اللجنة العالمية للأممية الرابعة: تقرير حول الوضع العالمي


فرانسوا سابادو
2008 / 11 / 12 - 09:57     

ننشر هنا الصيغة المكتوبة للتقرير الذي عرضه فرنسوا سابادو عضو المكتب التنفيذي للأممية الرابعة والقيادة الوطنية للعصبة الشيوعية الثورية ( الفرع الفرنسي للأممية الرابعة). على الدورة اللجنة العالمية للأممية الرابعة مقدمةً للنقاش حول الوضع العالمي في 1 مارس 2008.


يقدم هذا التقرير ما نعتبره إحدى السمات الأهم للوضع العالمي. لا يتطرق لكل المسائل، وقد يكون مطبوعا بنوع من المركزية الأوربية، ومن ثمة بمقاربة جزئية لبعض المسائل. وسيكون متبوعا بتقرير حول مشاكل بناء الأممية ورهانات المؤتمر العالمي المقبل. [ صفحة 1 ]
**** [ صفحة 1 ]





يقدم هذا التقرير ما نعتبره إحدى السمات الأهم للوضع العالمي. لا يتطرق لكل المسائل، وقد يكون مطبوعا بنوع من المركزية الأوربية، ومن ثمة بمقاربة جزئية لبعض المسائل. وسيكون متبوعا بتقرير حول مشاكل بناء الأممية ورهانات المؤتمر العالمي المقبل.


****

انعطاف هام

الوضع العالمي مطبوع بالأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب الاقتصاد العالمي منذ متم صيف 2007. يشكل انفجار هذه الأزمة انعطافا في مسارها. إنه انعطاف هام لأنه يمثل لحظة تلتقي بسيرورات عديدة وتندرج في تبدل للحقبة التاريخية بدأ مع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن 21، مطبوع بالعولمة الرأسمالية وتناقضاتها. فيما يخص الأزمة اشتغلنا على أعمال ف. شيسنيه و إ. توسان و مجموعة العمل الاقتصادي التابعة للعصبة الشيوعية الثورية.

1.

إنه انعطاف بمعنى انتهاء دورة للاقتصاد الأمريكي تلت انتعاش 2003، مطبوعة بانفجار الاستهلاك الداخلي، واستدانة كثيفة، على قاعدة أسعار فائدة منخفضة جدا وخفض التكاليف المالية، وهي الآيات التي أفضت إلى تلك" الفقاعة العقارية". على هذا النحو ُأرسي نظام قروض الرهن العقاري عالية المخاطر " subprime"، أي القروض المجازفة ذات سعر الفائدة المتغير الممنوحة للأسر الأكثر هشاشة. يمثل هذا النظام، إلى جانب تمويل أشكال العجز بالرساميل الأجنبية وخفض قيمة الدولار، أحد الأواليات الرئيسة لنموذج النمو الأمريكي من 2003 إلى 2008... لكن عندما رفعت الخزينة الاتحادية ( البنك المركزي الأمريكي) المعدلات الموجهة للنقد، عطلتْ الآلة وسببتْ إفلاس وانهيار ملايين الأسر المستدينة، و أدى الأمر إلى إفلاس مؤسسات قروض هامة واهتزاز النظام البنكي. هذا لأن القرض ركيزة هذا النمو الأمريكي. وفعلا يستدعي الحفاظ على ربح مرتفع ومنتظم طلبا ديناميا. ولا يتأتى هذا من الأجور المضغوطة بهجمات أرباب العمل، ولا بالأسواق الداخلية للبلدان المنبثقة المتطورة بما يكفي، ولا بالمداخيل الموزعة على مالكي الأسهم الذين لا يشكلون كتلة كافية لدعم الطلب. هكذا وجدت الرأسمالية المعاصرة ذلك الطلب في القروض للأسر. وقد بلغت هذه السيرورة ذروتها بالولايات المتحدة الأمريكية.

2.

لسنا إزاء أزمة مالية و بنكية وحسب، بل حتى إزاء أزمة الاقتصاد الحقيقي. انتشرت على صعيد عالمي أزمة قروض الرهن العقاري عالية المخاطر « subprimes » عبر الآليات الخاصة للنظام المالي المعولم. وأدت إلى أزمة إعسار وسيولة تضرب النظام النقدي العالمي برمته. ومن ثمة الضخ الكثيف للرساميل في الاقتصاد الأمريكي – أكثر من 168 مليار دولار لخطة إنعاش الاقتصاد التي صادق عليها الكونغرس- وخفض معدلات الفائدة، أو على العكس توترات جديدة مع رفض البنك المركزي الأمريكي خفض معدلاته. لكن هذه السياسة غير كافية لإعادة إطلاق الآلة... هذا لأن توقعات انحسار الاقتصاد الأمريكي تتأكد شيئا فشيئا. وقد انهار قطاع العقار بالولايات المتحدة الأمريكية. و أصابت الأزمة بلدانا أخرى استعملت نفس آليات القرض العقاري الأمريكية مثل اسبانيا وايرلندة واستراليا.
النشاط ينخفض بالولايات المتحدة الأمريكية.
توقعات النمو تتراوح بين 1.5% و 2% بالولايات المتحدة الأمريكية وبأوربا.
في يناير 2007 كان حاصل الاقتصاد الأمريكي من خلق فرص عمل سلبيا. و في يناير 2007 فقد الاقتصاد الأمريكي 17 ألف فرصة عمل.
جرى في قطاع العقار والصناعة تدمير 27 ألف و 28 ألف فرصة عمل. وكانت الأسواق تراهن على إحداث 70 ألف فرصة عمل. و في فرنسا أحدثت 300 ألف فرصة عمل لكن دمرت 50 ألف بالصناعة.
انه إلقاء 3 مليون أسرة إلى الشارع
إنه اعلان عمليات إعادة هيكلة ستؤدي إلى عشرات آلاف التسريحات. ويتوقع مكتب العمل الدولي 5 مليون عاطل جديد.

وتبلغ كلفة هذه الأزمة المالية، في طورها هذا، عشرات ملايير الدولار.

وتؤدي أزمة النظام المالي العالمي هذه إلى انكماش للقرض وبالتالي إلى تباطؤ النشاط. وُيسهم التطهير المطلوب من البنوك – فرز "السندات العفنة" عن " التوظيفات الجيدة"- في تباطؤ النشاط.

