قراءة نقدية في كتاب لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني


تاج السر عثمان
2008 / 11 / 17 - 08:19     

لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني كتاب اصدره الاستاذ الشهيدعبد الخالق محجوب من معتقله في سجن كوبر خلال سنوات الحكم العسكري الأول في السودان(1958- 1964)،والكتاب فيه عرض جيد لتطور الحركة الوطنية وملحمة تأسيس الحزب الشيوعي السوداني، وفي هذه السطور نتناول هذاالكتاب في قراءةنقدية.
في كتابه .. لمحات من تاريخ الحزب يرسم لنا عبد الخالق لوحة عن تطور الحركة الوطنية منذ هزيمة دولة المهدية ، منذ المقاومة القبلية والدينية الأولى ، وثورة 1924 ، ومؤتمر الخريجين ، والتطورات التي حدثت في البلاد أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية .. وما تبعها من نهوض جماهيري من أجل التحرر الوطني وتحسين مستوي المعيشة .. وظهور الأحزاب السياسية .. ومن ضمنها نشؤ الحركة السودانية للتحرر الوطني عام 1946 ، كما يوضح كيفية دخول الثقافة الماركسية إلى البلاد .. يقول في ص ، 39 :
( .. ومن بين أوساط المثقفين وفي معاهد التعليم كانت الأمور تتحرك ، فالثقافة الغربية الشحيحة لم تكن تروي ظمأ الكثيرين وهي فوق ذلك تمثل الثقافة التي نمت الاستعمار في النهاية ، فبينما كانت الثقافة الغربية تتحدث عن الحرية والديمقراطية وقيمة الإنسان ، كان أبناء تلك الثقافة من الاستعماريين بخنقون الحرية في السودان ومصادرة الديمقراطية ويحقرون الإنسان . إن المدرسة التي تقدس ثقافة الغرب لم تستطع أن تواجه الهزات العنيفة التي اجتاحت السودان خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها نشأ جيل متعطش إلى قيم فكرية جديدة .. كذلك كان حال المدرسة التي تتمسك بكل ما هو عربي قديم ، لم تكن أحسن حالا من الأخرى .. وفشلت في مواجهة المشاكل التي كانت الحياة تقذف بها أمام الشعب السوداني في تلك الفترة ) .
المتأمل والمدقق يري الصورة المبسطة التي تم بها تقديم الأمور فالحديث يرد هنا عن ( الثقافة ( الغربية ) التي نمت الاستعمار في النهاية ) وكأنها كتلة صماء .. بينما الواضح أنها ليست كذلك .. فالثقافة الغربية أيضا أنتجت الفكر الاشتراكي والماركسي .. الذي استند إلى التراث الإنساني السابق .. وانتجت ثقافات إنسانية في مواجهة .. ثقافة الرأسماليين والاستعمار . والطبقات المختلفة في الغرب الرأسمالي خلقت ثقافات وقيم متباينة .. صحيح أن المثقفين الذين تشربوا بالثقافة الغربية وانعزلوا عن واقعهم ، أي عاشوا بجسدهم في السودان وبعقلهم ووجدانهم في الغرب كانوا يعيشون حالة انفصام .. وبالتالي كان من الطبيعي أن يفشلوا وتذهب ريحهم ، ويعجزوا عن مواجهة المشاكل التي واجهها الشعب السوداني بعد الحرب العالمية الثانية . القضية كانت عدم التناول الناقد والنقل الأعمى للثقافة الغربية .. ولكن كانت هناك أجيال من المثقفين أو الخريجين الأوائل من تناول الثقافة الغربية بمنهج ناقد .. مثل حمزة الملك طمبل ودعوته إلى أدب سوداني .. وعرفات محمد عبد الله ، ومحمد أحمد المحجوب .. وغيرهم . إن قضية الهوية الثقافية السودانية وقضية التناول الناقد للثقافة الغربية كانت بذورها موجودة في الكتابات التي ظهرت في مجلتي النهضة السودانية والفجر .. ولم تكن الصورة مبسطة كتلك التي عرضها عبد الخالق .. حتى تجئ الماركسية وبضربة واحدة لتحل هذا التناقض . وهذا جانب من الصور المبسطة التي كانت تقدم خلال فترة الجمود في الفكر الماركسي .
