تكوينات ماقبل الرأسمالية في السودان(سلطنة دارفور نموذجا)


تاج السر عثمان
2008 / 11 / 6 - 08:56     

(1450-1874م)
شهد الجزء الغربي من السودان الشرقي قيام ممالك الداجو والتنجر، ثم أخذت شكلها الأوسع والأشمل بقيام سلطنة دار فور ،وهي تعبير عن تطور تاريخي طويل ومعقد ، وتعبير عن أن إنسان تلك المنطقة تطور ماديا وروحيا وشق طريقه نحو الحضارة علي النحو الذي عرفته المجتمعات البشرية في التاريخ القديم والعصور الوسطي مع التفاوت في درجات التطور ، ومعلوم أن الحضارة تنشأ مع بروز الأسر والسلالات الحاكمة وتطور الزراعة والتجارة والصناعة وقيام المدن والأسواق واللغة المكتوبة ... الخ .
• قام النشاط الاقتصادي في السلطنة علي الزراعة والرعي والصيد ، فكانوا يزرعون السمسم والدخن والذرة والفول والصمغ والتمباك .. الخ . واستخدموا أدوات إنتاج زراعي كتلك التي المستخدمة في مناطق السودان الأخرى ، وعرفت المنطقة رعي الإبل في الشمال والأبقار في الجنوب . كما نظم سلاطين دار فور ملكية الأرض ، فقد اعتبر السلطان كل أراضي السلطنة ملكا خاصا له يقسمها في حوا كير لاتباعه ، يحدد الخراج أو الإعفاء منه في كل حالة علي حدة استنادا إلى الشريعة الإسلامية والعرف .
• كانت تجارة السلطنة مزدهرة مع مصر ، وكان السلطان يحتكر التجارة مما أضعف التجار ، وبسبب قبضة السلطان المركزية لم يستطع التجار الانفلات من تلك القبضة ، كما بالنسبة للتجار في سلطنة الفونج في سنواتها الأخيرة ، كانت الأهداف التجارية من أسباب حرب السلطنة وتوسعها ، أما السمات العامة للتجارة فقد كانت كمالية ، فأهل المنطقة استطاعوا توفير غذاءهم الأساسي من الزراعة وتربية الحيوانات والصيد ، كما وفروا ما يحتاجون أدوات من الصناعة الحرفية ، وبالتالي لم يدخل الغذاء في والمنتجات الحرفية في واردات السلطنة ، بل تقريبا كانت كل الواردات من السلع الكمالية التي تهم السلطان وحاشيته والمترفين من الأغنياء وأصحاب النفوذ . وإذا صح استخدام المصطلح المعاصر ، يمكن القول أن سلطنة دار فور عرفت الاكتفاء الذاتي . وكان من أسباب زوال السلطنة تدهور التجارة مع مصر بعد أن حاصرتها قوات الحملة التركية – المصرية ، كانت العملة الرائجة في السلطنة متعددة ومتنوعة مثل الدمور الحشاشات ، الرقيق ، .. الخ ، وفي أغلب الأحوال كانت الأجور تدفع في شكل أراضي لتوفير سبل العيش من إنتاجها
• تطورت الصناعة الحرفية ونشأ أرباب الصنائع مثل: الحدادين النجارين ، الحاكة ، الباغون ، الفخرانجية ، .. الخ ، وكانت الصناعات مزدهرة مثل صناعة النسيج ، الأحذية ، الزيوت ،والسمن ، الخمور ، الدباغة ، ... الخ . كما اعتمدت هذه الصناعات علي مواد محلية مثل : القطن ، السمسم ، الماشية الخشب ، الحديد ، النحاس .
• أما مصادر تراكم ثروة السلاطين فكانت تتكون من عشور البضائع من التجار : الزكاة ، الفطرة ، نصيب السلطان من قانون دالي ، الضرائب الأخرى علي التجار والحدادين والهدايا التي تصله من أصحاب ألحوا كير والتجار إضافة للجراية من الممالك والمناطق التابعة . كما تطورت المدن والأسواق والحياة الاجتماعية . كما عرفت سلطنة الفور التفاوت الطبقي أو الفوارق الاجتماعية والتي تتلخص في السلاطين والملوك ، أصحاب ألحوا كير ، التجار ، الفقراء العلماء ، أرباب الصنائع ، المزارعون ، الرقيق .