توجد الإدارة والبنك الفيدرالي الأمريكي في مأزق مرعب: إما إنعاش الاقتصاد بخفض أسعار الفائدة وحقن بالسيولة و مفاقمة العجز والاستدانة وتضخيم ضغوط التضخم، و من ثمة المخاطرة بمفاقمة انخفاض قيمة الدولار وحتى بسقوط قاس له – وهذا خطر قائم، إذ فقد الدولار في خمس سنوات 25% من قيمته، وفقد القيمة يزيد مخاطر الأزمة- وإما السعي إلى الحد من الاختلالات، لكن هذا يرفع أسعار الفائدة، وإما تقليص الاستدانة وهذا يخفض بقوة النشاط و ون ثمة الغوص في الركود...

3.

يوجد في أصل هذه الأزمة ما يسميه شيسنيه "طور تراكم مديد بلا قطيعة"، أي تراكم لا متقطع للرأسمال – بلا حرب ولا ثورة- منذ 1950. انه أطول طور من هذا النوع في تاريخ الرأسمالية. أصل هذا التمييل (*) ملازم لطبيعة الرأسمالية أي لتراكم أرباح لم ُتستثمر في الإنتاج المباشر للقيمة ولفائض القيمة. أرباح توظف خارج عملية الإنتاج وعبر المعاملات بالأسواق المالية وحدها. وثمة أيضا قطاعان آخران في صلة بالمعاملات المالية يشهدان نفس نمط تحقيق قيمة إضافية valorisation : صناديق المعاشات الخاصة والتدفقات المرتبطة بالريع البترولي.

هذا لأن إنتاج السلع في النظام الرأسمالي محدود دوما بقدرة الأسواق على الامتصاص. ليس لإنتاج المواد والخدمات مردود غير كاف، وبالتالي ُيستثمر في موضع آخر: مقابل دولار واحد أو يورو واحد مستثمر في إنتاج السلع يسعى عدد أكبر إلى تحقيق قيمة في البورصات، وصناديق المضاربة، والمضاربات العقارية، والذهب، والمعاملات المالية والنقدية... انه منطق تراكم الربح الرأسمالي والملكية الخاصة للرأسمال ووسائل الإنتاج.

ثمة أيضا انعطاف نهاية سنوات 70 مع الهجوم المضاد الليبرالي، أو إجماع واشنطن، الذي أفضى إلى ما يدعى" العولمة الرأسمالية"، أي مجتمعا مطبوعا بـ" سيطرة الرأسمال المتجاوزة للدائرة الاقتصادية"، مجتمعَ سوق بانفجار "تسليع" الاقتصاد و " تمييله". لم تأخذ هذه العولمة ُبعدها إلا بإعادة دمج عمالقة، مثل روسيا وبلدان الشرق والصين، في السوق الرأسمالية العالمية عبر سيرورة إعادة الرأسمالية. وقد حفز ذلك بقوة نمو الرأسمالية العالمية لكن رأسمالية تعتمل فيها تناقضات مرتبطة بانفجار الرأسمال المالي ذاك.

لكن هذا الأخير ناتج أيضا عن نمط معين من التراكم منذ زهاء 30 سنة، لا سيما عبر خفض حصة الأجور، أي حصة إنتاج الثروات العائدة إلى العمال، منذ 20 سنة. وبفعل هذا تستحوذ على فائض القيمة هذا، الذي يرتفع أسرع من الدخل الوطني، أقلية ضئيلة من المالكين ساعية بجموح إلى ُفرص توظيفات متزايدة المردود. وقد نتجت عن ذلك وفرة كبيرة جدا للسيولة و الرساميل المالية التي تنفصل عن الاقتصاد الحقيقي والتي لها منطقها الخاص... يظل هذا مشتغلا حتى يصبح الزيحان كبيرا جدا وآنذاك تحدث الأزمة: هذا ما يجري بالولايات المتحدة الأمريكية حيث يوجد منذ سنوات 2000 تناقض بين أبطأ نمو للاقتصاد الحقيقي منذ الحرب العالمية الثانية ( رغم وجود نمو) وأقوى توسع للاقتصاد المالي. إنها حدود نموذج النمو الأمريكي اللاهث حاليا وحتى المنهك.

ميزان قوى عالمي جديد

4.

لكنه انعطاف أيضا بمعنى بروز ميزان قوى عالمي جديد بين الولايات المتحدة وأوربا والبلدان الجديدة، مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا واندونيسيا وأفريقيا الجنوبية وماليزيا. أصابت أزمات سنوات 1990 البلدان المسماة نامية دون غيرها تقريبا: الأزمة المكسيكية في 1994-95، والأزمة الأسيوية في 1997-98، والأزمة الروسية في 1998، والأزمة البرازيلية في 1999، والأزمة الأرجنتينية في 2001-2002... و لا تنفجر الأزمة هذه المرة في الأطراف بل في المركز. بلغت الأزمة في النظام المالي للشمال درجة جعلت الرساميل تهرب نحو بورصات بلدان كالهند والصين والبرازيل. وأصبحت بلدان الشمال مضطرة لقبول إنقاذ مؤسساتها المالية بواسطة « fonds de richesses souverains » بالجنوب. كما تعبر حركات الرساميل هذه في شكل مالي عن تغيرات في الاقتصاد الحقيقي:

تغيرات في توزيع النتاج الداخلي الإجمالي العالمي، فخلال السنوات العشر المنصرمة، قد يكون الناتج الداخلي الإجمالي للصين ضمن النتاج الداخلي الإجمالي العالمي، وفق كل التوقعات، قد تضاعف، منتقلا من 6% إلى 12%. طبعا ليست الإحصاءات بصدد الصين موثوقة، فقد اعترف البنك العالمي في ديسمبر 2007 أن النتاج الداخلي الإجمالي للصين، مقارنا بالقدرة الشرائية ( لجعل ما ُيمكن شراؤه بنفس المبلغ متعادلا) كان مبالغا في تقديره. ففي 2005 لم يكن النتاج الداخلي الإجمالي 8819 مليار دولار بل مليار5333. ولهذا أثر كبير على عدد الفقراء بمقدار عشرات الملايين، لكن الفروق بين هذا الرقم وذاك لا تنال من الميل العام لتطور اقتصاد الصين، الميل الذي يغير التوازنات وميزان القوى بالاقتصاد العالمي.
إن ارتفاع معدلات النمو، وارتفاع إنتاج المواد والخدمات، والتغيرات في قسمة العمل الدولية، كلها جلية. استفادت الصين، "مصنع العالم"، من جملة كاملة من ترحيل وإعادة توطين قسم من جهاز الإنتاج العالمي، لا سيما الأمريكي ومن تصنيع كثيف بالمقاولة من باطن. أدت إعادة التنظيم هذه، في الآن ذاته، إلى تعزيز الرأسمالية الصينية. إنها القوة العالمية الثالثة أو الرابعة. لقد باتت الصين ثالث قوة مصدرة عالمية بعد ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. إنها القوة الثانية في إنتاج تكنولوجيات الإعلام. وإن ظل قسط الاستهلاك ضعيفا، فثمة ارتفاع مذهل للاستثمارات المنتجة لا سيما بالرأسمال القار في البنى التحتية و قطاعات الاقتصاد الأساسية، مع مخاطر "فرط إنمائي" حتى، بارتفاع يفوق 25 % .
تتبوأ الصين المكانة الأولى في تلقي استثمارات الرأسمال الأجنبي المباشرة. وثمة مسألة تستدعي الدراسة والتوضيح: ما الحصة التي يمثلها من الاستثمارات الأجنبية بالصين رأسمال الشتات الصيني بهونغ كونغ وتايوان والرأسمال الصيني- الأمريكي...، الذي يمكن، باندماجه مع الرأسمال المحلي، أن يمد الرأسمال الصيني برمته بقوة كبيرة. تتراوح نسب النمو الاقتصادي بالصين والهند 8 % إلى 9% بينما تتراوح في الولايات المتحدة وأوربا بين 1.5% و 2%. راكمت الصين المصدرة لمنتجات مصنعة احتياطات عملة بكميات مذهلة: ارتفع مخزونها في ديسمبر 2007 إلى أكثر من 1400 مليار دولار. ولديها سوق من 250 إلى 300 مليون فرد.