يواصل المؤلف في ص 39 ويقول : ( في هذا الجو كانت الأوضاع الدولية تواجه تحولات حاسمة ، فالاتحاد السوفيتي ابتدأ يظهر علي حقيقته وسط الشعوب التي صارت تلتفت إلى الاشتراكية وتتساءل عن كنهها وأسباب قوتها وبدأت تصل إلى السودان مؤلفات اشتراكية باللغة الإنجليزية عن الحياة في بلاد الاشتراكية وعن قيم الماركسية اللينينية .. وقد أحدثت هذه المؤلفات هزة وسط المثقفين السودانيين وتلقفها نفر منهم واصبحوا يقلبون الفكر في كنه الاشتراكية ، وكيف استطاعت تحويل البؤس والشقاء إلى حياة مستقرة مزدهرة ، وكي استطاعت أن تضمن إلى الأبد استقلال الشعوب التي سارت تحت لواءها ..
ومن الناحية السياسية كان للنظرية الماركسية أثر ساحر فيما يواجه البلاد من مشاكل ، فبواستطها عرف نفر من المثقفين الوطنيين ماهية الاستعمار وطرق التخلص منه .. وقد تداول كتاب ستالين – المسألة الوطنية ومسألة المستعمرات – عشرات من المثقفين الذين وجدوا فيه ردودا لما يعتمل في أنفسهم تلك الأيام .. ) .
من أعلاه نري أننا كنا نرسم صورة غير ناقدة لللاوضاع في الاتحاد السوفيتي وكيف استطاعت أن تضمن إلى الأبد استقلال الشعوب التي سارت تحت لواءها .. هذا رغم أن هذا الحديث كتب عام 1961 م .. بعد تقرير المؤتمر العشرين في التقرير السري الذي قدمه خر وتشوف .. حول أخطاء وجرائم ستالين في ميادين حقوق الإنسان ، والتهجير القسري للقوميات ، والأخطاء في السياسة الزراعية .. وانتهاك الديمقراطية في الحزب والمجتمع .. الخ .
وعدم التناول الناقد لتلك التطورات في الاتحاد السوفيتي كان من آفة الحركة الشيوعية العالمية يومئذ ... تناول جانب الصورة الزاهية فقط وإغفال الجوانب السلبية والتحليل العميق لجذورها .
الجانب الآخر أن المثقفين الماركسيين السودانيين الأوائل عانقوا الماركسية من مدخل الحركة الوطنية والاستعمار .. ومؤلف ستالين الذي تداوله عشرات من المثقفين الذين وجدوا فيه ردودا لما يعتمل في أنفسهم في تلك الأيام .
الجانب الإيجابي والعملي كان معانقة الماركسية من مدخل القضية الوطنية المباشرة – التي كانت تواجه المثقفين .. الاستعمار ، ظاهرته ، وكيفية التخلص منه ، ومقاومته بفعالية اكثر .
ولكن الجانب السلبي هو أن المدخل كان مؤلفات ستالين ، والتي كانت عبارة عن ماركسية زائفة على حد تعبير الفيلسوف الماركسي المجري جورج لوكا تش ، اتسمت بالجمود والأحكام القاطعة – وعدم إثارة التفكير والخيال ، إضافة إلى الجمود الذي ساد في الماركسية في تلك الأيام والجانب الدعائي في مؤلفات الماركسيين السوفيت – اكثر من الجانب الفكري الثقافي العميق . أي أن معانقة الماركسية لم يكن من أصول الماركسية كما تشكلت في الثقافة الغربية ، وكما ظهرت في مؤلفات ماركس وانجلز . ولكن من جانب لينين وستالين وماوتسي تونغ وليوشاشي ... الخ ، التي عالجت القضايا الجديدة حول الإمبريالية والاستعمار التي ظهرت بعد وفاة ماركس وانجلز .
