في الرأسمالية والأزمة.. والديمقراطية


ياسين الحاج صالح
2008 / 11 / 17 - 08:20     

لم يكن التوازن يوما فضيلة للرأسمالية التي تحفزها، بالمقابل، دينامية غير مسبوقة. لقد أطلق التقاء طموح "السيطرة على الطبيعة" مع نازع الربح والكسب دينامية انتهاك وتجاوز وتوسع وتعدٍ واختراق وفتح، أثمرت في آن ثورات تقنية مدهشة وتوسعا استعماريا هائلا.
وبفعل طابعها الاندفاعي الأصيل كانت الدينامية التوسعية للرأسمالية في طورها التنافسي تفضي إلى أزمات فيض إنتاج دورية (كل نحو عقد من السنين) لم تشرع بالتغلب عليها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلا بالتوسع الخارجي والداخلي، أي بالامبريالية في الخارج وبرفع أجور العمال في الداخل، وبدء نشوء ظاهرة الارستقراطية العمالية التي شكا منها ماركس نفسه في أواخر أيامه مر الشكوى. ولم تتمكن البلدان الرأسمالية المركزية من الخروج من أزمة 1929 إلا عبر النازية في ألمانيا، وتدخل الدولة الواسع في الولايات المتحدة فيما يعرف بالنيوديل الروزفلتية، التي حذت حذوها بلدان غرب أوربا الأخرى.
ويبدو أن مثل ذلك يحصل اليوم في البلدان الرأسمالية المركزية، وإن كنا نرجح أن نجاح العلاج الدولاني مشروط بتطبيقه عالميا هذه المرة، بحكم العولمة. أيا يكن الأمر، فإن الشيء الواضح هو أن الرأسمالية تحتاج إلى من ينقذها من ذاتها ويصحح جنوحها الغريزي نحو الإفراط وتوليد الأزمات. فهي لا تحوز آليات تصحيح ذاتية لتجاوزاتها وأعطابها. وما تحوزه المجتمعات الغربية من آليات تصحيح لم يتولد عن الرأسمالية ذاتها، بل بالأحرى عن ضبطها اجتماعيا وسياسيا وموازنتها بقوى لا تنبع منها. يسعنا القول إن المجتمعات الغربية متوازنة لأن الرأسمالية إحدى ساقيها فحسب، فيما الساق الثانية أنظمة سياسية واجتماعية وقانونية توازن الأولى وتضمن السيطرة الاجتماعية عليها. لعله لذلك في كل مرة تراخت الضوابط المؤسسية والسياسية والاجتماعية انفلتت هذه من عقالها وسرعان ما تسببت بأزمة كبيرة. والأزمة المالية والاقتصادية الراهنة مثال. فقد تولدت عن نزع الضوابط على التداولات المالية، إن في صلتها بالاقتصاد الحقيقي، أو في تجوالها العالمي سعيا وراء الربح الأعلى.
كان الشرط التوازني وجد تعبيرا في الأدب السوسيولوجي الغربي في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، حين كان يجري الكلام على توازنات دينامية تسم اجتماعها السياسي ونموها الاقتصادي. وفي الفترة نفسها ظهرت نظرية الدينامية الاجتماعية التي تستخلص من انفتاح فرص الترقي الاجتماعي أمام أعداد أكبر من السكان في المجتمعات الغربية المتقدمة امحاء الحدود الصلبة بين الطبقات وتراجع الصراع الطبقي. تبدو النظرية هذه موجهة ضد التحليلات الماركسية التي كانت مقبولة على نطلق واسع حينها والتي يشغل الصراع الطبقي موقعا مركزيا فيها بالطبع. غير أنها تعكس نجاحات حقيقية لدولة الرعاية الاجتماعية التي مارست ضربا من التمييز الإيجابي لصالح الشرائح الأضعف، وهو ما عززته طفرة التعليم العالي في الستينات لتتيح لعدد كبير من الشبان الموهوبين فرص ترق اجتماعي غير مسبوقة.
وفي العقود الثلاث التالي للحرب العالية الثانية أيضا صار يجري الكلام على عقد اجتماعي اشتراكي ديمقراطي في البلدان المعنية يضمن التوازن بين متطلبات التوسع الاقتصادي الرأسمالي وضرورات التوازن الاجتماعي والسياسي. والملاحظ أن الديمقراطية كاسم عام لآليات التصحيح في الرأسماليات المركزية ظلت خارج العلاقة الرأسمالية نفسها، وهي علاقة سيطرة طبقية لمصلحة الرأسماليين. لقد تركت هذه لحاكمية السوق، ولم يكن النيوليبراليون وحدهم من يعتبر عدم التدخل فيها شرطا للازدهار الاقتصادي وللديمقراطية ذاتها. وحده ماركس والشيوعيون من بعده تطلعوا إلى دمقرطة العلاقة بين "العمل المأجور والرأسمال"، فيما يكاد التحفظ على هذا الدخل يكون ثابتا حضاريا غربيا. وقد طورت الشيوعية السوفييتية وما سار على دربها من تجارب ما يفترض أنها آليات تصحيح للعلاقة الرأسمالية، لكنها بدل أن تحرر قوى الإنتاج كما وعدت لجمتها، وأثمرت في الوقت نفسه نظم طغيان سياسي محدثة (شمولية). وهو ما يترك السؤال عن إمكانية تصحيح تغيير جوهري في العلاقة الرأسمالية غير مجاب عليه.