إن الوزن الاقتصادي من حيث النتاج الداخلي الإجمالي لمجموعة الصين والهند وروسيا والبرازيل يصل كمونا إلى ما يعادل نظيره لدى الولايات المتحدة الأمريكية- أقول كمونا لأنه يعادل وزن "أربع اقتصاديات وطنية " وليس اقتصادا واحدا مع دولة واحدة. إن ما راكمت البلدان الأسيوية و البترولية من احتياطات عملة كبير جدا، ففي متم 2007 بلغ ما لدى البلدان النامية مجتمعة أكثر من 4600 مليار دولار ، بينما لدى البلدان الصناعية أقل من ثلث ذلك المبلغ. وقد وظفت الفوائض التجارية وهذه الاحتياطات من العملة لدى البلدان الأسيوية في سندات الخزينة، وأسهم، وسندات خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية. إنها من يمول عمليا أشكال العجز الأمريكية.

5.

يجب طبعا ألا ُيبخس قدر تبعية عمالقة الاقتصاد العالمي الجدد هؤلاء إزاء الاقتصاد الأمريكي. فما زال هذا الأخير يقوم بدور قاطرة الاقتصاد العالمي، إذ يحقق أكثر من 25 % من النتاج الداخلي الإجمالي العالمي، دون نسيان أوربا التي تقارب ببلدانها السبعة والعشرين 25% إلى 30 % منه. و تظل السوق الأمريكية إحدى الأسواق الرئيسية للإنتاج الصيني. يتوقف أكثر من 35% من النتاج الداخلي الإجمالي للصين على صادراتها، رغم أن بعض الخبراء يرون أن حساسية الصين للصادرات تنخفض. و ليست للسوق الداخلية الصينية قدرات كافية لامتصاص الإنتاج الصيني.

إن ركودا اقتصادا واسعا خلف الأطلسي سيؤدي حتما إلى عواقب على النشاط العالمي وعلى الصين، حتى وإن كان محدودا. لكن الأشد ضغطا على الصين يتمثل في التفاوتات الهائلة، والتوترات العنيفة بين القرية والمدن، وفقر يتقلص طبعا لكنه يظل هاما جدا، و يقدر بمئات ملايين السكان، علما أن الإحصاءات تميل إلى تقليل حجمه.

لكن ثمة توزيعة جديدة بالاقتصاد العالمي تؤدي إلى طرح مشاكل تحليل الأزمة الاقتصادية العالمية بدمج القوى الاقتصادية المنبثقة.

خياران افتراضيان

يكمن قسم كامل من الإجابات على مخرج الأزمة الراهنة في العلاقات بين آسيا و الولايات المتحدة و أوربا .
إما أن تكشف الأزمة المالية الراهنة سيرورة فرط تراكم وفيض إنتاج في كل الاقتصاديات الأسيوية – الصين واليابان وكوريا وتايوان والهند... تطبع تباطؤا عاما للطلب العالمي وآنذاك قد يفضي ذلك إلى أزمة عامة من قبيل أزمة 1929...إن حدود سوق الصين الداخلية، ودفعة تضخم، بنسبة 6% إلى7%، وتزايد التفاوت، وانفجار جيوب الفقر لا سيما بالقرية، ومشاكل الأزمة الغذائية، وديكتاتورية الحزب الشيوعي الصيني التي تعوق مرونة ما للبنيات، كلها عناصر تضغط بالأحرى نحو انفجار الأزمة... لكن ثمة الفرضية الأخرى.
إما أن يجري تعويض انكماش الطلب الخارجي بزيادة الطلب الداخلي وقدرات امتصاص جديدة للإنتاج الصيني من قبل السوق الداخلية، وثمة توجد إمكانات جديدة لإطلاق الآلة الاقتصادية. سيكون العلاج الوحيد لفيض الإنتاج الصيني إعادة توجيه النشاط الاقتصادي من نمو لأجل التصدير إلى نمو أكثر تمركزا على الذات... وإذا كان الأمر كذلك، يمكن لمزاوجة الآليات"المضادة للأزمة" بالولايات المتحدة الأمريكية و أوربا مع القدرات الأسيوية الجديدة أن يحتوي الأزمة. .. يجب بمطلق الأحوال دراسة، ثم دراسة، ما يجري بالصين، سيما أن ثمة نقص في المعارف الداخلية وأن تقاليد تيارنا العالمي وانغراسَه يتركزان بوجه خاص في جملة بلدان أوربية وأمريكية لاتينية. يجب أن يصبح العمل بصدد آسيا أولوية.

6.

إن محور الاقتصاد-العالم يتغير. لكن هذه السيرورات الاقتصادية ُتعبر عن تغيرات في اللوحة العامة للسياسة العالمية، أي عن تغيرات في ميزان القوى العالمي. أ- يندرج هذا الطور من العولمة الرأسمالية في المدى الزمني الطويل في ميزان القوى الذي تدهور بوجه إجمالي لغير صالح عالم الشغل. إن الدكاك الرأسمالي المنطلق في متم سنوات 70، مركبا مع إعادة دمج روسيا وبلدان الشرق والصين في السوق العالمية، أعطى قدرات مبادرة جديدة للطبقات السائدة. إن الإصلاحات الليبرالية المضادة، وتفكيك تقنين العلاقات الاجتماعية مع إدخال تكنولوجيا جديدة، ستؤدي من خلال المرونة والهشاشة إلى تحويل أشكال الاستغلال الرأسمالي. ثمة ارتفاع كبير لخلق تنافس بين العمال في إطار سيرورة تـَشكُل سوق عالمية لقوة العمل.