الجانب السلبي الآخر كان ضعف الأساس الفكري والثقافي والفلسفي للمثقفين يومئذ .. فيما يختص بالاستيعاب الواسع والعميق لأفكار التنوير الديمقراطية والعقلانية التي ظهرت في الغرب نفسه من قيم ثقافية وفنية وأدبية وفكر سياسي وفلسفي .. ومؤلفات فلسفية ماركسية معارضة – ومدارس متعددة ومتنوعة .. أي أن الدراسة العميقة للثقافة الغربية وقيمها الديمقراطية والثقافية لم تكن عميقة وسط مثقفي تلك الفترة الذين استهوى منهم مؤلفات ستالين على بساطتها .
ومؤلفات ستالين كان لها اثر سلبي فيما يختص بتناول تطور الحركة الوطنية من خلال الأحكام الجامدة حول المثقفين والبورجوازية الوطنية في بلدان المستعمرات والتي كان لها الأثر بهذا القدر أو ذاك على تقدير عبد الخالق نفسه لثورة 1924 م ولمؤتمر الخريجين ، فمثلا جاء في الكتاب السابق ، طبعة دار الوسيلة ، ص 18 ، عن حركة 1924 ما يلي : ( كانت تلك الحركة خالية من أي برنامج بمقتضاه تعبئة الجماهير وحملها للانضمام إليها ، إذ أن البرنامج في مجمله لم يخرج عن ترديد ألفاظ الحرية ووحدة وادي النيل وعاشت مصر ) .
وهذه صورة غير دقيقة .. فمنشور ً ناصح مخلص أمين ً الذي ورد في مؤلف حسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني _ الجزء الأول _ ، كان فيه نقاط برنامجيه للحركة غير وحدة وادي النيل وسقوط الاستعمار مثل :
• مقاومة مصادرة أراضي المزارعين في الجزيرة .
• رفض احتكار الحكومة لسلعة السكر .
• مقاومة انفراد المبشرين المسيحيين بالتعليم في الجنوب .
كما جاء في تقدير المؤلف للخريجين في ص 23 ، بعد هزيمة ثورة 1924 ما يلي : -
ً أما مثقفو الطبقة الوسطي ، وهم الممثلون لمصالح تلك الطبقة بأسرها ، فإنهم تراجعوا عقب فشل ثورة 19 – 1924 م بدون انتظام ، وعندما فتحت الإدارة الاستعمارية أمامهم بعض الفرص في جهاز الدولة هرعوا وراء المكاسب الشخصية ، لقد تحول الكثير من الذين اشتركوا في حركة 1924 إلى عناصر يائسة تزهد في جدوي الكفاح ومناهضة الحكم الاستعماري . ً ويواصل الكاتب في ص 26 خلال أزمة 1929 ما يلي : ً ولكن الطبقة الوسطي ظلت بعيدة تتفرج يعمل مثقفوها بين جدران أنديتهم في الجمعيات الأدبية وعندما أضرب طلبة الكلية لعب بعضهم دورا في الوساطة وتهدئة الأمور خوفا من أن تعطل الإدارة الاستعمارية الكلية كما كانوا يتعللون .. ً .
هذه أيضا صورة غير دقيقة فغير الوساطة قدم الخريجون مذكرة ( لجنة العشرة ) التي قدموا فيها مقترحات وبدائل جيدة لتخفيض المرتبات وتشريد العاملين ( دراسة غير منشورة لكاتب هذه السطور عن خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية ، 1900 – 1956 ) . جاء في ص 27 حول مؤتمر الخريجين ما يلي: ً في هذا الجو المشحون بالمشاكل التي تكتنف الشعب السوداني والتي تنتظر قيادة حاسمة للدخول في معارك ضد المستعمرين من أجل مطالب البلاد المشروعة من حرية وتحسين لمستوى المعيشة خرج المثقفون بتنظيم إصلاحي من نشر للتعليم ومحاضرات وغيرها .. ً . ثم يواصل في ص 28 ويقول : ً إن قصر مؤتمر الخريجين على المناداة بالإصلاح دون التعرض لنظام الحكم الاستعماري ، واقتصار نشاطه على خريجي المدارس دون غيرهم لا يعبر عن ضعف الشعب السوداني بل عن ضعف الطبقة الوسطي ، وإحجامها ورغبتها في سلوك الطريق السهل . ً .
