نظرية الديمقراطية المغربية -2-


بلكميمي محمد
2008 / 11 / 7 - 09:35     

4- الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة الواحدة
ان المجتمع المغربي الحديث العهد بالاستقلال أي الخارج للتو من احشاء الاستعمار الكولونيالي لم يكن في شموليته مجتمعا مدنيا ، بل كان منقسما على نفسه الى مجتمعين : مجتمع مدني .. و مجتمع ماقبل مدني .. أي مجتمع طبقي بورجوازي حديث ، ومجتمع ماقبل طبقي بورجوازي قديم .
ان نزوع المجتمع المدني الحديث هو التطور ، لكن تطوره مستحيل ، بدون تقهقر وتراجع المجتمع ماقبل المدني القديم ، فالاول لايمكن ان يتطور الا على حساب الثاني . وهذا شيء طبيعي تماما . فالمجتمع المدني بوصفه حاملا ، لنمط انتاج وعلاقات انتاج وقيم ، من طراز جديد ، فهو بالتالي لايخلق كل ذلك من العدم .
بل يعمل فقط على تحويل القديم الى الجديد ، ولذلك فان المجتمع الماقبل المدني ، الذي هو بمثابة النفي والتجاوز للاول . فالعمال المأجورون مثلا ، الذين هم عماد المجتمع المدني الجديد ، لم يخلقهم هذا الأخير من بطنه . بل هم نفس الفلاحين الذين كانوا عماد المجتمع الماقبل مدني القديم ، أي ان كل ماحصل ، هو تحول العمل من شكله الماقبل راسمالي العتيق ، الى الشكل الراسمالي الحديث .
كذلك فان الملكية البورجوازية ، في اصلها ، هي مجرد انتقال شكل قديم للملكية الى شكل جديد .
واذن .. لان المجتمع المدني المغربي ، لايمكنه ان يعيش ويتطور ، الا على حساب تقهقر وفناء المجتمع الماقبل مدني المغربي ، فلذلك فان العلاقة بينهما هي علاقة صراع وجود . اما بعض الاقتصاديين الاوربيين والمغاربة على السواء ، الذين طالما روجوا للاطروحة القائلة ، باستقلالية وتعايش الزراعة العصرية الراسمالية مع الزراعة التقليدية ، فهذا محض خرافة ايديولوجية لاعلاقة لها بالعلم .
ان المجتمع المدني المغربي ، الخارج من احشاء العهد الكولونيالي ، والمرتكز على الانتاج البضائعي والراسمالي ، لم يكن مطروحا امامه في تلك الشروط سوى طريقا واحدا : طريق التطور الراسمالي .
لكن هذا الطريق الواحد ، كان يحمل موضوعيا شكلين متعارضين لنمط الانتاج الراسمالي : شكل راديكالي وشكل اصلاحي .
ان الشكل الراديكالي كان يعني ، تفكيك الملكية الاقطاعية ، والاستيلاء الفوري على اراضي المعمرين الاوربيين ، ثم توزيع الملكية العقارية على جماهير الفلاحين ، في افق تجميعهم في تعاونيات عن طريق الاقناع والتجربة .
هذا الشكل الراسمالي الراديكالي ، كان سنده الطبقي هو الطبقة الوسطى المغربية ، المتحالفة مع الطبقة العاملة .
اما الشكل الراسمالي الاصلاحي ، فكان يعني من جهة الحفاظ على الملكية العقارية الكبرى ، مع اعادة هيكلتها على اسس راسمالية . ومن جهة اخرى تفويت اراضي المعمرين الاوربيين الى الملاكين العقاريين الكبار المغاربة.
وهذا الشكل الاصلاحي ، كان سنده الطبقي هو الملاكون العقاريون الكبار ، المتحالفون مع البورجوازية المغربية الكبرى .
