90 عاماً على اغتيال روزا لوكسمبورغ - ناقدة الرأسمالية .. مجادِلة لينين .. وشهيدة الثورة !


رضا الظاهر
2009 / 1 / 19 - 07:46     

كانت روزا لوكسمبورغ، المولودة في مدينة زاموسك البولندية الصغيرة يوم 15 آذار 1871، واحدة من أبرز ممثلي الفكر الماركسي والنشاط الاشتراكي الديمقراطي في أوروبا. وسوية مع كارل ليبكنخت كانت المعبرة الأهم عن المواقف الأممية المناهضة للنزعة العسكرية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا. وكانت ناقدة لا ترحم للرأسمالية، ومن هذا النقد استمدت نفوذها في العمل الثوري. ورحبت، مفعمة بالأمل، بالثورة الروسية، غير أنها كديمقراطية ثورية كانت على مسافة منها واتسم موقفها بالاحتراس والمرونة.
وكانت لوكسمبورغ قد واجهت، منذ مطلع شبابها، التهديد باعتقالها بسبب نشاطها الثوري، حيث التحقت في صباها بمنظمة "البروليتاريا"، وهي واحدة من أولى منظمات الماركسيين البولنديين، مما اضطرها الى الهرب الى سويسرا عبر ألمانيا. وفي جامعة زيوريخ درست العلوم الطبيعية، ثم القانون والاقتصاد. وفي عام 1897 حصلت على الدكتوراه في وقت ندر فيه دخول النساء الى الجامعات، وكانت رسالتها حول (تطور بولندا الصناعي). وكانت هذه المرأة، التي تتقن أربع لغات، موضع اعجاب باعتبارها الوحيدة بين أبناء الملاكين وأصحاب المصانع والموظفين التي تمتعت بتلك المكانة.
وفي زيوريخ، وفي عام 1890، التقت روزا لوكسمبورغ بالثوري البولندي ليو جوغيشيز، الذي أصبح رفيقها وحبيبها خلال السنوات السبع عشرة التالية، وظل صديقاً حميماً حتى آخر حياتها. وكان جوغيشيز، الذي التحق بالحركة الاشتراكية في فيلنا عام 1885، ستراتيجياً ومنظماً بارزاً في الحركات الثورية البولندية والروسية والألمانية لاحقاً. وعمل، على نحو وثيق، مع لوكسمبورغ، في الكثير من الجبهات، من تقديم التعليقات البناءة على مسودات مقالاتها، حتى نشر أفكارهما عبر عمل تنظيمي لا يكل خلف الكواليس في العمل الثوري السري. وكما لاحظ فيلكس تايش، وهو أحد أهم الباحثين في لوكسمبورغ، فانه جرى التقليل من أهمية إسهامات جوغيشيز لأسباب بينها أنه لم ينشر سوى القليل باسمه الصريح. غير أنه كان، هو الآخر، شخصية أصيلة. وقد لاحظت كلارا زيتكين، النسوية الاشتراكية البارزة والصديقة الحميمة لروزا لوكسمبورغ، أن جوغيشيز "كان واحداً من تلك الشخصيات الذكورية التي كان بوسعها التسامح مع شخصية نسائية عظيمة". وتكشف العلاقة المتقدة والعاصفة بين لوكسمبورغ وجوغيشيز، خلال وبعد فترة صلاتهما الحميمة، الكثير عن لوكسمبورغ كامرأة ومفكرة وثورية. ومن بالغ الدلالة أنها أشارت ذات مرة قائلة "إنني متمسكة بفكرة أن شخصية المرأة لا تظهر نفسها عندما يبدأ الحب، وإنما عندما ينتهي".