ب- علاوة على هذا، ثمة أيضا، مع تغير الاقتصاد العالمي، ميزان قوى جديد بين الرأسمال والعمل. من وجهة نظر ميزان القوى الاجتماعي الإجمالي، تجري إعادة توجيه العالم هذه في بلدان متسمة بضعف هيكلي للحركة العمالية المستقلة في أشكال نقابية أو سياسية. تشهد الولايات المتحدة الأمريكية وجود نقابات، لكنها لم تشهد قط وجود أحزاب عمالية جماهيرية. وأدت أشكال التدمير الستالينية إلى سحق ما قد يبقى، أو ينبثق، من أشكال حركة عمالية مستقلة بروسيا وببلدان الشرق. و ثمة في الصين، كما الهند، دمج لمئات ملايين البشر في العمل المأجور، لكنها دون تمثيليات حتى الآن. وحالت دكتاتورية الحزب الشيوعي الصيني حتى اليوم دون تطور منظمات عمالية مستقلة، مع أن النزاعات والانفجارات الاجتماعية تتكاثر في الصين بأشكال جنينية من التنظيم، جمعيات ونقابات. أما بالهند، فالوضع أكثر تعقيدا لأن ثمة بولايات عديدة منظمات شيوعية سابقا منها الموالي لروسيا والموالي للصين...

سيكون وجود وتطور منظمات اجتماعية مستقلة بآسيا، والصين والهند بالخصوص، حاسما لميزان القوى الاجتماعي-السياسي العالمي. إن أشكال الانتعاش السياسي الجزئية بجملة بلدان بالشرق- منها التجدد النقابي، إضرابات ضارية يخوضها جيل عمالي جديد وانبعاث يسار سياسي، لا سيما في بولونيا وروسيا، وكذا نضالات نقابية في سلوفينيا- يجب أن تكون موضوع متابعة منتبهة.

ج- لكن رغم هذه التراجعات و التغيرات، لا تفلح الرأسمالية المعولمة في تثبيت الوضع العالمي. ليس ثمة نظام عالمي جديد:
أولا، لأسباب مرتبطة بالتناقضات الداخلية للعولمة الرأسمالية، لا سيما حدود نمط التراكم الرأسمالي المالي، ومخاطر الحروب...
ثم بسبب مقاومات اجتماعية مزمنة، من نضالات طبقية ابتدائية، و انفجارات أو تمردات ضد غلاء المعيشة، وحركات من أجل التحكم بالموارد الطبيعية، و تمردات من أجل الديمقراطية.
وأخيرا، بفعل أزمات سياسية. أزمات قيادة برجوازية مركبة مع أزمات تمثيل سياسي، يمينا ويسارا، إن لم تكن أزمات مؤسسية تبرز للعيان. وإن رفض بوش، وعجز التحالف الكبير في ألمانيا، والكرنفال الايطالي أو طيش ساركوزي تشهد على هذه الظواهر، وهذا في المراكز الامبريالية.

7.

ان لهذه التمظهرات عواقب على الصعيد السياسة الدولية، حيث أن مصالح برجوازية أمريكية أصابها ضعف ومصالح قوى أوربية تسعى إلى مكانة في هذا التنافس العالمي الجديد، تدفعهم إلى التلاقي في أنظمة تحالفات جديدة، لا سيما بوجه الصين وروسيا. ولا ُيبعد هذا بأي وجه سعي كل برجوازية العدواني إلى حصص سوق جديدة وتطور توترات حمائية في الاقتصاد العالمي، لكن الروابط السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي تميل إلى التوطد. وتمثل العلاقات الجديدة بين فرنسا ساركوزي وأمريكا بوش مثالا جيدا عن هذا الانعطاف أو التغير. كان شيراك ضد الحرب على العراق، وساركوزي معها. لا بل إنه في صدارة المواجهة مع إيران. لكن بوجه عام تؤشر عودة فرنسا المرتقبة إلى حلف شمال الأطلسي ودمج القوة العسكرية الأوربية في الهيئة ذاتها، على نوع إعادة التنظيم الجارية.

إن الولايات المتحدة في عشية انتخابات جديدة ( متم 2008) قد تفضي إلى انعطافات أو تغيرات في السياسة الأمريكية. وسيكون سؤال السياسة الأمريكية والدولية الكبير هو معرفة ما عن كانت القوات الأمريكية ستسحب من العراق؟

الأرجح أن يستمر الاحتلال، وهذا لأسباب عميقة. أكدت الامبريالية الأمريكية في الحقبة الطويلة الأخيرة، سياستها في إعادة الانتشار الاستراتيجي السياسي-العسكري. وكما أشار ارنست ماندل قبل زهاء عشرين سنة، تواجه تلك الامبريالية تناقضا، ولا تساوقا بين ميل اقتصاد الولايات المتحدة وعملتها إلى الانحدار وهيمنة جهازها السياسي- العسكري، المستند على مكانة مركزية للتسلح في اقتصادها. تضفي هذه الميول الثقيلة طابع النسبية على الفروق الصغيرة بين كلينتون وأوباما وحتى ماكين، رغم أن الاتجاه الذي اتخذته الحملة الانتخابية يعبر على نحو ما عن وهن النظام السياسي الأمريكي. لكن المقصود، على خلفية مصالح وسياسة الطبقات السائدة الأمريكية، تعويض ضعف اقتصادي بسياسة عسكرية عدوانية، باحتلال العراق وأفغانستان، ومجابهة مع إيران وبدرجات أقل مع روسيا والصين. تنطوي هذه السياسة أيضا على سياسة "إعادة استعمار" لبعض البلدان بقصد الحفاظ، وحتى توسيع، التحكم بالموارد الطبيعية أو المواد الأولية الإستراتيجية كالبترول.