بعد هذه المقدمة سوف نسلط الضوء علي موضوعين هما: التركيب الطبقي للسلطنة وخصوصية التشكيلة الاجتماعية لسلطنة دارفور.

أولا: التركيب الطبقي
عندما نتحدث عن التركيب الطبقي في سلطنة دار فور نأخذ في الاعتبار أن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية للسلطنة كتشكيلة سابقة للرأسمالية لم تعرف مفاهيم ومصطلحات مثل الطبقة الاجتماعية ( البرجوازية ، البروليتاريا ، البورجوازية الصغيرة ، .... الخ ) بالمعنى الدقيق الذي حدده علماء الاجتماع ( ماركسيين وغير ماركسيين ) في أوربا بعد الثورة الصناعية ، ولكن ما نريد أن نوضحه هنا أن سلطنة دار فور عرفت الفوارق الاجتماعية أو المراتب الاجتماعية .
ونتفق هنا مع ما أورده د . سمير أمين أن ممالك إفريقيا عرفت ( ظهور الفوارق الاجتماعية قبل مجيء الاستعمار الغربي لها ، والدليل على ذلك أن العديد من الشعوب الأفريقية قد غادرت حقبة ما قبل التاريخ لعدة قرون خلت ... ).
وسنحاول البرهنة على ذلك من خلال سلطنة دار فور الملموسة التي عرفت المراتب والفوارق الاجتماعية . ويمكن تقسيم التركيب الطبقي للسلطنة إلى الآتي :
أ – السلاطين والملوك .
ب – ملاك الأراضي .
ج – التجار .
د – الفقرا والعلما .
ه – أرباب الصنائع .
و – المزارعون .
ز – الرقيق .
أ – السلاطين والملوك :
ويدخل في هؤلاء الطبقات والفئات الحاكمة مثل السلاطين وحكام الأقاليم والدمالج والمقاديم والشراتى ... الخ . وهؤلاء تمتعوا بنفوذ سياسي واقتصادي وثروة وغنى على النحو الذي أوضحناه في مكان سابق .


ب – ملاك الأراضي ( أصحاب الحوا كير ) :
وهؤلاء تمتعوا بالنفوذ والثروة في المجتمع والدولة ، ومن الأمثلة كما ورد في وثائق الأرض :
• الأمير أبو بكر الذي أعطى أراضي واسعة ار ضاءا له لانه كان ينافس السلطان محمد الحسين في الولاية ، ولان مركزه الاجتماعي كان عظيما ، وقد استغل ثراءه لمزيد من الو جاهه والنفوذ السياسي .
• الاياباسى زمزم التي مارست نفوذا طاغيا وكانت تطوف على الأقاليم تجبى من الناس قسرا ، وكانت صاحبة أراضى واسعة .
• احمد شطة الذي بثرائه ونفوذه الإقليمي يستطيع أن يتحدى السلطان ، فيمنع الفقيه محمد البولالاوى من الأراضي التي اقطعها إياه السلطان .
• كان الأمير بخيت يملك اقطاعات واسعة من الأراضي .
• كان الكامنة يملك اقطاعات واسعة .
• كما فاز الياس نور الدين بأراضي كثيرة في شمال دار فور .
وكان السلطان عبد الرحمن الرشيد قد عين صديقه مالك بن على الفوتاوى حاميا لكل الفولاني في سلطنته ووزيرا ، واعطاه حوا كير ضخمة بالقرب من الفاشر وبالذات في كوبو .
ج - التجار :
من الصعب فرز طبقة التجار عن السلاطين والملوك وملاك الأراضي وبقية أصحاب النفوذ ، فهؤلاء أنفسهم – بالإضافة إلى دخلهم من الضرائب وخراج الأراضي وعائد أراضيهم الخاصة – كانوا تجارا . فسلاطين دار فور مع ملاك الأراضي المتحالفين معهم كانوا يحتكرون التجارة .