في تقديري أن الأمر ليس بهذه البساطة كما جاء في كتاب عبد الخالق . ولكن ربما كان على النحو التالي :
- مؤتمر الخريجين كان نتاجا لتوازن قوى معين ، وبعد هزيمة ساحقة دموية تعرضت لها ثورة 1924 – ومحاربة شرسة للخريجين ونشاط الخريجين .. وكان المؤتمر قنطرة تفرعت منها الأحزاب السياسية المختلفة بما فيها الحركة السودانية للتحرر الوطني ، التي كان لها قادة في مؤتمر الخريجين مثل حسن الطاهر زروق وغيره ... فهؤلاء خرجوا للنضال وللحياة السياسية الأوسع من مؤتمر الخريجين نفسه .
- الشكل الإصلاحي الذي اعتمده الخريجون قبل وبعد تكوين مؤتمر الخريجين بعد هزيمة ثورة 1924 – كان شكلا من أشكال الصراع ضد المستعمر ( توسيع التعليم ، تكوين الصحافة الوطنية ، إنشاء الحركة المسرحية ، معهد القرش الصناعي ... الخ ) في ظروف انحسار الحركة الوطنية بعد فشل ثورة 1924 .. فرجال أمثال عرفات محمد عبد الله عندما عاد إلى السودان بعد هزيمة ثورة 1924 .. قدروا بحكمة وطنية صادقة الظروف الجديدة التي نشأت بعد ثورة 1924 .. وبالتالي اعتمد مع رفاقه أشكال وأساليب جديدة لمقاومة المستعمر .. تلائم الانحسار في الوطنية وظروف المطاردة الشرسة للخريجين بعد ثورة 1924 – وبالتالي ساهم في إنشاء مجلة الفجر التي لعبت دورا كبيرا في بلورة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية – التي شكلت الأساس للتطورات اللاحقة ، صحيح أنه كانت هناك قوى من الخريجين تعاونت مع المستعمر .. ولكن كانت قوى تحاول أساليب وطرق جديدة للمقاومة .
- لا أرى أن الطبقة الوسطى اختارت الطريق السهل .. فقد فجرت من قبل ثورة مسلحة في 1924 .. وتم إعدام بعض قادة اللواء الأبيض والعسكريين وتعرض الباقون للتشريد والنفي والتعذيب والموت في سجون الاستعمار في الجنوب ... وأقاصي شمال السودان . حتى اتفاقية 1936 .
- نشر التعليم الذي اعتمده الخريجون وغيرهم من المواطنين السودانيين .. قبل وبعد مؤتمر الخريجين في البداية كان شكلا من أشكال محاربة سياسة المستعمر التي كانت تهدف إلى تحجيم وتقليص فرص التعليم .. ونشر الوعي والمعرفة .. وتم فتح مدرسة أم درمان الثانوية الأهلية وغيرها . وتم توسيع أعداد المبعوثين للدراسة الجامعية في مصر وبريطانيا وتقديم المساعدات المادية لهم .. وهؤلاء المبعوثون في مصر وبريطانيا تفتحت أمامهم آفاق أوسع من الفكر والثقافة بمدارسها المختلفة واسهموا – في إدخال الأفكار الماركسية وغيرها من مدارس الثقافة الغربية .. للسودان ، واسهموا في الإفصاح عن مطالب الحركة الوطنية السودانية ، وبالتالي كان ذلك قوة رافعة لاشتداد عود الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية ، بعد قيام الأحزاب السياسية السودانية والحركة النقابية والتي نقلت الصراع ضد المستعمر إلى مستوى أعلي . وربما كان ذلك من آثار فترة الجمود ومن آثار مؤلفات ستالين التي كانت تقلل بصورة مخلة من دور المثقفين والبورجوازية الوطنية في بلدان المستعمرات ، وتلك المؤلفات كانت تساوي بصورة قسرية بين المثقف البورجوازي أو الطبقة البورجوازية أو البورجوازية الصغيرة كما تبلورت وتطورت في البلدان الرأسمالية المتطورة ، وبين وضعها وخصوصيتها في بلدان المستعمرات . فالمثقفون في بلدان المستعمرات أو بلدان العالم الثالث رغم مشاكلهم وسلبياتهم – كانوا ولا زالوا طلائع لنشر المعرفة والوعي في تلك البلدان ، ولهم خصوصيتهم التي تميزهم عن المثقفين الذين نشأوا في البلدان الرأسمالية المتطورة .