وفي عام 1893 شاركت في تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا، الذي أعاد تسمية نفسه في عام 1900 الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا. وفي آب 1893، وكانت في عمر الثانية والعشرين، جسدت أول ظهور بارز لها في الحركة العمالية الأممية. ففي المؤتمر الثالث للأممية الثانية في زيوريخ ، حيث التقت فردريك انغلز، رفيق ماركس، وجيورجي بليخانوف، مؤسس الماركسية الروسية، صارعت، في خطاب جريء، من أجل تفويض لنفسها ولحزبها الفتي، وهو ما لم يحظ بالقبول في حينه. وفي ذلك المؤتمر جادلت ضد تقرير المصير القومي لبولندا، مؤكدة، بدلاً من ذلك، على الأممية البروليتارية "الصارمة"، وهو موقف وضعها في معارضة مباشرة لأبرز الشخصيات الاشتراكية لعصرها، وكذلك لكتابات ماركس حول بولندا.
وفي عام 1898 أقامت روزا لوكسمبورغ ثانية في ألمانيا. ومنذئذ كافحت من أجل الاشتراكية الديمقراطية الألمانية في مؤتمرات الحزب والمؤتمرات الأممية وفي مقالاتها وكتبها. وفي مؤتمر الأممية الاشتراكية عام 1900 بررت الحاجة الى أفعال أممية ضد الامبريالية والنزعة العسكرية والسياسات الكولونيالية.
وفي الفترة من 1904 حتى 1914 مثلت الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا في المكتب الاشتراكي الأممي. ومنذ نهاية كانون الأول 1905 حتى آذار 1906 شاركت في الثورة في الجزء البولندي المحتل من جانب روسيا، واعتقلت، وأطلق سراحها بكفالة في حزيران 1906. وبينما كانت في برلين استخلصت دروساً للطبقة العاملة الألمانية من تجارب الثورة الروسية 1905 ـ 1907، ودافعت عن الاضراب السياسي الجماهيري كوسيلة للكفاح الثوري، وحققت لنفسها المكانة القيادية في الاتجاه اليساري في الحركة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية.
وفي عام 1907 أعدت مع لينين ومارتوف برنامجا للحركة العمالية العالمية مناهضاً للحرب.
وفي شباط 1914 حكم عليها بالسجن بسبب خطاباتها المناهضة للحرب. وفي عام 1915 وتحت الاسم المستعار "جانيوس" كتبت كراسة ضد الحرب التي اندلعت عام 1914، اشتهرت باسم "كراسة جانيوس".
وفي نهاية 1915 أسست، مع كارل ليبكنخت وخصوم آخرين للحرب في الحركة الاشتراكية الديمقراطية، عصبة "الأممية" التي انبثقت عنها عصبة سبارتاكوس عام 1916.
وخلال الفترة من تموز 1916 وتشرين الثاني 1918 كانت روزا لوكسمبورغ معتقلة في برلين ورونكه وبريسلاو. وفي عام 1917 دعمت، في مقالات من السجن، ثورتي شباط وأكتوبر في روسيا، ولكنها حذرت، في الوقت نفسه، من دكتاتورية للبلاشفة. ولم ينشر مقالها حول الثورة الروسية، الذي تضمن هذا التحذير، إلا عام 1922، وفيه جاء إنه "بدون انتخابات عامة، وصحافة حرة، وحرية تجمع، وصراع حر للأفكار، تصبح الحياة في أية مؤسسة زائفة بل وميتة ..."
وعندما أخرجت من السجن في التاسع من تشرين الثاني 1918 انغمرت، بكل طاقاتها، في ثورة نوفمبر. وأصدرت، سوية مع كارل ليبكنخت، صحيفة "الراية الحمراء"، وكافحت في سبيل انتفاضة اجتماعية شاملة. وكانت في أواخر 1918 وأوائل 1919 من مؤسسي الحزب الشيوعي في ألمانيا.
وروزا لوكسمبورغ شهيدة الثورة الألمانية. فقد جرى اغتيالها، مع كارل ليبكنخت، يوم 15 كانون الثاني 1919 على يد قتلة ينتمون الى تلك الدوائر التي دعمت، في وقت لاحق، تسليم السلطة الى هتلر.