بالطبع كان لكل شكل من الشكلين المتعارضين ، مواقفه المتعارضة ايضا ، اتجاه الراسمال الامبريالي العالمي ( والفرنسي خاصة ) ، لكن هذا لايعني ابدا ، كما دابت العديد من الاوساط في صفوف الحركة التقدمية المغربية على القول ، بان الشكل الراديكالي كان يستهدف القضاء على التبعية ، فهذا خطأ ، وبكل بساطة لم يكن موضوعيا في مقدوره تحقيق ذلك الهدف . لان جوهر التبعية بالنسبة للبلدان المتخلفة ، يكمن في حد ذاته ، في البنية التحتية الراسمالية الموروثة عن المرحلة الكولونيالية ، وفي امتدادها السياسي الذي هو جهاز الدولة ، الموروث ايضا عن العهد الاستعماري.
من هنا لم يكن التعارض بين جوهرين ، جوهر راسمالي ، بل بين شكلين لجوهر واحد هو الجوهر الراسمالي الموروث ، فبينما كان الشكل الاصلاحي ، يريد تطوير الراسمالية المغربية على قاعدة التبعية ، كان الشكل الراديكالي يسعى الى تطويرها ، على قاعدة الحد من التبغعية الى الحدود القصوى الممكن ان يتحملها نظام راسمالي كمظام راسمالي في بلد متخلف .
وفي تلك الشروط التاريخية المتولدة عن الاستقلال .. شروط غياب الطبقة العاملة المغربية ، المنظمة والمستقلة ايديولوجيا وسياسيا ، كان اقصى ما يمكن ان يطرحه المجتمع المغربي موضوعيا ، هو المشروع الراسمالي الراديكالي ، من هنا ثوريته التاريخية .
هي المرحلة التاريخية التي اعقبت مباشرة استقلال المغرب ، كانت الطبقتان الرئيسيتان الممثلتان للشكلين الرأسماليين المتعارضين ، وهما الطبقة الوسطى ممثلة الشكل الراديكالي ، والملاكون العقاريون ممثلو الشكل الاصلاحي ... كانتا تتمتعان بتوازن طبقي ، كنتيجة لنضالهما المشترك ضمن الحركة الوطنية المعادية للوجود الكولونيالي .
ان هذا التوازن الطبقي قد انعكس سياسيا على جهاز الدولة في شكل توازن سياسي . لذلك يمكن القول : في هذه المرحلة ، كانت الدولة السياسية محايدة بين الطرفين . وهذا مايفسر واقع الحريات السياسية والنقابية التي كانت تتمتع بها الجماهير ، وجرأة اقطاب الحركة التقدمية على توجيه النقد اللاذع للنظام ، وتمكن القوى التقدمية من تشكيل حكومة خاصة بها ذات برنامج اقتصادي جريء .
لكن الدولة السياسية المحايدة ، هي بالطبيعة ، دولة انتقالية غير قارة . فالتعارض بين الشكل الراديكالي للمشروع الراسمالي ، والشكل الاصلاحي ، هو تعارض عميق يقوم على تناقض عدائي .
اذ يستحيل تطبيق المشروع الراديكالي ، بدون تفكيك وتدمير الملكية الاقطاعية ، وبين الاستيلاء الفوري على اراضي المعمرين الاجانب ، وبدون توزيع الاراضي المنتزعة من الاقطاع المغربي والراسمال الفرنسي على جماهير الفلاحين المتعطشين للارض .
كما يستحيل تطبيق المشروع الاصلاحي ، بدون الحفاظ على الملكية الاقطاعية واعادة هيكلتها على اسس راسمالية ، وبدون تفويت الجزء الاعظم من اراضي المعمرين الاجانب الى الملاكين العقاريين الكبار المغاربة ، وبدون بالتالي حرمان جماهير الفلاحين من الارض .
ان هذا الصراع الطبقي الدائر فوق الارض وحول الارض ، لايمكنه الا ان ينعكس سياسيا فوق جهاز الدولة ، الذي يتحتم عليه الخروج من حياده ، للانحياز بشكل صريح الى احد الطرفين المتصارعين .