وكان احتكار السلاطين لللاراضى والتجارة الخارجية وهيمنتهم على التجارة الداخلية ومحاصرتها بالضرائب المختلفة ومصادرة أموال بغض الأثرياء من التجار أحيانا ، كل ذلك من الأسباب التي أضعفت الطبقة التجارية وقصت أجنحتها ، ولم تستطع الصراع ضد هيمنة السلاطين على التجارة كما حدث في السنوات الأخيرة لدولة الفونج ، حيث استطاعت الطبقة التجارية أن تتحرر من نفوذ السلطان بعد أن قويت واشتد ساعدها . وبالتالي يمكن القول أن الطبقة التجارية كانت ضعيفة وتحت الرقابة والسيطرة الدائمة للسلاطين ، وبالتالي لا نستطيع القول عن تطور وازدهار رأسمالية تجارية أو تراكم رأس مال تجارى بالشكل الذي حدث في سلطنة الفونج .
د – الفقرا والعلما :
هؤلاء بالإضافة ألي نفوذهم الروحي كان لبعضهم نفوذ اقتصادي ، وكان الفقرا يحصلون على الأراضي ويزدادون بذلك نفوذا ، فالسلطان عبد الرحمن الرشيد أعطى لاسرة محمد حدوج الكنانى حاكورة ضخمة بجديد السبل بشمال الفاشر ، وكان السلطان تيراب قد انعم عليهم بحاكورة أخرى في القرشي .
• حصل الفكي محمد من قبيلة الميم في سمين وكان ذا نفوذ عظيم .
• حاز عمر التونسي ( والد محمد عمر التونسي ) على حاكورة في قربى بجبل مرة ثم حاز على حاكورة أخري في مكان آخر عندما تضر رمن قربى .
• وفقرا ارقراقا الذين جاء جدهم حامد بن عبد الله من الشرق في عهد السلطان سليمان قد حازوا على أراضي في رقراقا على يد السلطان محمد الفضل الذي بنى مسجدا.
ه – أرباب الصنائع :
وهذه الشريحة كما حددها شقير تضم الحدادين والنجارين والدباغين ( البقدو ) ، وهؤلاء يمتلكون أدوات إنتاجهم ويعرضون منتجاتهم في الأسواق ، إما بشكل مباشر أو بواسطة التجار ، وكانت بعض الحرف مثل الحدادة محتقرة .
و – طبقة المزارعين :
كان وضع هذه الطبقة على أسوأ حال ، وكان المزارعون يدفعون الضرائب بشقيها والتي تقوم على الشريعة الإسلامية والعرف ( الزكاة ، الفطرة ، السبل العادية ) ، وكان هؤلاء هم الذين يقومون بالإنتاج فعلا ولكنهم يفقدون جزءا من فائض إنتاجهم والذى يذهب إلى السلاطين وأقرباءهم أو للفقرا والعلما أ و حكام الأقاليم أو ملاك
ألحوا كير ، أي انهم يفقدون جزءا كبيرا من إنتاجهم الفائض بحكم ما تفرضه عليهم الشريعة والأعراف . هذا إضافة إلى انهم كانوا يخدمون في مزارع حكام الأقاليم والسلاطين والفقرا والعلما ( عمل السخرة ) غير مدفوع الأجر ، وبالتالي كانوا يعيشون في فقر مدقع وبعضهم من شدة الفقر كان ينطبق عليه المثل ( عبد مجيّه ولاحر مجهجه ) كما يرد في أمثال تلك الفترة ، أي عبد يجد ما يكفى معيشته من سيده ولامزارع حر لايجد قوته الضروري .
ز – طبقة الرقيق :
كانت تلك الطبقة في قاع الهرم الاجتماعي ، وكانت لها وظائف هامة في نسيج مجتمع دار فور الاقتصادي والاجتماعي من زاوية انهم: -
- كانوا يعملون في أراضى أسيادهم وفقا لعلائق الإنتاج العبودية التي تقوم على العمل مقابل معيشتهم ومعيشة أسرهم ، أي كان كل إنتاج عملهم الفائض يستحوذ عليه الملاك .