بديل للرأسمالية
ويمتد إرث روزا لوكسمبورغ الى ما هو أبعد من إسهامها كمناهضة للنزعة العسكرية. فحياتها وعملها يعبران عن السعي الى بديل تحريري لعولمة رأس المال. وأكثر من أي ماركسي من جيلها نظرت لوكسمبورغ في دافع الرأسمالية المتواصل للتوسع الذاتي، مركزة، بشكل خاص، على تأثيرها التدميري على العالم المتخلف تكنولوجياً. واتخذ نقدها لدافع رأس المال المدمر للبيئات غير الرأسمالية، ومعارضتها الشديدة للتوسع الامبريالي، أهمية جديدة في ضوء ظهور جيل جديد من النشطاء والمفكرين المناهضين لرأس المال المعولم. وفي الوقت ذاته تعبر معارضتها القوية للمساومة الاصلاحية والتضليل البيروقراطي والمناهج التنظيمية النخبوية عن السعي الى بديل مناهض للرأسمالية، يتجنب التشكيلات القمعية والتراتبية التي حددت الحركات والجهود الراديكالية لخلق مجتمعات اشتراكية خلال المائة عام الماضية. ويعالج إصرارها على الحاجة الى الديمقراطية الثورية بعد الاستيلاء على السلطة بعض أسئلة عصرنا الرئيسية: هل هناك بديل للرأسمالية ؟ هل يمكن إيقاف دافع رأس المال المعولم للتوسع الذاتي بدون إعادة انتاج فظائع البيروقراطية والاستبداد ؟ هل يمكن للبشرية أن تكون حرة في عصر يتسم بالعولمة والارهاب ؟ وأخيراً فان موقعها كقائدة ومنظرة في حركة اشتراكية يهيمن عليها الرجال الى حد كبير قد حفز على بعض التأملات الجديدة بشأن الجندر والثورة.

تفنيد حجج بيرنشتاين
وكانت شخصة لوكسمبورغ المستقلة قد تجلت، على نحو ساطع، عند انتقالها الى ألمانيا عام 1898، حيث أصبحت ناشطة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الذي كان يعتبر في حينه، أكبر منظمة اشتراكية في العالم. وكامرأة بولندية واجهت معارضة من جانب الكثير من زعماء الحزب ممن أشاروا اليها باعتبارها "ضيفة حلت علينا وتجاوزت حدودها".
ولكنها لم تعبأ بمثل تلك العوائق، وانغمرت في واحدة من أهم الجدالات في ذلك الزمن، وهي المتعلقة بمسعى إدوارد بيرنشتاين "إعادة النظر" بالماركسية. وفي ذلك الحين كان بيرنشتاين واحداً من ابرز الشخصيات الماركسية. وكان من باب الصدمة أن نرى بيرنشتاين يجادل، في سلسلة من المقالات في أعوام 1896 ـ 1898، بأن الموضوعات الرئيسية لعمل ماركس باتت الآن عتيقة. وكتب بيرنشتاين يقول إن توقعات ماركس حول الانهيار الحتمي للرأسمالية لم تعد تزكيها التجربة، وهو ما نراه في الوتيرة المتضائلة للأزمات الاقتصادية. وأكد على أن تشكل نظام الاعتمادات والتروستات والاحتكارات أظهر ان "فوضى" السوق الرأسمالية قد جرى التغلب عليها، وأن الراسمالية بذاتها تسير نحو الانتاج "المجَتْمَع".
ويبقى رد لوكسمبورغ على بيرنشتاين في بحثها الموسوم (إصلاح اجتماعي أم ثورة) ـ 1899 إحدى الاجابات الأكثر ابداعاً على الأوهام التي يخلقها استقرار الرأسمالية. فقد أكدت على أن تحقيق المساواة القانونية أو السياسية في ظل الرأسمالية لا يحل ولا يمكن أن يحل التناقضات الاجتماعية الأساسية لنظام يعتمد على انتاج القيمة والاستغلال الطبقي والعمل المأجور.