لقد كان ذلك الصراع في حاجة الى حسم ، اما في هذا الاتجاه او ذاك ، ولقد تم حسمه لصالح الملاكين العقاريين الكبار ، والبورجوازية الكبرى ، ومن ورائهما الراسمال العالمي والفرنسي خاصة .
لقد قيل الكثير عن اسباب هزيمة المشروع الراديكالي ، هناك من تحدث عن الغموض الايديولوجي لدى الطرف المتقدم ضمن الحركة الوطنية ، وهناك من تحدث عن السهولة التي تم بها حل جيش التحرير المغربي ، وهناك من تحدث عن الشرخ العميق الذي احدثه الانشقاق في حزب الاستقلال ، وهناك من تحدث عن مناورات ومؤامرات الاستعمار .
ان كل هذه التفسيرات صحيحة ، لكنها تبقى مجرد تفسيرات سطحية ، لانها هي نفسها في حاجة الى تفسير ، ولانها لم تنفذ الى جوهر المسالة الحاسم .
وهذا الجوهر لم يكن شيئا اخر غير جماهير الفلاحين انفسهم ، اصحاب المصلحة الاولى والمباشرة في نجاح المشروع الراديكالي . اذ في تلك المرحلة التاريخية الدقيقة ، ، في غمرة الحماس الشعبي العارم الذي هز جوارح الوطن المستقل ، وفي مناخ سياسي جماهيري اربك القوى المحافظة واطلق مبادرات الشعب من عقالها الكابت .. في هذه الشروط المؤاتية اذن ، ظل الصراع الطبقي في البادية المغربية خافتا . لم نشاهد حركة فلاحية جماهيرية ، تبادر بالاستيلاء على اراضي المعمرين الاوربيين ن رغم ان تلك الاراضي في الاصل اراضيها ، اغتصبها منها المستعمر بقوة الحديد والنار .
ولم نشاهد الفلاحين يبادرون بالاستيلاء على اراضي الاقطاع ، رغم انهم عانوا اشد انواع القهر والاستغلال ، على يد رموز الاقطاع المغربي المتحالف مع الاستعمار الكولونيالي .
ان عدم تدخل البادية المغربية ، بكل ثقلها وعمقها ، في الصراع الدائر حينئذ بين الخيارين المتناقضين المطروحين ، كان اذن بمثابة المقتل الذي اصاب في الصميم الخيار الراديكالي .
اما اسباب ذلك فتتكثف في سببين رئيسين : سبب حديث العهد له صلة بالمرحلة الكولونيالية ، وسبب قديم يعود الى قرون خلت .
بالنسبة للاول : ان تدمير علاقات الانتاج القديمة ، وهو الشرط الضروري لحصول المستعمر على ضيعات راسمالية ، ادى الى تفكيك النظام الجماعي القديم ، مما اضعف قدرة الفلاحين على التحرك بشكل منظم وجماعي .
وبالنسبة للثاني : ان العلاقات البطريركية الابوية ، التي نسجها الاقطاع المغربي منذ قرون مع الفلاحين ، ساهمت الى حد كبير في تخلفهم الثقافي وفي تبليدهم السياسي .( مهما مايمكن ان يقال مثلا عن الجهاز الاداري ، لايمكن انكار هذه الحقيقة : في اول دستور للمغرب المستقل ، الذي تم الاستفتاء عليه شعبيا ، في وقت كان الصراع لايزال محتدما بين الخيارين المتعارضين ، كانت قدرة الفلاحين العقاريين في التاطير الايديولوجي والسياسي للفلاحين ، واضحة في النتائج التي اسفر عليها ذلك الاستفتاء ) .
ان جيش التحرير المغربي الذي كان وحده في تلك المرحلة ، مؤهلا الى تثقيف الفلاحين ورفع وعيهم وتجذير مبادئهم السياسية ، كان هو نفسه يعاني من القصور السياسي ، بسبب الظروف التاريخية التي لم تسمح له بالنمو والتطور ، وبالتالي اكتساب الخبرة السياسية والنظرية من خلال تراكم الخبرة الكفاحية .