لكن التفوق العسكري لا يعني، على نحو آلي، النصر العسكري. عادة ما تستعيد وسائل الإعلام تعبير"فيتنام جديدة" للحديث عن وضع الجيش الأمريكي بالمنطقة. إن إدارة بوش موحلة سياسيا وعسكريا على نحو حقيقي. ولا تحقق الولايات المتحدة الأمريكية النصر في الحرب، لا بالعراق، ولا بأفغانستان. و لم تنتصر إسرائيل في حربها ضد اللبنانيين وحزب الله. ولا يمكنهما تكرار "سيناريو عراقي" بإيران. كما تنيخ التوترات بين روسيا، التي تعيد تسليح نفسها، والولايات المتحدة على العلاقات الدولية. وأخيرا تظهر مناطق نزاعات كاملة "غير متحكم بها"، كما في باكستان وأفغانستان أو بعض مناطق أفريقيا. و يخلق هذا عوامل شك ومجهول بالوضع العالمي، مع مخاطر حرب غير مسبوقة. و من وجهة نظر عسكرية، تنبثق عناصر ميزان قوى متعدد الأقطاب بعد نظام عالمي أحادي القطب، مع أن الولايات المتحدة تظل "الرقم واحد".

8.

كما أن هذا الإطار هو ما يجب أن ُتأخذ فيه بالحسبان الظواهر الاجتماعية والسياسية الجديدة التي لا تكتسي شكل تناقضات أو تقاطبات طبقية والتي تطبع، أو ستطبع، تطور الوضع العالمي والتي لن أفصلها لكن لها عواقب كبيرة:

أ‌- بدأت الأزمة البيئية وعواقب احترار مناخ كوكب الأرض تهدد بكوارث جديدة، بيئية واجتماعية وإنسانية. وقد أتينا في هذا المكان على تنظيم ندوة بلورة فكرية حول مسألة المناخ...

ب‌- وجود منظمات، أو تيارات، أو جماعات، دينية، يجب طبعا تحليل خصوصياتها لكن ثمة هنا ميل عام. قد تكون ثمة تيارات دينية تقدمية لكن أغلبية هذه التيارات رجعية بوجه الإجمال. هذا ما يتشكل حول الأوضاع في باكستان وأفغانستان. وتجدر الإشارة إلى أن صعود الظواهر الدينية يمس أيضا بلدان المركز: هجوم ساركوزي على العلمانية، وصعود الإنجيليين بالولايات المتحدة الأمريكية...

ت‌- كما يجب اعتبار الميول إلى تفجر جملة دول بأفريقيا، و أيضا تجدد أزمات أخرى كما في البلقان.

9.

إن لتوحل الولايات المتحدة الأمريكية عواقب دولية، لا سيما بأمريكا اللاتينية. ليس المقصود بخس قدر الضغط الذي لا تزال " الإمبراطورية" تمارسه على قارة لم تكف عن اعتبارها فنائها الخلفي، وهذا ما يذكر به عدوان كولومبيا على فنزويلا و إكوادور. كما يجب دمج العواقب الممكنة لأزمة اقتصادية دولية على القارة الأمريكية اللاتينية مع تدهور للمواقع الأمريكية اللاتينية، سيما في المواد الزراعية المصدرة وبعض المواد الأولية. وهو تدهور سيقوي ضغط الشمال. تجب حتى الإشارة، في الظرفية الراهنة، إلى قدرة المبادرة لدى اليمين الموالي لأمريكا في القارة لا سيما طليعته: نظام أوريبي الكولومبي. إن "خطة كولومبيا" قائمة، سيما أن هزيمة تشافيز في استفتاء 2 ديسمبر تعيد إعطاء الامبريالية الأمريكية قدرات مبادرة، كما تدل محاولة تجميد أموال PVDSA، ولكن أيضا القواعد العسكرية في باراغواي. كما يستمر دعم اليمين "الانقلابي" في بوليفيا أو "الليبرالي-المستبد" في البيرو أو في المكسيك. فشلت منطقة التجارة الحرة للأمريكتين لكن الاتفاقات الثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية وجملة بلدان بأمريكا الجنوبية قد أُبرمت. لكن رغم هذه المناورات وانعطافات الأسابيع الأخيرة في الظرفية الأمريكية اللاتينية لحساب الولايات المتحدة، وكولومبيا وقوات اليمين الأشد رجعية، يجب التأكيد على الضعف الذي أصاب قدرات تدخل الامبريالية الأمريكية الشمالية في القارة. وعلى الصعيد العسكري، يصعب عليها التدخل بالعراق و بأفغانستان والتحضير لتدخلات بأمريكا اللاتينية، وإن واصلت الولايات المتحدة الأمريكية الضغط على أمريكا الجنوبية، فلا جدال أن ثمة ميزان قوى جديد بين الامبريالية الأمريكية و جملة بلدان بأمريكا اللاتينية وليس أقلها شأنا، سيما لصالح مجموعتين من البلدان.

تتكون المجموعة الأولى من البرازيل وأرجنتين وأوروغواي وباراغواي. تمكنت الطبقات السائدة بهذه البلدان، مستفيدة من طور نمو اقتصادي ومن قدرة الحكومات – لولا بالبرازيل، وكيشنر بأرجنتين وتاباري فازكيز بأوروغواي- على التحكم في حركاتها الجماهيرية ودمجها، أو الأصح أقسام كاملة من قياداتها لا سيما قيادة حزب العمال والاتحاد العمال الوحيد بالبرازيل والبيرونية السياسية و النقابية بأرجنتين ( رغم ان لولا قد يكون على يمين كيشنر)، من تحقيق هوامش مناورة جديدة للتفاوض وفرض جملة أهداف اقتصادية على الامبريالية الأمريكية. وتواصل لحسابها الخاص وبطريقتها الخاصة السياسات النيوليبرالية مرافقة إياها بجوانب "مساعدة اجتماعية". ورفضت دمجا معينا في السوق العالمية، لاسيما عبر سياسات الصادرات الزراعية و عبر علاقاتها الخاصة بالنظام المالي الدولي. إن لمجموعة البلدان هذه، مع البرازيل وأرجنتين، مكانة مركزية. المجموعة الثانية التي تفرض اليوم تجربة جديدة من القطع الجزئي مع الامبريالية الأمريكية، تقودها فنزويلا و تليها بوليفيا و إكوادور، والكل مسنود من كوبا. تحاول هذه البلدان، كل بخصوصيته، إرخاء خناق الديون، واستعادة التحكم بمواردها الطبيعية، وتأمين برامج اجتماعية للتغذية والصحة و التعليم، واستعادة سيادتها الوطنية ضد الضغوط الأمريكية والأوربية (سيما الاسبانية). وثمة تحث هذه التغيرات السياسية والمؤسسية دينامية حركات اجتماعية وحركات جماهيرية تواصل العمل بالقارة. وطبعا يعبر الوضع بالبرازيل، مع تفاوتات، عن تراجع بمستوى التعبئة الاجتماعية.