يواصل المؤلف في 40 ويقول : ( وهكذا تألفت أول حلقة ونواة للماركسية اللينينية في السودان تحت اسم الحركة السودانية للتحرر الوطني . إن نمو هذه النواة لم يأت قسرا أو عن طريق الاستيراد كما يدعي أعداء الشيوعية في السودان ، بل كان تطورا منطقيا للفكر السوداني وحاجة ماسة فرضتها الظروف التي واجهتها البلاد ) .
أرى أن هذه الصيغة جيدة ، فعبد الخالق كان هنا دقيقا ومتواضعا عندما تحدث عن تطور منطقي للفكر السوداني . وإذا قارنا صيغة عبد الخالق مع صيغة د . حسن مكي في كتابه عن حركة الأخوان المسلمين في السودان التي جاء فيها : ( في نهاية الأربعينيات برزت الحركة الإسلامية السودانية استجابة لنداء عميق قد سرى من داخل الحركة الطلابية السودانية وتلبية لاحتياجات أعمق من المجتمع السوداني في حركة أصيلة ومستقلة تكون امتدادا حيا ومتطورا لحركة الإسلام في السودان وبديلا فكريا وسياسيا لأنواع التشتت والضياع الطائفي والعقائدي . ) ص 7 – 8 .
نرى أن هذه الصيغة غير متواضعة فهي تتحدث عن بروز حركة الأخوان المسلمين كبديل فكري وسياسي لأنواع التشتت والتمزق والضياع الطائفي العقائدي ، وهذه كانت بذور الفكر الفاشي في السودان ، الذي يعني ضمن ما يعني مصادرة التعددية السياسية والفكرية ، أي أن حركة الأخوان المسلمين – كما حدث اليوم بالفعل – لم تجئ لتحاور تيارات الفكر السوداني المتعددة ، بل كبديل فكري وسياسي . وهذا مثال لعدم التواضع والغرور والادعاء .
يواصل عبد الخالق في ص 40 ويقول : ( فبالاستعانة بالنظرية الماركسية استطاعت الحركة السودانية للتحرر الوطني في تكوينها أول عام 1946 أن تضع أساسا سليما لمستقبل ، فوضعت شعار النضال ضد الاستعمار بوصفه قضية البلاد وأوضحت أن المشكلة ليست هي بين دعوة لوحدة وادي النيل تحت التاج المصري ودعوة للانفصال من مصر بل هي مشكلة التخلص من الاستعمار الأجنبي نفسه والى جانب هذا أشارت أن حق الشعب السوداني في تقرير مصيره حق مقدس ندافع عنه ضد اعتداءات المستعمرين وضد رغبات الإقطاعيين والرأسماليين المصريين في التوسع وهضم حقوق شعب السودان .