... ويمينية كاوتسكي
وفي رسالة الى كلارا زيتكين أوائل عام 1907 كتبت لوكسمبورغ تقول إنه "منذ عودتي من روسيا أشعر بانني معزولة الى حد ما .. أشعر بتررد وتفاهة حزبنا ككل على نحو أكثر جلاء وإيلاماً من أي وقت مضى". وفي أوائل شباط 1906 كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي قد منح، سراً، الاستقلال الذاتي في كل الأمور المتعلقة بالنقابات الى زعماء النقابات الاصلاحيين الى حد كبير، وكانوا يعارضون، بشدة، فكرة الاضراب الجماهيري. وبعد انتخابات عام 1907 تقلصت مقاعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الرايخشتاغ من 81 الى 43، ورد الحزب بتخفيف مطالبه الراديكالية ليركز كل شيء على قضايا الانتخابات. وردت لوكسمبورغ قائلة إنه "لم تكن حياة الحزب الألماني سوى حلم مزعج، بل نوم ثقيل بدون أحلام". وكان نقدها موجهاً لا للتحريفيين أو أولئك الذين يغطونهم صراحة حسب، وإنما اتسع ليشمل كارل كاوتسكي، الذي غالباً ما كان يوصف باعتباره "بابا الماركسية"، والذي كان قد وقف الى جانبها في نزاعات حزبية سابقة. وفي رسالة عام 1908 كتبت تقول "سأكون، قريباً، عاجزة تماماً عن قراءة أي شيء كتبه كاوتسكي ... إنها سلسلة مقرفة من شبكات العنكبوت ... لا يمكن أزالتها إلا بحمام ذهني عبر قراءة ماركس نفسه".
وتكتسب مواقف فكرية عديدة لروزا لوكسمبورغ أهمية تاريخية وواقعية فائقة، وبينها ردودها على بيرنشتاين التي أشرنا الى بعض منها، وكفاحها ضد التحريفية، وفضحها ليمينية كاوتسكي، واستخلاصها الدروس من ثورة 1905 في روسيا، وخصوصاً ما أوردته في كراسها الهام الموسوم (الاضراب الجماهيري، الحزب، النقابات) ـ 1906، فضلاً عن موقفها من الحرب. غير أنه يصعب علينا في هذا الحيز المحدود الدخول في تفاصيل كل هذه القضايا، على أننا لابد أن نضيء بعضاً من الجوانب الرئيسية لخلافها مع لينين.

وحدة الحزب . الديمقراطية الداخلية
ويكشف هذا الخلاف عن موقفها الشامل تجاه التنظيم الثوري. كانت لوكسمبورغ شديدة التقدير للينين، وبعد رحيلها حسب تجلت مسألة أنهما كانا في قطبين متضادين حول قضايا الثورة والتنظيم. غير أن نقدها لمفاهيم لينين التنظيمية اكتسب أهمية جديدة في ضوء التاريخ اللاحق للحركة الراديكالية.