- كانوا عنصرا أساسيا في جيش سلطنة دار فور .
- في بعض الحالات كان نصيب السلطان من محصول
الحوا كير يدفع في شكل رقيق ( أي وسيلة دفع ) .
- كان الرقيق سلعة تصدر للخارج ومصدرا من مصادر تراكم ثروة السلاطين والتجار .

ثانيا : خصوصية التشكيلة الاجتماعية:

لتعيين خصوصية وسمات التشكيلة الاجتماعية لسلطنة دار فور يجدر بنا أولا دراسة خصوصية الرق والإقطاع في السلطنة بشيء من التفصيل ، وبدون إقحام مفاهيم ومصطلحات الرق والإقطاع بالمعنى الذي كان ينطبق على حالة التاريخ الأوربي القديم ، وفى العصور الوسطى والتي حددها ماركس كملامح عامة في لوحة خماسية ، وبدون إقحام نمط الإنتاج الآسيوي أو نمط الإنتاج الخراجى ، كما يسميه د . سمير أمين ، الذي كان سائدا في بعض بلدان الشرق .
واللوحة الخماسية الكلاسيكية هي : الشيوعية البدائية ، الرق ، الإقطاع ، الرأسمالية ، الاشتراكية ، أما تعريف نمط الإنتاج الآسيوي الذي أضافه ماركس للشرق كنمط متميز عن اللوحة الخماسية للتاريخ الأوربي والتي وردت في مؤلفه ( أسس نقد الاقتصاد السياسي ) فيتحدد على أساس ظهور مجتمع طبقي في إطار أشكال ملكية الأرض الجماعية على أساس من مستوى للقوى المنتجة ما يزال بالغ التدنى ولكنه يسمح مع ذلك باقتطاع فائض إنتاج.
ما يهمنا هنا أننا نريد أن نبحث خصوصية تشكيلة دار فور في الواقع التاريخي وبذهن مفتوح وبدون فرض لوحة خماسية مسبقة أو صيغة نمط الإنتاج الآسيوي أو الخراجى .
1- : خصوصية الإقطاع في السلطنة :
عند دراسة خصوصية الإقطاع في السلطنة نلاحظ السمات الآتية :
أ – ينقسم إقطاع سلطان دار فور للأرض إلي نوعين :
- نوع يعطى لشخص بزرعه ويستفيد من إنتاجه في معيشته ، وهذا النوع كان غالبا في شكل قطع صغيرة ، وهو ما يوصف عادة بأنها ملك أو هبة أو صدقة ، وغالبا ما كان ذلك لطبقة الفقرا والعلما وصاحب الأرض يزرع أرضه بواسطة المزارع إذا لم يكن مباشرا الزراعة ، وقد يستغل جيرانه ويجبرهم على العمل بطائله ونفوذه ، وهو حر التصرف في الأرض غالبا بأن يؤجر أو ينشئ فيها ما شاء أو بأن يتصرف في ملكيته بالبيع أو الهبة وما إلى ذلك ، ومثل هذه الحقائق تبين عادة في وثيقة التمليك ( 3 ) . ومثل هذه الملكيات الصغيرة لاتدخل في مفهوم الإقطاع بالمعنى أو المصطلح الدقيق له .
- ألحوا كير : * والحاكورة هي قطعة ارض كبيرة كأرض قمقوم وبناين كما ورد في وثائق الأرض ، وقد تمتد أميالا ، وقد تكون قرية واحدة كقرية كورا في الوثيقة الحادية عشر ، أو تكون عددا من القرى وقد تكون بطنا من قبيلة . والسلطان هو الذي يعطى الحاكورة بهدف مساعدة قريب أو صديق أو تعطى للفقرا والعلما بهدف إعادة إنتاج النظام وترسيخه . ويستطيع صاحب الحاكورة بعد ذلك ، إما أن يزرع ما شاء بنفسه وبعبيده وبمن يستطيع تسخيره من الأهالي ، ومن حقه أن يعقد ما شاء من العقود مع المزارع ، فيما ينال من الإنتاج مقابل تسديد الضرائب أو الخراج للسلطان حسب ما تقتضي الشريعة الإسلامية والعرف .