تظل أرجنتين محتفظة على مستوى نضالات قوي ومنظمات نقابية وجمعيات، لكن مع ضعف شديد على صعيد التعبير السياسي. لم تتجاوز النتائج الانتخابية لكتل أقصى اليسار التروتسكية الثلاث نسبة 2%. وفي سيرورات التعبئة البوليفارية، والإكوادورية والبوليفية، تحافظ الحركات الاجتماعية على درجة معينة من النشاط الذاتي. وترتبط هذه الحركات في عدد من البلدان باندفاعة التيارات الوطنية الجذرية أو الثورية.

ومن زاوية النظر هذه، يتقرر مصير أمور كثيرة في فنزويلا . تظل السيرورة الثورية مفتوحة لكن تشافيز يوجد في مفترق طرق: إما أن يتقدم، ويعيد الوصل مع القطاعات الأشد كفاحية، ويلبي المطالب الشعبية الأساسية، وتستأنف السيرورة الثورية البوليفارية مسيرها وتتعمق، وإما يستسلم لضغوط قطاع بكامله من بيروقراطية الدولة وأرباب العمل، بما فيه داخل السيرورة البوليفارية، من أجل التحكم في هذه السيرورة ذاتها وتلطيفها و كبحها. .. و يفقد دعم قطاعات هامة من قاعدته الاجتماعية والسياسية. وُتنبهنا تدخلات بعض القادة النقابيين بالاتحاد الوطني للعمل و تيار ماريا سوسياليستا Marea Socialista بشأن نهج الحكومة الراهن. لكن هنا أيضا كل شيء في حركة...

تتسارع الأزمة في بوليفيا، حيث أن التصويت والدستور الجديد الذي دافع عنه ايفو موراليس والسواد الأعظم من العمال والفلاحين والهنود لم يعترف به اليمين و "الطبقات الغنية البيضاء" المتركزة في المتركزة في سانتا كروز وأقاليم غرب البلد حيث أقدمت أربع مناطق على إعلان حكمها الذاتي. يقف الثوريون إلى جانب حركة ايفو موراليس - الحركة نحو الاشتراكية- من أجل تطبيق هذا الدستور وتلبية الحاجات الحيوية لأفقر سكان بوليفيا.

لكن البلد الأساس هو فنزويلا. إذا ُهزمت السيرورة البوليفارية فسيكون لذلك مضاعفات فورية في بوليفيا وإكوادور ناهيك عن كوبا. ويفتح انسحاب فيدل كاسترو وضعا سياسيا جديدا. . ثمة دوما خطر تدخل مباشر أو غير مباشر يقودنا إلى أن نؤكد، أكثر من ذي قبل، تضامننا مع كوبا ضد الامبريالية. لكن، كما قال فيدل، يكمن الخطر في أن ُتؤكل الثورة من الداخل، وهنا نقاش مفتوح: أي علاقة بالسوق، السير على نهج الصين أم لا، أي مساحات ديمقراطية ثورية... باختصار جملة كاملة من الأسئلة يتعين علينا تتبعها.

10.

تظل أوربا، رغم مكانة أقل شأنا في العالم، وضعف في التنافس الاقتصادي، وشلل سياسي، إحدى الحلبات الكبرى للمجابهة المركزية من أجل الدفاع عن الحقوق وعن المكاسب الاجتماعية. إن لهذه السياسات، بوجه خاص، جملة عواقب في أوربا الرأسمالية، حيث تقوم البرجوازيات الأوربية الرئيسية، بقصد تأمين مكانتها في التنافس العالمي، بالهجوم على "النموذج الاجتماعي الأوربي"، أي في الواقع على أنظمة الحماية الاجتماعية، وحقوق الأجراء الاجتماعية، والخدمات العامة. هذه السياسة مركزة في "الميثاق الأوربي" الجديد الذي يستعيد الخطوط العريضة للدستور الأوربي المرفوض في 2005 من قبل شعوب فرنسا وهولندة. وقد تعزز بالدمج الأوربي لبلدان شرق أوربا.

هذا الدمج المفضي إلى تفكيك جملة مكاسب اجتماعية، ومن ثمة، يجر إلى أسفل مجمل شروط عمل وحياة الطبقات الشعبية بهذه البلدان. وقد أعلن ذلك صراحة بفرنسا إيديولوجيو حكومة ساركوزي بالقول إنه يجب تدمير برنامج المجلس الوطني للمقاومة لعام 1945 وكل المكاسب الاجتماعية المحققة آنذاك. يعلن ساركوزي" انه يريد ان يصلح أكثر من مارغريت تاتشر"... لكن ليس لديه لا ميزان القوى، ولا الأدوات السياسية لتطبيق برنامجه. و تضغط أزمة القيادة البرجوازية والتمثيل السياسي على الحياة السياسية لبلدان عديدة. تواصل الطبقات السائدة تسجيل جملة نقط، لا سيما بتطبيق إصلاحها المضاد للمعاشات وأنظمة التقاعد الخاصة، وتقليص الأجور، وضرب المكاسب الاجتماعية، لكنها لم تهزم بعد الحركة العمالية. ثمة ببلدان مثل فرنسا وايطاليا وألمانيا مقاومات اجتماعية. و ليس ثمة هزيمة كبرى للحركة العمالية الأوربية من قبيل هزيمة "عمال المناجم الانجليز" في سنوات 1980، ومازالت أمامنا نضالات هامة ومواجهات كبيرة...

لكن يجب إبداء 3 ملاحظات:

النضالات ذات طابع دفاعي. ولا تتمكن من قلب مجرى الإصلاحات المضادة ولا حتى وقفها. وتظهر في شكل انفجارات أو نضالات جزئية. قد تزعزع استقرار الأنظمة القائمة... لكن هذا لا يوقف سيرورة الإصلاح المضاد.
هذه النضالات متفاوتة بأوربا، حسب البلدان. يظل مستوى النضالات مرتفعا إلى حد ما بفرنسا- يجري الكلام عن "الاستثناء الفرنسي" في أوربا- و أيضا في ايطاليا التي شهدت في نهاية سنوات 1990 ومطلع سنوات 2000 تركيبا بين أيام إضراب عام للحركة النقابية وحركة قوية من أجل عولمة بديلة وضد الحرب. ومؤخرا جرى إضراب مهم لعمال سكك الحديد بألمانيا، رغم انه لم يحظ بتضامن النقابات الأخرى وقسم هام من اليسار النقابي. ويظل مستوى النضالات الاجتماعية في اسبانيا والبرتغال بالغ الانخفاض. وببلدان شمال أوربا، ورغم الهجمات القوية، يبقى الوضع تحت تحكم الحكومات وقيادات الحركة النقابية ، ومستوى النضالات منخفضا.
وبالبلدان التي بها مستوى معين من النضالات، تجب الإشارة إلى وضع متناقض: ثمة تفاوت حقيقي بين مستوى النضال ومستوى الوعي. قد تكون ثمة نضالات أو انفجارات جزئية لكن ليس ثمة نمو عضوي لموجة نضالات طبقية – مستوى إجمالي للنضالات، ارتفاع أعداد المنظمين بالنقابات، والأحزاب العمالية، أو تيارات سياسية كفاحية أو ثورية- كما كان في نهاية سنوات 1960 أو 1970 بأوربا، لاسيما جنوبها. وبفعل هذا تواجه النضالات صعوبة في إيجاد تعبير سياسي كفاحي طبقي.

