تطور الحزب الشيوعي السوداني الفكري والسياسي بعد انقلاب 22/يوليو 1971م الدموي


تاج السر عثمان
2008 / 12 / 20 - 09:36     

بعد انقلاب 22 يوليو 71 الدموي ، وصمود الحزب أمام أشرس حملة لتصفيته واقتلاع جذوره من الحياة السياسية السودانية .. كان لابد أن يبدأ في النضج بعد أن عجمت عوده الأحداث والتجارب . وبدأ يتحسس الطريق السليم الذي لخصته وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية خلال ديكتاتورية عبود .. طريق استنهاض الحركة الجماهيرية وتجميع قوى المعارضة اليمينية واليسارية من أجل استعادة الديمقراطية .. والإطاحة بديكتاتورية نميري .. كما ترسخ مفهوم العمل الجماهيري وانحسر مفهوم التكتيك الانقلابي بديلا عن العمل الجماهيري .
في دورة يناير 1974 ونتيجة لتلخيص تجارب النضال الجماهيري بعد إضرابات ومظاهرات أغسطس 1973 .. طرح الحزب الشيوعي شعار الإضراب السياسي العام والانتفاضة الشعبية للإطاحة بديكتاتورية حكم الفرد واستعادة الديمقراطية .. وحماية النضال الجماهيري ، وكان ذلك استنادا لتجارب الإضراب السياسي في اكتو بر 1964 .. مع أخذ الظروف الجدية في الاعتبار .
في بيان أغسطس 1973 .. دعوة لوحدة قوى المعارضة من أجل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ، إرجاع المشردين ، استقلال النقابات ، ... الخ .
طورت دورة ل .م في أغسطس 1977 وديسمبر 1978 قضية الديمقراطية والتعددية ، كما ترسخ مفهوم الجبهة الواسعة من أجل استعادة الديمقراطية ، وكان ذلك تعبيرا عن أن أفق الحزب الشيوعي بدأ يتسع ويتجاوز الضيق والعزلة .
وهذا طبيعي وجيد ، ولكن قيادة الحزب لم تتوصل إلى تحليل نظري متماسك من قضية الديمقراطية ، أي أنها لم تنجز تحليلا نظريا عميقا يقدم إجابات مقنعة عن الاستفسارات التي كانت تطرحها عضوية الحزب يومئذ مثل هل يعني ذلك عودة الديمقراطية الليبرالية والتخلي عن مفهوم الديمقراطية الثورية أو الاشتراكية ؟ وهل يعني ذلك التخلي عن مفاهيم ومقولات مركزية في الماركسية مثل ديكتاتورية البروليتاريا ؟ وهل يمكن الوصول لإنجاز مهام الثورة الوطنية عن طريق الديمقراطية والتعددية أو عن الطريق البرلماني ؟ وغيرها من الأسئلة ، التي كان الرد عليها ضعيفا ( وربما لم يكن مقنعا لصاحبة ) .. أي رد لا ينطلق من تحليل نظري عميق ، أو أحيانا يأتي الرد كما جاء في دورة ل . م أغسطس 1977 . التوصل للديمقراطية ً من المنطلق النظري والفلسفي الذي يهتدي به الحزب الشيوعي وهو أن النضال من أجل الاشتراكية مستحيل بدون النضال من أجل الديمقراطية ً .
والواقع أن عبارة ً النضال من أجل الاشتراكية مستحيل بدون النضال من أجل الديمقراطية مستحيل بدون النضال من أجل الديمقراطية ً وردت عرضا في أحد مؤلفات لينين ، ولكنها لاتشكل بدقة منطلقا نظريا وفلسفيا ، بالمعني الذي كان يقصده لينين في سياق تحويل الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية ..
استطاعت بعض الأحزاب الشيوعية في بلدان أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية أن تنجز أعمالا نظرية حول الديمقراطية ، وتصفي الحسابات الفكرية مع ديكتاتورية البروليتاريا . كمدخل لاستراتيجية الطريق البرلماني للاشتراكية .
فمثلا الحزب الشيوعي البريطاني حذف ديكتاتورية البروليتاريا من برنامجه منذ عام 1951 وطرح الطريق الديمقراطي التعددي للاشتراكية ، وكذلك الإيطالي والفرنسي .
وفي منتصف السبعينيات من القرن العشرين ظهر تيار الشيوعية الأوربية الذي لخص استراتيجية الشيوعية الأوربية كالآتي :
الانتقال للاشتراكية بالديمقراطية ويعني ذلك تعدد الأحزاب ، برلمان ، مؤسسات نيابية ، سيادة الجماهير ، والتعبير عن هذه السيادة في الانتخابات ، نقابات مستقلة عن الدولة والأحزاب ، حق المعارضة ، حقوق الإنسان ، حرية المعتقدات الدينية ، حرية الخلق الثقافي والفني ، تطور أوسع أشكال مشاركة الجماهير في كل النشاط الاجتماعي في كل المستويات ، استقلال الأحزاب عن أي مركز عالمي قائد وعن الدولة الاشتراكية دون أن يعني ذلك التخلي عن التضامن مع الشعوب ضد الاستعمار ، نشر المساواة في العلاقات الدولية ، التعايش السلمي والتعاون الدولي ، نبذ سياسة الأحلاف العسكرية ، تصفية القواعد العسكرية لأي بلد في أراضي بلد آخر ، منع استخدام الأسلحة النووية ، نزع السلاح ، عدم التدخل في الشئون الداخلية ، حق الشعوب في تقرير مصيرها ، إضافة لحرية الفكر والاجتماع والتنظيم والسفر والتنقل داخل البلاد وخارجها ، حرية الانتقاد ، استقلال القضاء ، حيدة جهاز الدولة وعدم التزامه بفلسفة رسمية ..
بل إن بعض الأحزاب مثل الحزب الشيوعي الأسباني حذف اللينينية ، باعتبار أن العصر قد تجاوزها ولم تعد تناسب ظروف بلدان غرب أوربا، اضافة الي أن اللينينية ارتبطت بظروف روسيا الخاصة رغم اسهام لينين الذي لايمكن انكاره في تطوير الفكر الماركسي في عصر الامبريالية.
الحزب الشيوعي السوداني لم يواكب تلك التطورات النظرية والفكرية ، في عدد الشيوعي 148 ، الذي ناقش الشيوعية الأوربية .. ترحيب بحق كل بلد في اختيار طريقها للاشتراكية ، وترحيب بالاتجاه نحو الديمقراطية والتعددية ، ولكن جاء الاعتراض على حيدة جهاز الدولة ، واعتراض على مفهوم التضامن الاممي كبديل لمفهوم الأممية البروليتارية وتمسك باللينينية ، أى تمسك بمفاهيم الجمود النظري ، أي أن الحزب الشيوعي لم يجر تطويرا في الفكر النظري كمدخل لتسويغ الاتجاه نحو الديمقراطية والتعددية ، وهذا ما ترك الأسئلة الحائرة والاضطراب وسط عضوية الحزب .
بعد انهيار الجمود والأنظمة الستالينية في بلدان شرق أوربا بدأنا نناقش مقولات مركزية في الماركسية مثل ديكتاتورية البروليتاريا ، أي بدأنا متأخرين ، وهذا راجع لضعف الأداء النظري والفلسفي لكادر الحزب القيادي.