ان الصراع بين الطريق الراديكالي والطريق الاصلاحي ، لبناء الراسمالية في المغرب ، قد تم حسمه من حيث الجوهر لصالح الاتجاه الثاني منذ السنوات الخمس الاولى التي اعقبت الاستقلال ، أي عمليا منذ حل حكومة عبد الله ابراهيم ، وهي الفترة التي توافق تشكل القوات العسكرية والبوليسية للدولة المغربية الجديدة ، وحل تنظيمات المقاومة وجيش التحرير .
اما كون الوضع السياسي ظل يحتفظ ببعض مظاهر الانفتاح ، مثل البرلمان ، الى حدود منتصف الستينات ، فذلك لم يكن يعبر ابدا عن توازن سياسي – طبقي ( بين الاتجاهين المتناقضين ) للمرحلة القائمة ، بل عن رواسب توازن تنتمي لمرحلة سابقة .
وفي الحقيقة ، ان الملاكين العقاريين الكبار ، بع ان حسموا الصراع السياسي لصالحهم ، لم يكن بوسعهم التقدم نحو انجاز برنامجهم الاقتصادي – الاجتماعي ، بشكل سريع وكامل ، الا بعد تشطيب جيوب مقاومة خصومهم المعرقلة لاندفاعهم . وفي تلك الظروف بالذات ، كان البرلمان يمثل احد الجيوب الرئيسية للمقاومة . اذ كان التحالف بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، الميتفيد من التناقضات التي تلغم جبهة الدفاع عن المؤسات الدستورية ، قد تمكن في بعض المناسبات من كسب بعض اصوات الجبهة ، وبالتالي حرمان الحكومة من الاغلبية اللازمة لتمرير سياستها .
ان طبيعة تلك المرحلة التاريخية ، كانت تحتم موضوعيا على ممثلي النهج الراسمالي الاصلاحي ، التحكم في الوضع بقبضة من حديد ، لفرض توجههم الطبقي ، ولقد كان البرلمان ومظاهر الانفتاح الاخرى ، يشكلان تناقضا مباشرا مع الحاجة الى ذلك التحكم ، لذلك وجب تشطيبهما ، وسيتم تشطيبهما في اول فرصة مواتية .
في 23 مارس 1965 ، ستنفجر في الدار البيضاء مظاهرات التلاميذ والجماهير العاطلة عن العمل . وبكل برودة، سينزل الجنرال اوفقير الى الشارع ، بدباباته ومصفحاته ، ليشرع في سحق وحصد الاطفال والشباب بدون رحمة ولا شفقة .
وبعد ذلك سيتم الاعلان الرسمي ، عن حل البرلمان ووقف العمل بالدستور .
لقد كان الملاكون العقاريون الكبار وحلفاؤهم ، في حاجة الى قبضة من حديد ، لحفظ امنهم وتامين الغطاء الواقي لصيرورة صعودهم الطبقي . ولقد كانت الاوفقيرية هي تلك القبضة الحديدية ، وبذلك تحقق الانسجام والتطابق ، بين مجتمع مدني في طور التشكل ، تقوده وتبنيه طبقة بورجوازية اصلاحية صاعدة ، على حساب تقهقر المجتمع الماقبل المدني القديم ، وكذلك على حساب تراجع المشروع الراسمالي الراديكالي ، وبين الشكل الاستبدادي لدولة نفس الطبقة البورجوازية الصاعدة .
ان الدولة الاستبدادية لم يصنعها اوفقير ، وانما صنعتها طبقة اوفقير ، ليست دولة اوفقير هي التي اشاعت الاستبداد السياسي على المجتمع المدني ، بل بالعكس ان المجتمع المدني ، في تلك المرحلة المحددة من تطوره ، هو الذي جعل الشكل الاستبدادي للدولة المغربية ضروريا . فلو لم يوجد شخص اوفقير ، لاوجد المجتمع المدني شخصا اخر يقوم بنفس دوره ، فالشكل السياسي للدولة ، ليس سوى تعبيرا وانعكاسا لمستوى تطور المجتمع المدني ، الذي هو بدوره تعبير عن مستوى تطور الطبقة السائدة فيه .