مع مجيئ عقد الثمانينات أخذ العقد الاجتماعي الذي تمثل في دولة الرعاية الاجتماعية يتفكك. كانت تغيرات أساسية في نمط التراكم الرأسمالي تجري باتجاه ما يسميه ديفيد هارفي التراكم المرن، المتسم بتصدر قطاع الخدمات الحديث (تمويل ومعلومات واتصالات بخاصة) على قطاع الإنتاج الصناعي التقليدي، وتشكل ما سيسمى لاحقا مجتمع المعلومات.. وتواكبها تغيرات سياسية وإيديولوجية تمثلت في "الثورتين" الريغانية والتاتشرية وفي صعود الإيديولوجية الليبرالية المحدثة التي تعود إلى الإيمان الدوغمائي بحرية السوق وفضائله المغنية عن تدخل الدولة ("الحكومة ليست حل المشكلة، بل هي المشكلة" حسب رونالد ريغان). وكان السعي الرأسمالي إلى مجابهة انخفاض معدل الربح قد دفع إلى تصدير صناعات تقليدية إلى بلدان متدنية الأجور وقوانينها البيئية متراخية مثل كوريا الجنوبية في السبعينات والصين وبلدان أميركا اللاتينية في الثمانينات، وهو ما أضعف القوة التفاوضية لنقابات العمال في الغرب التي تعرضت للتفكيك بوسائل متنوعة على يد حكومتي ريغان وتاتشر. وعلى هذا النحو أخذ منطق العلاقة الرأسمالية يسود المجتمع ويوجه السياسات الحكومية ذاتها بدل أن يسيطر المنطق الديمقراطي على العلاقة الرأسمالية. وعلى هذا النحو حررت الرأسمالية نفسها من آليات التصحيحي الخارجية (أي السياسية والاجتماعية) بعد أن كانت قاومت بنجاح آليات التصحيح الداخلي التي أظهرت على أية حال فشلا مدويا في التجارب الشيوعية. ومنذ الثمانينات لم نعد نقرأ عن توازنات دينامية. والحصيلة التي لم تتأخر هي الأزمة العالمية الراهنة التي نشك في أن تستجيب للعلاج التقليدي المتمثل في تدخل إسعافي وواسع من قبل الدولة.
قد يبدو أن الرأسماليات المركزية طورت آلياتها التصحيحية، السياسية والاجتماعية، في نوع من التطعيم ضد العدوى الشيوعية التي تمتعت بجاذبية عالية في البلدان الغربية حتى سبعينات القرن العشرين، وأن انهيار التوازنات الدولية بين "النظامين الاجتماعيين" هو ما أفضى إلى ترنح التوازنات الداخلية الغربية وتفكك العقد الاجتماعي الاشتراكي الديمقراطي. لكن نميل بالأحرى إلى أن الدينامية الرأسمالية حققت في السبعينات وما بعدها قفزات في التراكم والتكنولوجية وتنظيم العمل، ذات طاقة توسعية متجددة هي التي ستسمى قبل نحو عشرين عاما العولمة. الاتحاد السوفييتي لم يعد يجاري بفعل جمود بناه الاقتصادية والسياسية والفكرية، والرأسماليون القادرون على تحريك أموالهم وأعمالهم بسهولة هم من سيحوزون ميزة نسبية كبيرة قياسا إلى الدولة القومية الأقل حركية وإلى الطبقات الوسطى والدنيا الأدنى مرونة أيضا.
بصيغة ماركسية، قد يمكن تمثيل الشرط الحالي بأنه تناقض بين الطابع العالمي للعمليات الرأسمالية والسيطرة الطبقية عليها والتنظيم القومي للعالم. بعبارة أخرى، تنتقل التناقضات التي كان رصدها ماركس في الإنتاج الرأسمالي في القرن التاسع عشر من الإطار القومي إلى الإطار العالمي، مع بقاء العالم مجزأ سياسيا إلى دول قومية "سيدة". وإنما لذلك نتشكك في نجوع أية سياسات كينزية جديدة لمعالجة الأزمة الراهنة إن لم تطبق على نطاق عالمي.