نعذر الرثاثة ولا نعذر التطفل!


فؤاد النمري
2008 / 11 / 20 - 10:02     

كنت تابعت باهتمام ما كتبه المشاركون في ملف ثورة أكتوبر وانهيارها رغبة مني في أن أتحقق من السويّة الفكرية للثقافة الماركسية لدى الشيوعيين العرب، وعندما تحققت من رثاثة تحصيلهم الثقافي كتبت قبل شهر عن " الإنحطاط الفكري لدى شيوعيي انحطاط الإشتراكية "، ثم توقفت بعدئذٍ عن متابعة الكتابات الرثة حول انهيار ثورة أكتوبر وقد استولى علي إحباط شديد نظراً لانعدام أي إرث ٍخلفته الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية بعد أن انتهت ثورة التحرر الوطني إلى الإنهيار والفشل التامين . لم تترك هذه الأحزاب خلفها على الأقل إرثاً ثقافياً يعتدّ به، هذا إذا تسامحنا عن التشويه النظري الذي ألحقته بالماركسية .

أخذت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، كما في سائر بلدان العالم الثالث، تشارك بنشاط في معركة التحرر الوطني مع بداية خمسينيات القرن الماضي . وقبل أن يمضي سنوات قليلة فقط حتى بدأ انحطاط الثورة الاشتراكية في العالم باستيلاء خروشتشوف وعصابته على قيادة الحزب في العام 1954 . لم يكن بوسع قيادات الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، كما في كل محيط الثورة، وهي تستمد شرعيتها الثورية من مشروع لينين في الإتحاد السوفياتي، سوى الإصطفاف وراء عصابة خروشتشوف مما أدى إلى انحطاطها فكرياً امتداداً لانحطاط خروشتشوف وعصابته ؛ انحطت دونما فرق بين القمة والقاعدة، وقد رأينا أن أحداً من قادة الأحزاب الشيوعية العربية لم يكتب ـ ولن يكتب ـ عن أسباب انهيار المشروع اللينيني الذي شكل القاعدة لكل نشاطات الشيوعيين . أليس هذا غريباً ويستحق الاستقصاء ؟ كيف يستمرون شيوعيين دون أن يفسروا لماذا سقطت الشيوعية كما يجري على ألسنة العامة ؟!! هل يكذبون على أنفسهم ؟! ـ ليس ما يُستقصى في هذا الأمر سوى الرثاثة الفكرية لدى هؤلاء القادة وحرصهم الشديد على عدم افتضاحها .

نعذر الرثاثة الفكرية لدى عامة الأحزاب الشيوعية العربية وقد وضعنا يدنا على أسبابها إذ استمدت انحطاطها الفكري من انحطاط خروشتشوف وهو ما دعانا إلى أن نمسك عن متابعة الكتابات في موضوع انهيار الثورة الإشتراكية، لكننا لا نستطيع أن نعذر التطفل على الموضوع والكتابة فيه كما تطفل على موضوع ثورة أكتوبر وانهيارها كاتبان هما السيدان حميد لفته وجورج حداد . ونحن إذ نمسك عن متابعة ما كتبه جورج حداد نظراً لفقره المعرفي ومحدودية ثقافته، كما كان قد أشار إليهما أحد معارفه، وكما اتضح جلياً من اللغو الممل الذي حشاه في مقالته دون أن يأتي بفكرة واحدة تثير النقاش، وخلطه اللبن بالسمك بالتمر هندي لا لشيء إلا ليغطي فقره العلمي والثقافي ـ وهذا هو أسلوب الذين يستشعرون جهلهم فيلجئون إلى تغطيته بالاستطالة وكتابة ما لا يلزم ـ وليس أغبى من أن يستشهد هذا الحداد بألف كلمة من البيان الشيوعي كي ينقض مسلمة تقول بأن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، ثم يقول بعد كل الاستشهاد الطويل جداً وغير العادي .. هو صحيح أن البيان الشيوعي قال بأن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ !! أي كاتب بائس الأدوات مثل هذا الكاتب ؟!! ـ إننا لا نلقي بالاً لمن يشتمنا حتى وإن تعدى ذلك حدود اللياقة والأدب، بل نشفق عليه لأن المناظر لا يشتم نظيره إلا عندما يفلس ولم يبقَ لديه ما يقال . ولسنا هنا لنحفل بالهراء الذي صفّه جورج حداد وبرثاثته الفكرية، كما رثاثة الكتاب المستقلين دائماً، إنما علينا أن نشير أخيراً إلى تطفل جورج حداد، تطفل الجاهل على العلم، علم قيام المشروع اللينيني وانهياره ـ العاقل هو من لا يتجاوز حدود معارفه فيغرق في تطفل ممجوج .