لذلك اذا كانت الدولة باقية وثابتة ، فبالعكس ان اشكالها السياسية زائلة ومتغيرة ..
من الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة السائدة ، خرج نقيضه الديمقراطي لدولة نفس الطبقة ، كيف حدث هذا ؟


5 - الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة

في النصف الثاني من السبعينات ، وقع تحول كيفي على الشكل السياسي للدولة المغربية ، اذ في هذه الفترة ، تم الانتقال من الشكل الاستبدادي الذي عرفته مرحلة حالة الاستثناء الى شكل ديمقراطي .
ان الشكل الديمقراطي الجديد ، يتجلى في الحد من سلطة الحكم المطلق ، الامر الذي سمح للمجتمع المدني بالمشاركة في تسيير شؤون الدولة ، عن طريق انتخاب مؤسسة برلمانية ، مكلفة بسن القوانين التشريعية ، وتحديد الميزانية العامة والمخططات الاقتصادية ، ومراقبة موظفي الدولة ... الخ .
ان هذا الوضع الجديد ، هو الذي سمح للحزب الشيوعي المغربي ، بتطبيع علاقته مع الدولة ، ويرفع المنع الذي تعرض له الاتحاد الاشتراكي بعد احداث مارس 1973 ، والغاء الحظر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، ومنح الشرعية القانونية لمنظمة مثل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ، التي تشكل الان تيارا داخل حزب الاشتراكي الموحد ، والسماح لصحافة المعارضة بالنشاط ، والسماح بتاسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ( ك.د.ش)
والسماح ايضا لجمعيات ثقافية متنوعة .
هذه المظاهر الديمقراطية واقعية ، ولايمكن لاي احد ، يريد تحليل الواقع بشكل علمي ، ان ينكرها .
ذلك ان منطق « إما .. وإما » الذي سخر منه هيكل عن حق ، منذ حوالي ثلاثة قرون من الزمن ، هو منطق تجريدي لاقيمة علمية له .
ان اصحاب ذلك المنطق ، يسقطون بالضرورة ضحية لهذا الخطا النظري الكبير : الخلط بين الديمقراطية كواقع مجرد ، وبين الديمقراطية كشكل ملموس ، يتقمصه ذلك الواقع المجرد في لحظة محددة . وحين يحصل ذلك الخلط، يتم اختزال الديمقراطية كلها في شكلها المثالي الاوحد ، بحيث يصبح ذلك الشكل المثال هو معيار التمييز بين وجود الديمقراطية وانعدامها .
لكن مقولة الديمقراطية ، شانها في ذلك شان كل المقولات الاخرى ، المنطقية والغير منطقية ، لايمكن ابدا ان تسجن نفسها في شكل وحيد وواحد . فالديمقراطية تغير جلدها باستمرار . ولذلك ليس هناك الديمقراطية ، بل هناك اشكال الديمقراطية . هناك الشكل الديمقراطي ذو هذا المضمون الطبقي او ذاك ، كما ان هناك الشكل الديمقراطي البدائي ، والمتطور ، والمتكامل .
والعلاقة بين تلك الاشكال الثلاثة ، هي علاقة صيرورة تاريخية ضرورية ، لاعلاقة ارادة سياسية مجردة . فالقول مثلا بامكانية الانتقال المباشر ، للنظام المغربي ، من طور الاستبداد الى طور الديمقراطية ، بدون حلقات وسطى ، كالقول بامكانية تحويل الطفل الرضيع الى رجل كامل النضج ، بواسطة قفزة نوعية سريعة . فهذا النوع من القفزات ، ان كان موجودا فعلا في عالم السحر والاسطورة ، فلا وجود له ، لسوء الحظ او حسنه في العلم والتاريخ .