ففي مؤلفها عام 1904 الموسوم (قضايا تنظيمية للاشتراكية الديمقراطية الروسية) عارضت لوكسمبورغ، بحدة، مركزية لينين المفرطة، مجادلة بأن الوعي الطبقي البروليتاري يدعو الى "مراجعة كاملة لمفهوم التنظيم". وأشارت الى ان سعي لينين الى مكافحة الانتهازية عبر مركزية تنظيمية صارمة كان يهدد بتقييد المبادرة العفوية والتفكير الديمقراطي. وقالت إن الانتهازية بحاجة الى كفاح ضدها ولكن ليس بتكرار مناهجها التنظيمية. وعلى الرغم من أن لوكسمبورغ أيدت، شأن لينين، مفهوم الحزب الطليعي، فانهما عالجا العلاقة بين الوعي الثوري والتنظيم باتجاهين مختلفين الى حد ما. فقد طرح لينين، في الغالب، الحزب باعتباره أداة جوهرية للوعي الطبقي، بينما وضعت لوكسمبورغ الوعي الطبقي في الكفاح اليومي للجماهير الذي كان الحزب بحاجة الى المساعدة على تحقيقه. وكتبت في (إصلاح اجتماعي أم ثورة) قائلة إنه "مادامت المعرفة النظرية امتياز مجموعة من "المثقفين" في الحزب، فانها ستواجه خطر الانحراف. وفقط عندما تأخذ جماهير العمال بأيديها السلاح الماضي والمضمون للاشتراكية العلمية ... فان كل التيارات الانتهازية سيكون مآلها الاخفاق التام".
وبينما يعتبر نقد لوكسمبورغ عام 1904 لمؤلف لينين (ما العمل) معروفاً، فان المخطوطات الأخرى المكتشفة حديثاً تلقي ضوءاً جديداً على نقدها لمفاهيمه التنظيمية. والأكثر أهمية بين هذه الاكتشافات مقالة طويلة غير منشورة كتبت في خريف عام 1911 ونشرت عام 1991 من جانب فيلكس تايش، الذي اكتشفها في أرشيفات الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا في موسكو. وقد ترجمت هذه المقالة تحت عنوان (عقيدة) الى الانجليزية لتظهر للمرة الأولى في كتاب يضم مختارات من كتابات روزا لوكسمبورغ صادر عام 2004. وقد كتبت هذه المقالة في فترة كان لينين يحاول فيها التخلص من جميع الاتجاهات غير البلشفية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وعندما كانت توترات حادة قد حدثت بينه وبين الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا. وفي (عقيدة) تكشف لوكسمبورغ، على نحو لا لبس فيه، قربها الأكبر من لينين والبلاشفة لا من المناشفة وتروتسكي. غير أنها، مع ذلك، هاجمت ما سمته "الأفعال الثورية الفظة لليسار اللينيني". وجرى تشخيص أهمية هذه الوثيقة من جانب أنليزو لاشيتزا، مؤلفة أحدث سيرة لحياة لوكسمبورغ إذ قالت إنه "تنتمي مقالة (عقيدة) الى مقالة (مسائل تنظيمية للاشتراكية الديمقراطية الروسية) ـ 1904، ومخطوطة (الثورة الروسية) ـ 1918، باعتبارها الأعمال الأكثر أهمية لروزا لوكسمبورغ حول قضايا لينين، وتكشف عن الاختلافات المبدئية بين الاثنين في ما يتعلق بمسألتي وحدة الحزب والديمقراطية الحزبية الداخلية".