أما تطفل حميد لفته فهو من نوع آخر إذ يصف السيد لفته نفسه بأنه يساري وهو ما يعني تحديداً أنه ليس ماركسياً ، وهو يؤكد لاماركسيته باعتباره ماركس وإنجلز إبني تاريخهما جرى التقادم عليهما ويتوجب تجديد فكرهما فينبري هو نفسه للقيام بهذا الواجب المقدس وسيتحف المستضعفين في الأرض قريباً جداً بنظرية " اليسارية الجديدة " . يهاجم تقديس النصوص ليعلن أن نصوص ماركس لم تعد تلائم العصر، ولتبرير ذلك افتأت على ماركس وزعم أن ماركس كان قد اعترف بشيخوخة بعض نصوص البيان الشيوعي في مقدمته، بالإشتراك مع إنجلز، للطبعة الثانية للبيان الشيوعي في العام 1872 ؛ والحقيقة التي يمكن الرجوع إليها في الأرشيف هي أن ماركس قد أكد في تلك المقدمة، عكس ما يزعمه لفته وأضرابه من أعداء الماركسية حول تلك المقدمة، أكد صحة المبادئ الرئيسية في البيان كما كانت دائماً ــ والتشديد من ماركس وإنجلز ـ وأن بعض العبارات فيه بحاجة إلى تعديل أو تحسين ـ improvement بالنص ـ نظراً لأن بعض الهيئات والأحزاب المعنية في الخطاب لم تعد موجودة، وليس أكثر من ذلك . من الغريب تماماً أن بعض الشيوعيين يقرؤون تلك المقدمة قراءة حميد لفته الكاذبة، قراءة أعداء الماركسية .

لا أدري كيف أجاز حميد لفته لنفسه أن يقيّم لينين وستالين كبورجوازيين وضيعين كان همهما الوحيد هو دخول التاريخ من أبوابه غير الشرعية !! مثل هذا الإتهام السخيف لم يجروء دهاقنة الرأسمالية الإمبريالية على توجيهه لأعظم قائدين في التاريخ . لو تمتع حميد لفته بذرة من الأمانة العلمية ورأى أن الباب غير الشرعي الذي دخل منه هذان البورجوازيان الوضيعان لا لشيء إلا لتخليد ذاتيهما، أن هذا الباب وهذا الدخول هو ما ضمن سحق عدو البشرية التاريخي رقم واحد وهو النازية الألمانية والفاشية الأوروبية، لو رأى ذلك لما تجرأ عندئذٍ على الحط من دور لينين وستالين في تاريخ الإنسانية . الحرب العظمى ضد النازية والفاشية الأوروبية التي خاضها الإتحاد السوفياتي بقيادة ستالين كان فيها ألف حميد لفته يشكلون سرية تكفي لمحاربة العدو خمس دقائق فقط ليس أكثر . لينين وستالين لم يشحذا الخلود من حميد لفته وأضرابه أو من المؤرخين البورجوازيين بمختلف درجاتهم، لقد أُدخلا التاريخ من قبل العمال والفلاحين السوفييت فغيّرا العالم إلى ما نراه عليه اليوم . العالم الذي يعيشه حميد لفته اليوم هو في التحليل الأخير من صناعة أعظم قائدين في التاريخ وهما لينين وستالين .