ان الشكل السياسي للدولة المغربية الحالية هو شكل ديمقراطي ، هذا واقع موضوعي قائم . لكن اية ديمقراطية نقصد ؟ تلك هي المسالة .
هناك فعلا الحد من سلطة الحكم المطلق لكن في نفس الوقت فان ذلك الحد ، نسبي جدا .
هناك برلمان ، لكن صلاحياته محدودة جدا .
هناك حرية الصحافة ، لكن ايضا الرقابة عليها وحجزها .
هناك حرية التنظيم الحزبي والنقابي ، لكن ايضا عدم الترخيص بتنظيم التظاهرات السياسية ، وقمع الاضرابات النقابية .
هناك حرية التعبير ، لكن ايضا الاعتقال بسبب الراي والموقف . وهذا الاعتقال السياسي قد يصل الى حد ، دفن ضحاياه الابرياء طيلة حياتهم في الكهوف الباردة ، بل والى القتل والجنون .
ان دولة هذه طبيعتها المزدوجة ، تقر الديمقراطية وتلغيها ، تقبل المعارضة وتحد من نشاطها ، تسطر القانون وتخرقه .. هي دولة ليست لكل المجتمع المدني ، ولكن للطبقة السائدة فيه فقط ، وبالتالي ان شكلها الديمقراطي ، هو شكل دولة الطبقة الواحدة ، لاشكل كل طبقات المجتمع .
ان الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة ، كان وراءه تاريخ ، ولذلك وبالضرورة سيكون امامه ايضا تاريخ ، لقد ظهر كنتيجة لسبب سابق ، واصبح هو نفسه سببا لنتيجة قادمة .
لقد تحول الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة الواحدة ، وسيتحول بالضرورة هذا الاخير بدوره ، الى شكل ديمقراطي جديد : دولة طبقات المجتمع المدني . هذا حكم التناقضات الموضوعية التي تحرك المجتمع . وليس هناك على وجه الاطلاق ، اية قوة بشرية ، مهما بلغ سلطانها وجبروتها ، اقوى من حركة تلك التناقضات الموضوعية .
وهنا نصل الى بيت القصيد : ماهي التناقضات الموضوعية التي جعلت الانتقال من الشكل الاستبدادي السابق ، الى الشكل الديمقراطي الحالي ضروريا ، وماهي التناقضات التي تجعل الانتقال من الشكل الديمقراطي الحالي ، الى الشكل الديمقراطي الارقى ضروريا ايضا ؟

قلنا في الفقرة السابقة ، بان نشوء الاستبداد في المرحلة الماضية ، ناجم عن وضع كان بحاجة الى مثل هذا الاستبداد ، وحللنا ذلك على الشكل التالي ، في بداية صمودها الاجتماعي ، كانت الطبقة البورجوازية التبعية ، ضعيفة .، اذ من جهة ، كان المجتمع الماقبل مدني يطوق مجتمعها المدني الناشئ ، لان في تلك الظروف ، كانت لاتزال الملكية الاقطاعية العتيقة ، والملكية الصغيرة للفلاحين المستقلين ، قويتين .( لنذكر بالمناسبة حركة المعارضة التي قادها الاقطاع ، والتي كان ابرزها عصيان عدي اوبيهي في الجنوب ) .
ومن جهة اخرى ، كانت مهددة بالمنافسة القوية من طرف ممثلي الطبقة الوسطى ، الذين كانوا يطرحون مشروعا راديكاليا للتطوير الراسمالي ، مناقضا لمشروعها الاصلاحي .
واذن في تلك الشروط الموضوعية الملموسة ، لم يكن هناك امام الطبقة البورجوازية الصاعدة ، من خيار سياسي لفرض هيمنتها وتحييد خصومها ، سوى خيار الدولة المركزية القسرية الاستبدادية .
