراطية الإتحاد السوفياتي على الحركة الثورية العالمية إلى النزاع الصيني-السوفياتي). ونرى أن التيار الوحيد بين الطلائع الجديدة الذي استطاع أن يعمل في تنظيم عالمي (الأممية) وان يبرز كتيار منسجم موحد يحمل استراتيجية واضحة محددة تجنبه الذبذبة السياسية التي اتصفت بها جميع الأطراف الباقية، أن التيار الوحيد الذي حمل بصورة ثابتة ودون تناقض المواقف الأممية الثورية الحقيقية بعكس الذين ارتبطوا بإحدى القيادات الحاكمة في الدول العمالية واضطروا في النهاية أما أن يبرروا خيانتها أو أن يعلنوا خلافهم مذهلين، وأخيرا وليس آخرا أن التيار العالمي الوحيد الذي يسير في بناء أحزاب لينينية حقا خلافا للتيارات الأخرى التي تتراوح بين مختلف أشكال تقديس العفوية من المغامرة العسكرية (الإرهابية، البؤرية) إلى الانتهازية اليمينية (الاقتصادية، الإصلاحية المقنعة)، أن التيار اللينيني الوحيد هو في عالم اليوم التروتسكية، الأممية الرابعة.

"اليسار الجديد" والميوعة النظرية
هذا ما أثبته الواقع... لكن الوقائع مهما كانت "عنيدة" فعناد العفويين يبقى تعميا أمامها. ومن السهل تصور ردة فعل شخص من هذا النمط عندما يقرأ الأسطر السابقة: قهقهة كبيرة ... "التروتسكية !! هذا الشبح !.."
ثم يشرح سبب قهقهته: "التروتسكية.. هي من ثمار تعثر القيادة الستالينية.. إنها مرض الستالينية الإنتهازي(؟).. ثم دفنها منذ زمن طويل وهل يمكن نفخ الروح في الضمور؟.. الخ."
إن هذا النوع من التصورات شائع في صفوف قسم هام من تلك الحركات التي يطلق عليها اسم "اليسار الجديد". وقد ولد هذا التيار في غمرة المد الجديد للثورة العالمة منذ أواسط الستينات، رافضا إصلاحية الأحزاب الشيوعية الستالينية لكنه عاجز عن مجابهتها باستراتيجية ثورية بديلة متكاملة. إن هذا التيار يتباهى برفض الستالينية والتروتسكية على حد سواء.
أما في الواقع ، فيضطر، نظرا لاستحالة اختلاق طريق ثالث، إلى الإقرار ضمنيا ببعض المقولات التروتسكية خالطا إياها بصلصة ستالينية ليست سوى الدليل على ميوعته النظرية. لكن ثمة تمييزا يجدر ذكره: أن البعض قد انساق إلى مثل هذا المواقف بسبب عدم اطلاعه الكافي على التراث التروتسكي. وقد اعتنق بين ما وجده من أطروحات أقربها إلى التقليد الماركسي الثوري، أي بوجه خاص فكر شي غيفارا. إن هؤلاء ثوريون حقا ولابد من أن يعوا عاجلا أم آجلا حدود موقفهم ويحسمونه.
أما الذين نقصدهم فتوفيقيتهم النظرية أي انتقائيتهم نزعة واعية اختاروها عمدا ويدافعون عنها. يمثل هؤلاء نموذج الثوريين الوسطيين الذين أدركوا الطابع الانتهازي اليميني العميق للأحزاب الستالينية في بلدانهم، لكنهم عاجزون عن (أو بالأحرى يرفضون) اعتناق النظرية الثورية الوحيدة التي تتعارض بصورة كاملة مع التحريفية الستالينية، أي امتداد البلشفية في عصرنا: التروتسكية.
إن انتقائية هؤلاء، عدم حسمهم في مسائل النظرية الثورية، نجد تفسيرها عند لينين (والفكرة مستمدة من كتاب الماركسي الهولندي بانيكوك):
"إن العلاقات الإقتصادية المتأخرة أو التي تتأخر في تطورها، تحمل أبدا على ظهور أنصار للحركة العمالية لا يستوعبون سوى بعض جوانب الماركسية، سوى بعض الأقسام من المفهوم الجديد، سوى بعض الشعارات والمطالب، ويكونون عاجزين عن التخلص بحزم من جميع تقاليد المفاهيم البرجوازية بوجه عام والمفاهيم البرجوازية-الديموقراطية بوجه خاص". (لينين. "الخلافات في الحركة العمالية الأوروبية").
إن انتقائية "اليسار الجديد" هذا تجد مرتعها الطبيعي، الغلاف الأفضل لميوعتها النظرية، في "ماوية" عامة غامضة مائعة كمعتنقيها أبعد ما تكون عن فكر ماو تسي تونغ الأصلي ، إنما ميزتها هي بالضبط طابعها المائع المطاط الذي يسمح باستيعاب كافة المنعطفات السياسية التي لا محال من أن يقع فيها هذا التيار، المتأرجح أبدا بين الإنتهازية اليمينية والطفولة اليسارية (وجهان لظاهرة واحدة، كما شرحه لينين). أما تجديد النظرية فأمر عسير على هذا التيار العفوي، قد يجر نهايته لو تم إذ يمنع استمرار "رقصة التانغو" (يسار- يمين، الأمام-الوراء).