11.

تواجه الحركة العمالية والحركات الاجتماعية، في الظرف العالمي الراهن، توجهين كبيرين بوجه العولمة الرأسمالية: توجه تكيف مع الرأسمالية الليبرالية وتوجه آخر - توجهنا نحن- خط مقاومة، ونضال، ومعركة معادية للرأسمالية. لدينا في فرنسا صيغة للتعبير عن هذا الوضع: "ثمة يساران". طبعا ثمة في الواقع تنويعات عديدة من "اليسار"، لكننا نواجه حقا خيارا أساسيا: قبول هذه العولمة الرأسمالية أو رفضها!

الغالبية الكبرى للقيادات التقليدية للحركة العمالية – اشتراكية ديمقراطية و ستالينية سابقا أو ما بعد ستالينية- أو الحركة الوطنية البرجوازية ببعض البلدان النامية، اختارت التكيف. أنها نتيجة سيرورة كاملة من الاندماج بالمؤسسات وفي النظام الرأسمالي. لكن سيرورة الاندماج في العولمة الرأسمالية هذه تفضي إلى تغيرات نوعية، إلى تغيرات بنيوية، لكل هذه التشكيلات السياسية، وإلى روابط أكثر فأكثر قوة لا مع المؤسسات وحسب بل مع الرأسمال. والدليل ماثل في اختيار ستراوس كان ( من أبرز قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي) بصندوق النقد الدولي! إن متطلبات العولمة الرأسمالية تجعل هوامش المناورة لبناء مساومات اجتماعية بين الطبقات السائدة والحركات الإصلاحية متقلصة جدا. توصي المجموعات الاقتصادية الكبرى، والأسواق المالية، وقمم الدولة القيادات الإصلاحية بقبول الإطار الذي يمليه السعي إلى أرباح قصوى، عبر تمييل متزايد للاقتصاد العالمي. وبفعل هذا، تتحول الاشتراكية الديمقراطية إلى اشتراكية – ليبرالية. ومن اشتراكية ديمقراطية تقايض، بوجه صراع الطبقات، دعمها للنظام الرأسمالي بتحسينات اجتماعية، جرى الانتقال إلى أحزاب اشتراكية أضحت " أحزابا إصلاحية بدون إصلاحات" وحتى " أحزاب إصلاحات ليبرالية مضادة" . وفي أوربا يقدم الاتحاد الأوربي إطار التعاون بين الديمقراطية المسيحية والاشتراكية الديمقراطية، لتطبيق الإصلاحات المضادة في المعاشات وأنظمة التقاعد وتصفية أنظمة الحماية الاجتماعية والخدمات العامة. ولا يستبعد هذا تركيبا بارعا بين برامج مساعدة للأشد فقرا- نظام دخل أدنى، برنامج "بورصة الأسرة" بالبرازيل...- وإصلاحات مضادة تهاجم النواة الصلبة للحقوق والمكاسب الاجتماعية العمالية.

لكن هذه الخيارات جلية أكثر على الصعيد السياسي، أي في تطور الاشتراكية الديمقراطية الأوربية نحو "طريق ثالث" بين اليمين واليسار، وفي الدعوة - حاليا بفرنسا وبايطاليا- إلى تحويل الأحزاب الاشتراكية التاريخية إلى أحزاب ديمقراطية على الطريقة الأمريكية... هذا ما شهدنا أيضا بالبرازيل، حيث اجتاز حزب الشغيلة في 15 سنة فقط ما اجتازته الاشتراكية الديمقراطية التاريخية في زهاء قرن: من حزب طبقي تحول حزب الشغيلة إلى حزب اشتراكي- ليبرالي. ولا يستبعد هذا التطور، مرة أخرى، سياسات مساعدة تمد تلك الأحزاب بقاعدة اجتماعية.

يندرج هذا التطور الاشتراكي- الليبرالي ضمن ميل عام. وما زال الأمر في جملة بلدان سيرورة غير مكتملة. ومن جهة أخرى، تحتاج الطبقات السائدة في نظام سياسي تناوبي إلى "إمكان الاختيار بين اليمين واليسار". لذا ليست هذه التشكيلات الاشتراكية- الليبرالية أحزابا برجوازية مثل الأخرى. و تظل "انعطافات" إلى اليسار ممكنة لإنقاذ المصالح الهائلة لأجهزة بيروقراطية. تلك حال الحزب الاشتراكي الألماني، لكن في حدود متلائمة دوما مع مسار الرأسمالية العالمية الراهن. وعلى صعيد آخر، تستمر فروق بين اليمين واليسار، لا سيما في مدارك قطاعات شعبية، لكن بوجه الإجمال تشهد الاشتراكية الديمقراطية وحلفاؤها، بكل مكان، سيرورة اندماج في العولمة الرأسمالية وحركة "نحو اليمين".

تسعى جملة قوى إلى التميز عن القوى الاشتراكية - الليبرالية مثل الأحزاب الشيوعية، وبعض التشكيلات الايكولوجية أو أحزاب إصلاحية يسارية. وهي تقول إنها "مناهضة لليبرالية". يكمن المشكل في ان اندماجها الخاص في المؤسسات أو خضوعها في نظام تحالفات مع القوى الوطنية البيرونية [بالأرجنتين- م]، أو الاشتراكية –الليبرالية، بالنسبة للأحزاب الشيوعية أو الخضر، يقودها إلى البقاء في حدود التصريحات المناهضة لليبرالية لكن مع المشاركة بجلاء في التحالفات البرلمانية أو الحكومية مع يسار الوسط أو الاشتراكية-الديمقراطية: تلك حال الحزب الشيوعي الفرنسي، و Die Linke بألمانيا أو حزب إعادة بناء الشيوعية في ايطاليا.

12.