اما في المرحلة اللاحقة ، فقد انقلب الوضع راسا على عقب بعد تحول المجتمع الى نقيضه . اذ من جهة ، تم استكمال اعادة الهيكلة للملكية الاقطاعية على اسس راسمالية ، ومن جهة ثانية ، تم عزل وتحييد ممثلي المشروع الراديكالي .
واذن في تلك الشروط الموضوعية الملموسة الجديدة ، ظهر تناقض جديد : بين وضع اجتماعي جديد ، وبين استمرار الشكل الاستبدادي للدولة الذي عكس الوضع القديم ، السائد ابان الصعود الطبقي .
فكان لابد لهذا التناقض ان يحل ، وحله يقتضي احداث تطابق بين الوضع الاجتماعي الجديد ، وبين شكل الدولة السياسي الملائم ، وهذا الشكل كان هو الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة .
لكن احداث التطابق المذكور ، وتصحيح العلاقة بين وضع اجتماعي متقدم وشكل سياسي متخلف عن مسايرة حركته ، ليس بالشيء الالي ولا بالامر الهين . فالبرجوازية المغربية التي تعودت ، في المرحلة الاولى ، المهيمنة بواسطة الشكل الاستبدادي للدولة ، لم يكن سهلا عليها ، بحكم قوة العادة تلك ، تجاوز الشكل الاستبدادي والانفتاح على شكل ديمقراطي جديد ، ورغم ان الديمقراطية المقترحة هي ديمقراطيتها الخاصة .
لذلك كان لابد من هزة عنيفة ، ترغمها على مواجهة مواقفها ، وقد جاءت تلك الهزة في شكل محاولتي الانقلاب في مطلع السبعينات .
بعد الهزة اصيبت البورجوازية بازمة سياسية عميقة ، ولم يكن من الممكن تجاوزها ، بدون التقرب من المعارضة الوطنية ، لكن التقرب له شروطه ، ومن ضمن المطالب الاساسية التي كانت تطرحها بالحاح المعارضة الوطنية ، مطلبي الديمقراطية واسترجاع الاقاليم الصحراوية المغربية .
هكذا ستجيء الديمقراطية ، التي عملت على رفع التناقض بين وضع اجتماعي متحرك وشكل سياسي جامد ، وهكذا سيتم تحرير الصحراء المغربية ، التي كانت عزيزة على قلب المرحوم علال الفاسي منذ القدم ، وظلت عزيزة حتى اخر لحظات حياته .
لكن الصحراء التي كانت في البداية ، مجرد نقطة برنامجية ازاء نقطة اخرى هي الديمقراطية ، سرعان ما تحولت بفعل تعقد واحتدام الصراع ضد خصوم الوحدة الترابية ، الى سند قوي للديمقراطية ، اذ لكي تظهر الصحراء امام الراي العام الدولي ، على انها قضية شعب باكمله وليس فقط قضية نظام ، كان لابد من توفير شرط ديمقراطي للدفاع عنها ، الامر الذي يقتضي حرية الصحافة ، وحرية انشطة اخرى .
في هذه الحدود وحدها ، يمكن فهم طبيعة العلاقة بين القضية الوطنية وقضية الديمقراطية ، اما الراي الذي ذهب اليه البعض ، وهو راي منتشر ، والذي يربط وجود الديمقراطية بوجود مسالة الصحراء ، فانه راي خاطئ من الناحية النظرية ، لانه يستبدل التفسير الجوهري بالتفسير العرضي ، ان قضية الصحراء ، مهما كانت اهمية دورها المؤثر على المسالة الديمقراطية ، ومهما طال امد الصراع حولها ، فانها مع ذلك تنتمي فقط للمؤثرات العرضية الظرفية .