ونجد الموقف الأكثر أهمية لفكرة روزا لوكسمبورغ حول الحاجة الى الديمقراطية الثورية في مقالتها الطويلة (الثورة الروسية)، المكتوبة عام 1918، والمنشورة عام 1922، أي بعد رحيلها. وبينما توجه المقالة انتقادات قوية للثورة البلشفية في أكتوبر 1917، يتعين علينا أن نتذكر أن هذا العمل دفاع عن ثورة أكتوبر. وإذ كتب بينما كانت في السجن بسبب معارضتها للحرب العالمية، فانه أثنى على البلاشفة لجرأتهم ومبادرتهم. غير أنه في الوقت ذاته ـ وهذه النقاط هي التي أثارت الاهتمام الأكبر ـ انتقدت لوكسمبورغ، بحدة، عدداً من سياساتهم عند استلامهم السلطة، من منح الأراضي للفلاحين والاستمرار في الاصرار على حق تقرير المصير، حتى تشتيت الجمعية الدستورية. وركز نقدها الشديد على قمع الديمقراطية الثورية من جانب لينين وتروتسكي. وكانت لوكسمبورغ عميقة القلق من أن ميل البلاشفة لكبت حرية التعبير والصحافة والتجمع عرض للخطر الحركة ذاتها نحو مجتمع اشتراكي. وقالت إن الاشتراكية والديمقراطية متلازمتان على نحو لا ينفصم، ولا يمكن إنجاز واحدة دون الأخرى. وفضلاً عن ذلك فان لينين وتروتسكي، باحتكارهما السلطة بيد حزب واحد، غامرا بتدمير أساس التطور الثوري لروسيا. وفي تأكيدها الحاجة الى حرية الفكر والتعبير العفوي بعد الاطاحة بالنظام القديم طرحت لوكسمبورغ واحدة من أهم وأصعب المسائل التي واجهت الحركة الماركسية: ما الذي يحدث بعد الثورة ؟ ما العمل لضمان أن طبقة جديدة أو بيروقراطية لا تستولي على السلطة لاحقاً ؟ هل يمكن لعملية ثورية أن تستمر "دائمة" حتى يمكن تحقيق تجاوز الاغتراب ؟
واكتسبت هذه المسائل قوة أعظم منذ نشوء الاستبداد الستاليني من داخل الحركة الماركسية، والانهيار اللاحق للأنظمة الستالينية بعد عقود من القمع والارهاب، وهو تطور لم تعش لوكسمبورغ نفسها لتشهده. وهذه المسائل دليل على بصيرة لوكسمبورغ من أن نقدها للثورة الروسية، الذي طرح في سياق تاريخي مختلف جذرياً، يعالج، على نحو مقنع، مسألة هي، اليوم، في أذهان الملايين ـ هل هناك بديل لكل من الرأسمالية القائمة ومناوئيها البيروقراطيين، الاستبداديين.

ضرورة الديمقراطية الثورية
وفي الفترة الأخيرة ظهرت مسألة جديدة في ما يتعلق بنقد لوكسمبورغ للثورة الروسية تكشف عن أنه مقابل "جرأة" لينين، الذي أدرك الحاجة الى القفز على العوائق الموضوعية ونشر "الحدث الثوري"، جسد نقد لوكسمبورغ معارضة من ناحيتها للامساك بالمبادرة التاريخية. ولا يمكن أن يكون أي شيء أبعد عن الحقيقة. فلوكسمبورغ لم تعارض ثورة أكتوبر، بل ولم تبتعد عن الحاجة الى الاستيلاء على السلطة، كما نرى الأمر في كل شيء ابتداء من نقدها بيرنشتاين حتى مساهمتها في ثورة 1918 ـ 1919 الألمانية. وكانت المسألة الأساسية بالنسبة لها سمة الاستيلاء على السلطة وما هي الخطوات التي يتعين اتخاذها بعد ذلك مباشرة من أجل ضمان أوسع ما يمكن من الديمقراطية الثورية. وكما كتبت في (الثورة الروسية) فانه: "عندما تستولي البروليتاريا على السلطة لا يمكنها أن تتبع، مرة أخرى، نصيحة كاوتسكي حول الاستغناء عن التحويل الاشتراكي للبلد على أساس أن "البلد متفرد" ... يتعين ويجب عليها، في الواقع، أن تشرع، حالاً، في الاجراءات الثورية بالطريقة الأكثر حيوية، والأكثر عناداً، وعلى نحو لا يرحم. وبكلمات أخرى يجب عليها أن تمارس الدكتاتورية، ولكن دكتاتورية الطبقة لا دكتاتورية الحزب أو النخبة، وتعني دكتاتورية الطبقة الارتباط بأوسع وأنشط مشاركة غير مقيدة للجماهير في ديمقراطية لا حدود لها".