والسلطان يتنازل عن هذه الحقوق أو بعضها لصاحب الحاكورة حسب كل حالة على حدة فيقوم هو بجمعها للانتفاع بها في معيشة اتباعه وتدبير سلاحه وأموره وهو مقابل ذلك ، يقوم بتدبير بعض الخدمات للسلطان ، ويقدم الولاء ويكون في خدمته ويدافع عنه ، وهو يعاونه في الإشراف على أهل الحاكورة واهم الخدمات إعانة السلطان في الحرب ، ويقدم له فوق ذلك جعلا سنويا متفقا عليه ، إضافة للغرامات والهوا مل والهدايا التي تقدم في المناسبات ، أما العلما والفقرا ، فعليهم خدمة الكتابة والقضاء والدعاء للسلطان واقامة الشعائر الإسلامية وتعمير المساجد ، وحاكم الإقليم لانصيب له وانما يؤخذ من نصيب السلطان .
وبالتمعن في هذا الشكل من ملكية الأرض نلاحظ الآتي :
أ – إن المزارع يعمل في الحاكورة ، ولا يملك جزءا من الأرض بحيث يعمل أياما في أرضه وأياما أخرى في ارض الإقطاعي ، كما كان الحال في إقطاع أوربا في العصور الوسطى ، وكان المزارع مرتبطا بالأرض وعليه أن يزرع ، ولايتا ثر بالمنازعات حول الأراضي لأن المنازعات تمس اصحاب الحوا كير الذين كان نصيبهم يزداد كلما اتسعت أراضيهم ، فعلى المزارع أن يزرع ليأخذ ويوزع الإنتاج الفائض في شكل حق الأرض والعادة والشريعة مهما اختلف المالكون .
ب – مثل هذا النوع من الإقطاع يمكن أن نسميه الإقطاع القلق أو الإقطاع غير المستقر ، لأن المالك الحقيقي للأرض هو السلطان ، وهو يستطيع أن ينزع الأرض في أي وقت شاء ويعطيها لمن شاء والقاعدة العامة أن الحاكورة لا تورث لأنها في الأصل تعطى مقابل خدمات للسلطان ، وذا وقع في سخط السلطان أُخذت منه الأرض ، وكما لاحظ د . أبو سليم فأن ( التملك مؤقت بطبيعته) .
ونكمل الصورة بذكر ارض السلطان وحكام الأقاليم ، فقد كان السلطان يزرع في أملاكه الخاصة وهى التي كانت ملكا خاصا لأجداده أو مخصصة لزراعته ، ويُذكر انه كان للسلاطين أملاك خاصة في جبل مرة واقطاعات أخري بكيرلى وتندلتى أو مناطق أخري غيرها . وكان على الأهالي أن يقوموا بزراعة أرضه دون مقابل ( عمل السخرة ) وذلك بخلاف ما كان يقوم الأرقاء ، ونشير هنا إلى أن ذلك من بقايا المجتمع البدائي حيث كان العمل التعاوني التطوعي هو الأساس ، وبعد تفكك المجتمع البدائي وظهور الملكية والفوارق الاجتماعية والسلالات الحاكمة ، استمر العمل التطوعي في أراضي السلطان ورجال الدين .