حميد لفته يتطفل بالقول في انهيار الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي .. لا ماركس هو ماركس الذي يعرفه الشيوعيون ! ولا لينين وستالين هما ماركسيان وشيوعيان ! ولا الدولة اللينينية الستالينية هي دكتاتورية البروليتاريا ! ولا الإشتراكية السوفياتية هي الإشتراكية الحقيقية ! ـ لئن كان حميد لفته يعتقد بكل هذا، فلماذا يتطفل إذاً على الموضوع برمته ويتكلم من خارجه ؟ يتكلم من خارج الموضوع ثم لا يخجل في أن يعطي حكمه الخاص على تفاصيل يجهل حيثياتها قي المشروع اللينيني ! أنا أراهن بعد كل هذا على أن حميد لفته لا يعرف ما هي الاشتراكية كي ينقدها دون تطفل ! هو يظن لفقر ثقافته الماركسية أنها نظام إجتماعي مستقر يتقرر بالتصويت في الإنتخابات عبر صناديق الإقتراع !! أي فقر في العلوم السياسية فقر هذا الحميد ؟! لعله من أيتام المنحرف خروشتشوف الذي قال بالانتقال السلمي إلى الإشتراكية ! ولذلك نراه يسخر من دولة دكتاتورية البروليتاريا كما سخر منها عرابه خروشتشوف في العام 1959 واستبدلها بأسطورة بورجوازية اسمها " دولة الشعب كله " أي الدولة التي تمثل كل الطبقات !! هل دولة حميد لفته هي من ذات الأسطورة البورجوازية ؟ يسخر من دكتاتورية البروليتاريا ثم لا يلبث يطعن بالإنتخابات العامة في الدولة البورجوازية ! ـ احترنا يا قرعا منين نبوسك !!

اشتراكية حميد لفته متعددة الألوان وليس من لون واحد كاشتراكية ماركس . فيها الإشتراكي وفيها من هو ضد الإشتراكية وفيها من هو بين بين، لا هو اشتراكي ولا هو غير اشتراكي، ولذلك يقوم نظام الحكم في دولته العلوية على التعددية، حزب اشتراكي شيوعي ماركسي، وحزب اشتراكي غير شيوعي وغير ماركسي، وحزب محافظ مثل حزب المحافظين في بريطانيا أو حزب الديموقراطيين المسيحيين في ألمانيا ـ ولا يهم إذا كان اسمه حزب الديموقراطيين المسلمين في الدول العربية !! ـ التعددية في السياسة تتأتى بالطبع من التعددية في الاقتصاد . ففي اشتراكية حميد لفته ثمة علاقات إنتاج إشتراكية ـ من اشتراكية حميد لفته بالطبع إذ أن اشتراكية ماركس تفتقد لأي علاقات للإنتاج ـ وعلاقات إنتاج نصف أو ربع اشتراكية وعلاقات إنتاج رأسمالية ؛ وما المانع في أن يسمي لفته دولته هذه بالجمهورية الإشتراكية العظمى وعلى الأمم المتحدة أن تسجلها في ديوانها بهذا الإسم كما سجلت الجماهيرية الليبية الإشتراكية العظمى أو جمهورية الجزائر الاشتراكية الديموقراطية ؟!!

يقول ماركس أن لا اشتراكية بدون دكتاتورية البروليتاريا، ويقول لفته أن لا اشتراكية مع دكتاتورية البروليتاريا، فمن نصدق كارل ماركس أم حميد لفته ؟! يقول لينين أن الإشتراكية هي محو الطبقات وهو ما لا يتم بغير دكتاتورية البروليتاريا، ويقول حميد لفته بالإشتراكية من غير محو أي طبقة وهو ما يتم بالديموقراطية التعددية، فمن نصدق فلاديمير لينين أم حميد لفته ؟! أستأذن السيد حميد لفته كي يسمح لي باعتماد ماركس ولينين اللذين اعتمدهما كل العالم ولا أعتمد حميد لفته الذي لم يعتمده أحد سوى حميد لفته نفسه، ونفر آخر، ربما، من الذين اختاروا لأنفسهم إسم " اليساريين الجدد " .