ولأول مرة في تاريخ بلادنا وضعت منظمة سياسية العلاقات المصرية السودانية على أسس صحيحة حقا قائمة على الكفاح الشعبي المشترك ضد العدو المشترك من الاستعماريين ، وبهذا أسهمت الحركة السودانية بالنصيب الأول في تحرير شعار – حق تقرير المصير – من الشكل المضلل الذي كان الاستعماريون وأذنابهم يحاولون تشويه هذا الشعار به ، وأسهمت في النضال ضد التعصب الذي كان الاستعماريون وأذنابهم يبذرونه وسط جماهير الشعب ضد شعب مصر المناضل وأسهمت في الوقوف بحزم ضد نوايا الرجعية المصرية . إن هذا البرنامج السياسي الذي اتخذته الحركة السودانية للتحرر الوطني في نشاطها عام 1946 كانت له آثار بعيدة المدى ، في سير حركة التحرر الوطني في البلاد ولم يكن ذلك البرنامج إلهاما ، بل كان الثمرة الأولي لتطبيق الماركسية اللينينية على ظروف السودان . )
ويواصل المؤلف في ص 41 ويقول : ( إن نشأة الحركة السودانية للتحرر الوطني في ذلك الوقت واقتحامها للمشاكل التي تواجه الشعب السوداني وتقديمها الحلول السليمة لتلك المشاكل ثم نمو دورها في الحياة السودانية فيما بعد يؤكد أن الماركسية اللينينية كانت حاجة ماسة تهيأت لها ظروف البلاد ، وأنه لم يكن هناك من حل للمشاكل السياسية والفكرية سواها . ) .
من أعلاه نصل إلى أن الحركة السودانية للتحرر الوطني قدمت الحل السليم للمشكلة الوطنية التي كانت تواجه البلاد وصاغته على النحو التالي : -
• الجلاء وتقرير المصير ، والاستقلال عن بريطانيا ومصر .
• الكفاح المشترك مع الشعب المصري ضد الاستعمار البريطاني .
• الصراع ضد عقلية الإقطاعيين والرأسماليين المصريين الرامية للتوسع وهضم حقوق الشعب السوداني .
صحيح ما ورد أن هذا الطرح كان على مستوى أول حزب سياسي يعالج هذه المسألة من وجهة نظر شاملة وسليمة ، ولكن للحقيقة – وحتى نكمل الصورة – إن بذور هذا التفكير المستقل كانت موجودة ضمن تيارات الحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الثانية فمثلا نجد أن : -
• تيار الاستقلال عن مصر وبريطانيا كان موجودا وسط ثوار 1924 وخارجهم ، وكان صوته خافتا . وثورة 1924 نفسها كانت حركة سودانية مستقلة عن مصر وبريطانيا ، وكانت جماعة الفجر ترى أن هناك مصالح مشتركة كثيرة بين مصر والسودان وأن تحقيق الدعوة لوجود سودان مستقل ليس أمرا معاديا لمصر فقد كانوا يعتقدون بضرورة وجود علاقة وثيقة وحميمة بين البلدين . ( راجع مجلة الفجر المجلد 3 عدد 5 ص 129 – 131 وعدد 6 ص 161 – 163) .
• كما أنه ليس دقيقا عندما قامت الحركة السودانية للتحرر الوطني ، كان هناك شعاران فقط : وحدة وادي النيل تحت التاج المصري وشعار الاستقلال من مصر ( السودان للسودانيين ) . كانت هناك تيارات وسط الأحزاب الاتحادية ترى ضرورة التعاون مع مصر لتحقيق الاستقلال عن بريطانيا ثم بعد ذلك يترك للشعب السوداني تقرير مصيره ، استقلال أو اتحاد مع مصر .. وهكذا .
وبهذا المعني يمكن القول أن طرح الحركة السودانية للتحرر الوطني لشعار الجلاء وتقرير المصير والكفاح المشترك مع الشعب المصري – كان امتدادا وتطويرا للفكر السوداني التحرري المستقل الذي كان ينادي بالاستقلال عن مصر وبريطانيا والتي كانت بذورها موجودة منذ ثورة 1924 .
• أما ما جاء حول أن الماركسية اللينينية كانت حاجة ماسة تهيأت لها ظروف البلاد ، وأنه لم يكن هناك من حل للمشاكل السياسية والفكرية سواها ، مثل هذا القول يقفل الطريق أمام إسهام التيارات الفكرية الأخرى ، التي ساهمت كل بجهدها وفكرها في المشاكل السياسية والفكرية التي واجهتها البلاد قبل وبعد الحرب العالمية الثانية .