وفي القطب الآخر باليسار، ثمة القوى الرافضة للعولمة الرأسمالية، والمقاومة والمدافعة عن توجه معاد للرأسمالية. مشروعنا، ويسارنا، هو يسار معاد للرأسمالية، يسار ذو تقاليد ثورية، يسار قطع مع الرأسمالية. في هذا الإطار نعتقد أن بمتناولنا مرحلة جديدة في بناء أحزاب معادية للرأسمالية واسعة جديدة. "حقبة جديدة، برنامج جديد، حزب جديد" هذا قولنا في مطلع سنوات 1990 ومنتصفها. نعتقد أن العولمة الرأسمالية وتناقضاتها الخاصة وعواقبها على تطور الحركة العمالية شاهدة على هذه الحقبة الجديدة. إن الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية تعطي، من زاوية نظر معينة، مادة تجسيد هذا المشروع. ثمة مزيد من تناقضات النظام الداخلية، ومزيد من مساحات مفتوحة بفعل التطور اليميني للقيادات التقليدية، ومقاومات اجتماعية متواترة بجملة بلدان، وتطور تجارب جديدة لتشكيلات إصلاحية يسارية أو معادية للرأسمالية... ليس المقصود في هذه الحقبة التاريخية الجديدة طرح مشكل بناء منظماتنا وحسب، بل المقصود إعادة الاشتغال على منظورات إعادة تنظيم وإعادة بناء الحركة العمالية والحركات الاجتماعية، الجمعيات والنقابات. و تنطرح مشاكل أزمة القيادة في بعدها الأوسع: الوعي، النشاط الذاتي، البناء ، التنظيم. يجب أن ُتعاد، عبر جملة نضالات مقاومة، صياغة مشروع جديد، ومطالب جديدة، وأشكال تنظيم جديدة تأخذ أفضل ما في الحركة العمالية القديمة وتستغني عن الأسوأ. إن محور التنظيم الذاتي والتحرر الذاتي في كل أشكاله حاسم في عمليات إعادة البناء هذه. لكن ينطرح كذلك مشكل بناء أحزاب معادية للرأسمالية جديدة... طبعا، يتوقف هذا على مراكمة القوى الثورية أو المعادية للرأسمالية، وليس ثمة خط عالمي و لا قاري لبناء الحزب. ليس ثمة ما هو آلي، لكن تنبثق -على قاعدة التجارب الأخيرة، لا سيما بالبرازيل- و يجب التأكيد على الثمن الباهظ الذي دفعنا في البرازيل ولكن أيضا على ما تعلمنا من البرازيل- وايطاليا وفرنسا الخطوط البرنامجية والسياسية العريضة لهذه الأحزاب الجديدة.

13.

نريد بناء أحزاب معادية للرأسمالية تعارض وتعترض على الأزمة الراهنة للرأسمالية، ليس لإصلاحها أو الدفاع عن رأسمالية ذات وجه إنساني أو مهاجمة أوجه إفراط الليبرالية للعودة إلى رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل لمهاجمة منطق الربح الرأسمالي. برنامج جديد ضد العولمة الرأسمالية. برنامج عمل أو برنامج انتقالي معاد للرأسمالية ومدافع عن المطالب الآنية ( الأجور، التشغيل، الخدمات العامة، توزيع الأرض، التحكم بالموارد الطبيعية، النسوانية، الايكولوجيا بما هي بعد أساسي)، والديمقراطية (مشكل السيادة الشعبية والوطنية بالبلدان التابعة، مسألة السكان الأهليين بأمريكا اللاتينية)، و الانتقالية التي تفضي إلى ضرورة توزيع مغاير للثروات و إعادة نظر في الملكية الرأسمالية للاقتصاد.

يتطلب تطبيق هذه البرامج حكومات في خدمة العمال مستندة على التعبئة والنشاط الذاتي للطبقات الشعبية. تستتبع هذه المعركة، وهي اليوم معركة مركزية- رفض كل مشاركة أو دعم لحكومات اشتراكية –ليبرالية لتدبير شؤون الدولة والاقتصاد الرأسمالي. هذا ما يفصلنا عن مشاريع Die Linke وحزب إعادة بناء الشيوعية والأحزاب الشيوعية المنضمة إلى حزب اليسار الأوربي أو عن سياسة أغلبية تيار ديمقراطية اشتراكية بالبرازيل ...

على هذا النحو أصبحت من جديد مسالة المشاركة وعدمها في هذا النوع من الحكومات مسألة أساسية في إستراتيجية السلطة بأوربا كما ببلدان أمريكا اللاتينية الرئيسية.

لكن لهذه الأحزاب التي نسعى إلى بنائها مرجعية متمثلة في ما كان تروتسكي يسميه "فهما مشتركا للإحداث والمهام"، ليس كامل البرنامج وليس التاريخ كله بل مرجعيات إستراتيجية وبرنامجية صلبة بما يكفي للبناء على المدََيَـيْن المتوسط و الطويل. لا ننطلق من معايير إيديولوجية أو تاريخية لتحديد هذه الأحزاب، بل من مرجعيات أساسية مرتبطة بصراع الطبقات وبأفضل التقاليد الثورية، من أجل بلورة برنامج انتقالي إلى الاشتراكية. نريد أن تكون هذه الأحزاب تعددية، وتكون مكانا للتلاقي و تجميع كل التيارات والمناضلين المعادين للرأسمالية. ويشكل الماركسيون الثوريون تيارا داخل هذه الأحزاب. لكن يجب أن نسير أبعد، مع إبقاء جملة قضايا إستراتيجية و برنامجية مفتوحة، و تجب إعادة الاشتغال على المشروع الاشتراكي والشيوعي و تبوء مكاننا في النقاش حول اشتراكية القرن 21. تلك صيغ جديدة تحاول الإجابة على الحقبة التاريخية الجديدة. هذه المرجعيات هي ما يشكل أساس الأحزاب المعادية للرأسمالية التي ُتبنى – مثل الحزب الجديد المعادي للرأسمالية بفرنسا، و سينسترا كريتيكا (اليسار النقدي) بايطاليا، والتحالف الأحمر والأخضر بالدنمرك، وكتلة اليسار بالبرتغال وحزب الحرية والاشتراكية بالبرازيل أو تجارب أخرى قد تنبجس في السنوات المقبلة. وفي هذا الإطار أيضا ُنعد الندوة حول مايو 68 في مايو 2008 في باريس.

(*) نستعمل لفظ التمييل كمقابل للفظ الفرنسي financiarisation ، بقصد استبعاد الالتباس مع التمويل financement . (المعرب)

تعريب : جريدة المناضل-ة