"على النظرية الصحيحة أن تمثل أعلى إمكانية موضوعية للعمل البروليتاري. والحال أن التفهم النظري الصحيح هو الشرط الواجب لهذا العمل. ومن هنا نجد أن حساسية التنظيم الإنتهازي بنتائج نظرية خاطئة أضعف من حساسية التنظيم الشيوعي، لأن التنظيم الإنتهازي لا يعدو أن يكون أكثر من تجمع رخو بهذا القدر أو ذاك، من المركبات المتنافرة بهدف أعمال عارضة خالصة، ولأن أعماله مدفوعة بحركات الجماهير اللاواعية التي صار لجمها مستحيلا أكثر مما هي موجهة من قبل الحزب فعلا، ولأن الانسجام التنظيمي في هذا الحزب هو، في جوهره، هرم من القادة والموظفين ممكنن ومتحجر على شكل تقسيم العمل. (إن التطبيق الخاطئ والمستمر لنظريات خاطئة سوف يؤدي رغم ذلك إلى انهيار الحزب لكن هذه مسألة أخرى). وبالمقابل نجد أن الطابع العملي للتنظيم الشيوعي وجوهره كحزب نضالي هما اللذان يستلزمان من جهة أولى، النظرية الصحيحة، وإلا فإن نتائج نظرية خاطئة ستقوده بسرعة إلى الفشل. ومن جهة ثانية، فهذا الشكل التنظيمي ينتج ويعيد إنتاج التفهم النظري الصحيح، بزيادته بوعي على الصعيد التنظيمي حساسية الشكل التنظيمي تجاه نتائج موقف نظري". (جورج لوكاش –"ملاحظات منهجية حول مسألة التنظيم". نقحنا ترجمة ج طرابيشي الكثيرة الأخطاء).
إن هذا التحليل الثاقب يسمح لنا بفهم العلاقة الدياليكتيكية بين الرخاء النظري والرخاء التنظيمي. وهو ينطبق تماما على وضع جميع التنظيمات العفوية الإنتقائية. ويكفي للتحقق من هذا، النظر إلى النموذجين المحليين لهذا النوع من التنظيمات أي "منظمة العمل الشيوعي في لبنان" و"الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين".
وأن التذبذب العفوي لمثل هذه التنظيمات ظاهرة تشير إلى طابعها البرجوازي الصغير. فلا عجب من أن تكون المنظمتان السابقتان منشقتين عن تيار قومي بورجوازي صغير.وقد أدى بها تمركسها (تجذير معاداتها للإمبريالية ) إلى اعتناقها "بعض جوانب" الماركسية الثورية دون "التخلص بحزم" من ماضيها البرجوازي الصغير الذي بقي يطبع تصرفها.

النضال العسكري
ولابد في معرض حديثنا عن نتائج العفوية في العمل الثوري أن نذكر ذلك الجانب الخاص ببلداننا المتخلفة والذي يقف حجر عثرة إضافيا في طريق الحركات الثورية إلى تبني النظرية الثورية كاملة، عنينا النضال العسكري.
إذ أن تمييز انجلس، الذي يتبناه لينين، بين النضالات الإقتصادي والسياسي والنظري لا يكفي في أيامنا. فقد تطور، منذ الحرب العالمية الثانية خاصة، شكل رابع ثابت للنضال الطبقي هو النضال المسلح، النضال العسكري.
وقد أضيف ثقل هذا النضال إلى النضال الإقتصادي ، وهما شكلان عمليان، ليقوي النزعة العفوية ويعيق تطور الجدالات النظرية وتحديد النظرية الثورية. إن النظرة العسكرية إلى الأمور نظرة متفشية بين الحركات المسلحة في منطقتنا من المقاومة الفلسطينية إلى ثورة الخليج. لكن أهمية المهام المطروحة على الثورة العربية لابد وأن تجر هذه الحركات، قصدنا طليعتها، إلى فهم ضرورة التحديد النظري. إن سعة المهام هي التي تفرض ذلك إذ تصطدم العفوية بأشكالها كافة بما تقتضيه المهمة الثورية من مركزة للقوى لا يمكن أن تتم إلا على ضوء نظرية ثورية محددة. إنه السبب الثالث الذي يشير إليه لينين في تأكيده على أهمية النظرية:
"ثالثا، لم يسبق أن طرحت أمام أي حزب اشتراكي في العالم مهام كالمهام الوطنية المطروحة أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية" ويستنتج لينين تأكيده الشهير الذي أعادت إليه الظروف الثورية الجديدة كل بريقه البلشفي.
"لا يستطيع القيام بدور مناضل الطليعة إلا حزب يسترشد بنظرية الطليعة".