ان دور عامل الصحراء في مسالة الديمقراطية ، مثله مثل دور عامل العرض والطلب في مسالة تحديد اسعار البضائع . فهذا العامل الاخير ، له فعلا تاثير على تحديد السعر ، لكنه ليس هو العامل الجوهري الحاسم ، اذ لكي يمكن تحليل قيمة البضاعة تحليلا علميا ، يجب تجريدها من كل المؤثرات الخارجية العرضية ، والنظر اليها في جوهرها الثابت ، الذي هو كمية العمل الضرورية اجتماعيا لانتاجها ، وعامل العرض والطلب هو نفسه يمكن ابطال مفعوله ، في الشروط التي يتساوى فيها العرض مع الطلب ، وحينئذ لن يبقى هناك سوى العامل الجوهري الثابت .
نفس الشيء بالنسبة لقضية الديمقراطية ، فلكي يمكن تحليلها تحليلا علميا ، يجب تجريدها من عامل الصحراء الذي يشوش على ذلك التحليل ، والنظر اليها بالتالي في حقيقتها الجوهرية الثابتة ، وهذه الحقيقة هي ، كما سبق الذكر ، تطور المجتمع المدني نفسه الذي لم يعد يحتمل الشكل الاستبدادي للدولة السابق ، وهذا معناه ان الديمقراطية باقية حتى ولو زال عامل الصحراء .
يبقى السؤال : ماهو السبب الذي دفع الجنرال اوفقير ، للقيام بمحاولته الانقلابية ؟
هناك من اعتبر ان السبب يكمن في تناقض داخل الطبقة الحاكمة ، ناجم عن « غياب الديمقراطية » بين اجنحتها ، وهناك من اعتبر ، مثل السوسيولوجي الامريكي ووتر بوري ، بان حركة اوفقير كانت بمثابة استباق للاحداث من اجل قطع الطريق امام احتمال انقلاب عسكري يساري .
ان كل هذه التفسيرات خاطئة ، لان السبب الحقيقي يكمن في طبيعة شخصية اوفقير نفسها ، فهذا الرجل الذي كان يملا قلبه طموح سياسي كبير ، شعر بعد تعاظم سلطته ونفوذه ، الناجم عن دوره البارز في قمع المعارضة الراديكالية ، بان الظرف ملائم للدفع بسلطته الى نهايتها ، أي الاستيلاء على السلطة العليا للبلاد نفسها .
وفي الحقيقة فان التاريخ ، القديم والحديث على السواء مليء بهذا النوع من النماذج الاوفقيرية ، وتكفي الاشارة هنا الى المثال الفرنسي ، بعد الثورة الفرنسية انفجر صراع عنيف ، بين الاتجاه البورجوازي الثوري والبورجوازي الاصلاحي ، الامر الذي دفع انصار هذا الاخير ، الى القول بان الوضع في حاجة الى une bonne epee لخلق الامن والاستقرار . وهكذا سيتم اسناد دور تلك القبضة الحديدية ، الى رجل عسكري سبق له ان برهن عن قدراته العسكرية في حملات ايطاليا ومصر . وكان ذلك الرجل اسمه بونبارت ، لكن نابلوين هذا ، ما ان احس بسلطته تتعاظم حتى تولد لديه طموح اكبر : فكانت الاطاحة بالجمهورية التي قلبها الى ملكية وضع نفسه على راسها .
ان حركة اوفقير تشبه حركة نابليون ، مع اخذ المقارنة بينهما طبعا ، في الحدود التي تسمح بها المقارنة بين قزم وعملاق .
ان التاريخ السياسي لاوفقير قد كرر نفسه ، لكن في المرة الاولى كان ماساويا ، بسبب تساقط الشباب والاطفال ضحايا قمع احداث 23 مارس 1965 . وفي المرة الثانية كان كاريكاتوريا ، بسبب المهزلة التي انتهى اليها مصيره ، بعد المحاولة الانقلابية .
وكما ان الماساة ، في الحالة الاولى ، لم تفعل اكثر من الاسراع باقامة نظام الاستبداد ، الذي كانت شروطه الموضوعية موجودة سلفا على ارض الواقع ، كذلك فان المهزلة ، في الحالة الثانية ، لم تفعل اكثر من الاسراع بفتح عهد الديمقراطية ، الذي اصبحت شروطه الموضوعية موجودة في المجتمع المدني .