قراءة في تأملات فيديل


فنزويلا الاشتراكية
2009 / 1 / 18 - 09:49     

كتب فيديل خلال شهر تشرين الثاني الماضي مجموعة من المقالات نشرتها صحيفة الغرانما تتناول قضايا عدة وتدل بشكل واضح على أن ذهن فيديل لايزال متقداً بل يكاد يكون أشد اتقاداً من ذي قبل فيتعرض إلى مسائل متنوعة منها القاري والعالمي وحتى التاريخي ساعياً إلى توضيح العديد من النقاط التي ارتأى بأنه من المفيد من أجل القضايا التي يؤمن بها أن يشرحها بشكل مفصل وأن يستمر بعداوته للإمبريالية كاشفاً تاريخها القبيح.

ففي مقالته تحت عنوان "شفافية مطلقة" بتاريخ 25 تشرين الثاني (نوفمبر) يتطرق فيديل للانتخابات المحلية التي أجريت في فنزويلا مشيراً إلى أهمية الخطوات التي تتخذها فنزويلا باتجاه الاشتراكية معتبراً أن الخيرات الطبيعية بما تقدمه من وفرة مالية قادرة على تولي مهام البناء الاشتراكي ورابطاً بين تبني خيار الاشتراكية الرافعة لسوية وعي الجماهير وكفاءاتهم ومستواهم المعيشي بقدرتهم على الحفاظ على الاستقلال الوطني:
"من الممكن أن تصبح فنزويلا نموذجاً للتطوير الاشتراكي بدءاً من المصادر التي اعتادت الشركات متعددة الجنسيات نهبها من طبيعتها الثرية وعرق عمالها..لن تقرر أي قوة أجنبية مستقبلها وهي تمضي في سبيل تحقيق أعلى مستويات التعليم والثقافة والصحة والتوظيف الشامل"

ويطالب فيديل بعدها الدول اللاتينية باختيار المشروع الفنزويلي كخيار واضح أثبت جدارته خلال الفترة الماضية بقدرته لا فقط على التصدي لمحاولات الإمبريالية للهيمنة على خيرات الشعوب الفقيرة بل أيضاً للتحرر سياسياً منها وانتهاج دربها المستقل لتصبح فنزويلا نموذجاً يحتذى به في هذا المجال:
"هي مثال تحتذي به الأمم الشقيقة الأخرى في هذا النصف من الكرة الأرضية دون الركوع على الركب: الأمم التي لا ترغب بأن تقطرها الإمبراطورية التي تنهبها"

ثم يتطرق فيديل بشكل مختصر إلى مسألة بالغة الأهمية وقد نالت قسطاً كبيراً من الجدل ولم تعطى الفرصة الحقيقية التي تستحقها على أرض الواقع خلال القرن الماضي ولاتزال تعتبر هامشيةً لدى الكثير من الحركات اليسارية في العالم الثالث ألا وهي قضية الانتخاب وعلاقته بالثورة ومدى أهمية اعتباره أداةً ثوريةً أم أداةً برجوازيةً، فحتى فيديل بنفسه كانت لا تنال رضاه الانتخابات بآلياتها البرجوازية إلا أنه يقر بأن الثورة الفنزويلية أثبتت عكس ذلك وبأن الانتخاب هو أداة يمكنها أن تكون ثورية أو برجوازية ولا صبغة واحدة لها وها هي تنقل الثورة الفنزويلية إلى مرحلة جديدة:
"شكلت الانتخابات قفزة نوعية عظيمة للعملية البوليفارية الثورية من جوانب عدة يمكن أن تقاس، وليس كما يروج الإعلام المغلوط:
"كاسترو يعتقد أن الثورة في فنزويلا ستسمر بالرغم من الانتخابات." لا! "

وينهي فيديل مقاله بتثبيت اعتقاده بأن الثورة الفنزويلية تستمد قوتها من عوامل عديدة وعلى رأسها عاملان اثنان يجعلان منها ثورةً عصيةً على خصومها وهما أن المعارضة تعاني من تضعضع فرغم أنها موحدة في تحالفها إلا أنها ليست إلا مجموعة من الأحزاب التي سيبقيها تفرقها أضعف من الثورة التي باتت تمتلك حزباً قوياً موحداً يتجاوزها جميعاً ويتجاوز الأحزاب السياسية في فنزويلا مجتمعةً سواء بعدد أعضائها أو بعدد أنصارها وحتى بفاعليتها على الأرض والعامل الثاني هو أن الثورة تقدم "شفافية مطلقة" فالمحاسبة موجودة لكل مسؤول ولا يوجد فرد في السلطة إلا ويخضع للرقابة مهدداً في حال فساده بالإحالة للتحقيق. وإن ما أصاب المعارض مانويل روزالس من تحقيقات لم يكن فقط ضد رموز المعارضة بل حتى رموز الحزب والحركة البوليفارية الذين لم يسلموا من التحقيقات والتدقيقات وكان الرئيس تشافيز أحد أولئك الذين تم التحقيق في حملتهم الانتخابية للبحث فيما إذا كان قد أخل بالقوانين الدستورية لتكون تلك الشفافية التي تحدث عنها فيديل حقيقية بما تحويه من دلالات على حرية التعبير وإيصال الصوت إلى الضمير الشعبي والحكومي على حد سواء وسيادة القانون على الجميع وكل ما تحويه الشفافية من عناصر إنما تشكل مع توحد الثوريين في حزب واستمرار المعارضين في مجموعات وفرق أساساً صلباً يبقي الثورة مستمرة في دربها:
"لا يوجد حزب معارض، فقط مجموعة من المعارضين مع نصف دزينة من الأحزاب، وشفافية مطلقة. لهذا قلت وأكرر أن شعلة الثورة سيكون من الصعب جداً إطفاؤها في فنزويلا"