وبالنسبة للوكسمبورغ "فان المهمة التاريخية للبروليتاريا، ما أن تستولي على السلطة، هي خلق ديمقراطية اشتراكية بدل الديمقراطية البرجوازية، وليس التخلص من الديمقراطية تماما". وأكدت على أنها لن تقبل بأقل من ذلك لأن "الممارسة الاشتراكية تعني تحولاً روحياً كاملاً لدى الجماهير التي أذلتها قرون من الحكم الطبقي البرجوازي".

النسر المحلّق
من المؤكد أن العصر الذي عاشت وعملت فيه روزا لوكسمبورغ بعيد عن عصرنا، لا تاريخياً حسب، وإنما مفاهيمياً أيضاً. فقد رحلت قبل أن ترى تحول الثورة الروسية الى مجتمع استبدادي، ناهيكم عن انهياره. ولم تعش لترى الثورات المناهضة للامبريالية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وماتت قبل نشر طائفة من كتابات ماركس التي مكنت أجيالاً لاحقة من الفهم العميق لأفق وبصيرة تفكيره. وكان اكتشاف (مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية) و(الغروندريسه) وكتابات عقده الأخير حول المجتمعات المتطورة تكنولوجياً، اكتشافاً مرتبطاً بالمستقبل. غير أنه على الرغم من المحدوديات التاريخية والمفاهيمية للزمن الذي عاشت فيه، طورت لوكسمبورغ مفهوماً عن الثورة والحرية مقنعاً بالنسبة لنا اليوم، على الرغم من ظروفنا المختلفة جذرياً.
ويقدم التزامها الحالم بالديمقراطية الاشتراكية والتحرر الانساني، ومعارضتها الشديدة للبيروقراطية والمركزية المفرطة والنخبوية، يقدم تحدياً دائماً لأولئك الذين يضيّقون الكفاح ضد الرأسمالية ويحيلونه الى إصلاحات تدريجية أو مساومات غير مبدئية مع الاتجاهات الرجعية. وعبر عملها عن الحاجة الى شكل أعمق من الديمقراطية، الديمقراطية الاشتراكية القائمة على أساس النظرة الانسانية والمتحررة من النزعة الاستبدادية والزعم بأن أية محاولة لتجاوز الآفاق الضيقة للديمقراطية الرأسمالية ستنتهي، بالضرورة، الى فوضى أو استبداد.
وفضلاً عن ذلك فان نقدها للحرب الامبريالية ما تزال أصداؤه تتردد، كما هو حال اندماجها العميق مع أولئك الذي يعانون أعظم معاناة في ظل هيمنة الرأسمالية المعولمة، من النساء العاملات، حتى أولئك الخاضعين لبربرية الحكم الكولونيالي.
دافعت روزا لوكسمبورغ بلا مساومة وبصوت عالٍ عن قناعاتها. وبدفء إنساني ومزاج متقد كانت قادرة على كسب جميع من تعاملوا معها دون تعصبات. غير أنها واجهت الاذلال والحقد من أولئك الذين كانوا يحسدونها. ولم يفقد كفاحها المتفاني ضد الحرب، والراديكالية التي أصرت بها على الآصرة بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية أي شيء من قوتهما اليوم، حيث نحن بأمس الحاجة الى إعادة قراءة روزا لوكسمبورغ واستيعاب فكرها العميق ومثال حياتها الساطع والملهم.
ولعله من بليغ الدلالة أن نتذكر تقييم لينين لهذه المنظّرة الماركسية والثورية اللامعة إذ قال: "لقد أخطأت روزا ... لكن على الرغم من كل أخطائها، فقد كانت ـ وستظل بالنسبة لنا ـ نسراً محلّقاً. ولن يحفظ الشيوعيون حيثما كانوا ذكراها حسب، بل إن سيرة حياتها ومؤلفاتها الكاملة ستكون، أيضاً، دليلاً لتدريب أجيال من الشيوعيين في كل أنحاء العالم".