حميد لفته يبحث في انهيار دولة عظمى بكل جبروتها ووسائل إنتاجها الهائلة وقوتها العسكرية الجبارة ولا يرى سبباً في ذلك غير ماركس الذي ترك إرثاً لا يقوى على الزمن وغير لينين وستالين اللذين استهانا بمصائر الشعوب السوفياتية ولعبا بها من أجل ذاتيهما وحباً بالزعامة ودخول التاريخ . لم يتكرم حميد لفته ليخبرنا ما شأن ماركس فيما جرى في الإتحاد السوفياتي بعد الثورة أو الإنتفاضة في أكتوبر1917 باستثناء أنه كان قد تنبأ في مقدمته للترجمة الروسية للبيان الشيوعي 1882 باحتمال نشوب الثورة الإشتراكية بداية في روسيا لتنتشر بعدئذً في أصقاع أوروبا الغربية ؟! ما شأنه باقتصاد النيب وبالتصنيع السريع وبالزراعة التعاونية ؟! وما شأن لينين وستالين بخرق هتلر ميثاق عدم الإعتداء والزحف على الأراضي السوفياتية بمائتي فرقة مدججة بأحدث الأسلحة ؟ وما شأن ستالين بميثاق حلف شمال الأطلسي وبناء ستار حديدي حول الإتحاد السوفياتي ؟! علينا أن نذكّر حميد لفته في هذا المقام بأن ماركس وإنجلز ولينين وستالين كانوا قد رحلوا جميعاً من هذا العالم بعد أن تركوا للفته وأشباه لفته معسكراً اشتراكياً جباراً يحاصر قوى الإمبريالية ويفككها، يشق عنان السماء ويحقق مثلاً طالما حلم بها الإنسان .

حميد لفته لم يسمع قط بالصراع الطبقي ولم يعطه أي دور في الترقّي الإجتماعي والإقتصادي بقيادة ستالين مقابل الانحدار الشامل بقيادة خروشتشوف وعصابته . يشرع حميد لفته بالبحث في انهيار مشروع لينين وينسى أن يتناول أداة البحث الوحيدة، الديالكتيك، وهو هنا في هذا السياق الصراع الطبقي . ننبه السيد لفته لمثل هذا العيب، غير المقصود كما قد يعتذر، لكنه أضل به إلى غير ما يعني، ربما، وإلى غير ما يقبل العقلاء دون شك . ولذلك ننصح لفته بأن يعود للبحث من جديد دون أن ينسى حمل أداة البحث في مثل هذا المضمار وهي الصراع الطبقي كيلا يبدو متطفلاً على الموضوع مرة أخرى ويتحدث من خارجه كما هو حديثه الآن .

وأخيراً يطمئننا حميد لفته إلى أن تجاوز الرأسمالية، بعد أن فشل ماركس وإنجلز ولينين وستالين في تجاوزها، سيتم على أيدي ما يسمى ب " اليسار الجديد " ولا ندري حتى اليوم ما هو اليسار الجديد، لماذا هو يسار، ولماذا هو جديد !! كل ما نعلمه هو أن جماعة من المفلسين، الذين فاجأهم انهيار الإتحاد السوفياتي دون أن يعرفوا أسباب ذلك، أعلنوا براءتهم من كل تراث الحركة الشيوعية بدءاً من ماركس وحتى ستالين وأخذوا على عاتقهم تجاوز النظام الرأسمالي دون أن يفصحوا عن وجهة التجاوز وكيف ومتى !! هذا ليس عبث الأطفال (Infantile Disorder) ، بالاستعارة من لينين، إنه عبث المغفلين (Idiotic Disorder) . ثمة بعض الشيوعيين سابقاً من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة يصرحون بكل صفاقة أنهم سيتجاوزون ماركس وسيطيحون بالإمبريالية الأمريكية بالتعاون مع مختلف أعداء أميركا من طالبان الأفغان والبنلادنيين وحتى الفاشيين الجدد في ألمانيا وإيطاليا وحليقي الرؤوس في موسكو ! هذا هو عين عبث المغفلين .