فيديل حاول بقدر الإمكان أن يتناول أهم الأحداث الدولية لا من وجهة نظر سياسية مؤقتة سطحية بل خاض في أعماق التاريخ وبحث في المحركات الحقيقية التي تقود التيارات السياسية، ففي مقال تحت عنوان "ستيلا كالوني" بتاريخ 24 نوفمبر(تشرين الثاني) يتطرق فيديل لجملة من القضايا على رأسها الإشارة لتنظيم "القاعدة" كمنتج إمبريالي الصنع أنتج وأخرج ليزرع في المناطق التي تهم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية لتكون متواجدة فيها أو لتصيبها بالخراب سواء بالتمهيد للتدخل الميداني المباشر أو لضرب خصم تعارض مصالحه المصالح الإمبريالية:
"القاعدة، التي أنتجتها الإمبراطورية بنفسها، هي مثال نموذجي للعدو الذي تضعه القوة المهيمنة حيث تحتاج أن تبرر أعمالها."

ولم يتوقف فيديل عند مثال القاعدة كدليل للمستوى الدنيء الذي تمضي فيه الإمبريالية بل عاد إلى ماضيها في مقاله "أزمة الثلاثينيات العظيمة" الذي كتبه في الأول من كانون الأول (ديسمبر) وعاد فيه إلى فترة الحرب العالمية الأولى متطرقاً إلى الذريعة التي تدخلت بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية القوة الصاعدة في حينها في حرب دفعتها لتكون من الدول الأقوى عالمياً مشيراً بلفتة غير مباشرةً إلى المذبحة التي تعمدها الإمبرياليون بحق مواطنيهم الذين كانوا على متن السفينة التي علموا بأن الألمان سيغرقونها ولكنهم رغم ذلك أرسلوها محملة بالمدنيين ليقضوا نحبهم فيستثمر الامبرياليون المشاعر الوطنية بهدف زج شبابهم في حروب عالمية خارجية من أجل إرضاء جشع سادة الولايات المتحدة الأمريكية كما لو أن فيديل يريد أن يماثل بين حادثة إغراق لوسيتانيا وتدمير برجي التجارة العالميين:
"بدأت الولايات المتحدة الأمريكية مشاركتها في الحرب العالمية الأولى مع اقتراب نهايتها في العام 1917، بعد عامين من غرق لوسيتانيا التي كانت تقل ركاباً أميركيين مغادرةً من نيويورك.
وأغرقت بطروبيدات أطلقتها غواصة ألمانية بناء على تعليمات سخيفة تقضي بمهاجمة السفن التي تحمل علماً (لبلد) بعيد،(والولايات المتحدة كدولة) ثرية مع احتماليات القوة كانت، تحت غطاء الحيادية المفترضة، قد سعت لإيجاد ذريعة للمشاركة في الحرب إلى جانب فرنسا وبريطانيا وحلفائهما. الهجوم وقع في 7 أيار (مايو) عام 1915 عندما كانت السفينة تقطع المضيق بين أيرلندا وإنكلترا..قلة من المسافرين كانوا قادرين على مغادرة السفينة، و1,198 ممن بقوا على سطحها أهلكوا."

وننهي قراءتنا المتواضعة الموجزة في بعض من تأملات فيديل بأسطر يختم فيها مقالاً بعنوان "ديمتري ميدفيدف" بتاريخ 28 تشرين الثاني(نوفمبر) يعتبر فيها قائد الثورة الكوبية أن الانتصارات مهما بلغت عظمتها إنما يحققها الذين يقدمون التضحيات لا أحد سواهم:
"بمشاعر لا توصف استمعنا في كل مكان للنشيد الروسي، الذي سكب تحت نوتاته الموسيقية الشعب الروسي البطل دماء ملايين الرجال والنساء، دون هكذا تضحية ما كان يمكن للنصر على النازية-الفاشية أن ينتزع."