ويذكر التونسي ( أن السلطان له مزرعة معلومة يزرعها لنفسه في كل سنة ، وفى يوم بذر الحب فيها بعد الأمطار يخرج في مهرجان عظيم ، ويخرج معه البنات الجميلات المتجملات بالحلي والحلى ما ينوف عن مائة من مخاطبه الخاصة حاملات على روؤسهن آنية فيها كل المأكل الفاخرة ، وهذه الأواني تسمى بالعمار ( مفردها عمرة ) فيمشين وراء جواد السلطان صحبة العبيد الصغار الحاملين للحراب المسمين كوركوا ، واصحاب العصافير ، وهؤلاء يغنون بغناء حال تصفيرهم ، وكوركو الحاملين للحراب يغنون معهم ، فحين تخرج البنات مع السلطان يغنين معهم أيضا فيبقى لجموعهم صوت جميل جدا وحينما يصل السلطان إلى المزرعة ينزل عن جواده ويأخذ البذر ويأتي أحد عبيده ويحفر الأرض بمسحاة معه ويرمى السلطان البذر وهو أول بذر يقع في الأرض والقواد ، فيبذرون الحب ويزرعون المزرعة في أسرع وقت ، وبعد تمام زرع المزرعة يحضر الطعام المحمول على روؤس البنات المذكورة فيوضع أمام السلطان ، فيأكل منه هو ووزراؤه ، ثم يركب في مهرجانه حتى يصل إلى دار ملكه وهذا اليوم من الأيام المشهورة في دار فور.
ويشير د . أبو سليم إلى انه في هذا اليوم توزع الكسوة الجديدة ، وتتم نظافة الأرض والزراعة والصيد ، وهو ما يوافق عيد الزراعة ، فالسلطان هو الذي يبدأ الموسم الزراعي ، وهذه العادة عرفت في سنار أيضا .
مما سبق يمكن أن نصف علائق الإنتاج في أراضي السلطان أو إقطاعيات السلطان على النحو التالي : -
أ – على السخرة أو عمل الأهالي بدون مقابل .
ب – على الرقيق أو بيد السلطان فيها حسب علائق الإنتاج العبودية .
كما كان لحكام الأقاليم مزارع خاصة أيضا ، وكانت اكبر الأراضي للاباديما والتيكناوى ، ثم بعدها كبقية الأعيان حسب مراتبهم أو قربهم إلى السلطان ، وعلائق الإنتاج في تلك الأراضي أيضا كانت تقوم على السخرة أو إرغام الأهالي قسرا بالعمل فيها بدون مقابل أو على عمل الرقيق حسب علائق الإنتاج العبودية .
ثانيا : خصوصية الرق في سلطنة دار فور . :
يمكن أن نحدد خصوصيات ووظائف الرق في السلطنة على النحو التالي :
أ – كان يلعب دورا أساسيا في صادرات السلطنة إلى مصر ، فقد كان الرقيق يجلب من المناطق التي تقع جنوب السلطنة ( دار فرتيت ) وكانت السلطنة تصدر منه من 2000 إلى 3000 إلى مصر على الأقل في السنوات ( 1750 – 1830 م ) ، وقد تحدثنا بتفصيل في بحث سابق بعنوان: تاريخ الفونج الاجتماعي، عن الجذور التاريخية للرق في السودان وما معنى الرقيق وكيف يحصل عليه ، ولا نحتاج إلى تكرار ذلك في هذا البحث ( انظر تاج السر عثمان الحاج : لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي ، مركز محمد عمر بشير 2004م)
ب – كان الرقيق يعمل في أراضي السلطان الزراعية واراضى أصحاب الحوا كير الآخرين أو أراضى الفقرا والعلما وفقا لعلائق الإنتاج العبودية ، أي مقابل معيشتهم واسرهم ( أو مقابل بطونهم كما يقول السودانيون ) وفى بعض الأحوال كان سلطان الفور يعطى الأرض لمن يشاء برقيقها أو عبيدها ، كما فعل السلطان محمد الحسين المهدى الذي أعطى حاكورة نعمة لصهره الحاج احمد بن عيسى برقيقها ، وكان عددهم خمسون رقيقا.
ج – كان الرقيق يلعب دورا أساسيا في جيش السلطنة ، وخاصة في عهد السلطان تيراب الذي كان يسير في اتجاه التوسع بالفتوحات شرقا ، والاتجاه في تنظيم الدولة إلى المركزية والاعتماد اكثر فاكثر على جيش الأرقاء .
ج – كانت بعض القبائل تدفع محصول السلطنة ( أو الجزية ) رقيقا ، أي أن الرق كان وسيلة دفع عند بعض القبائل .
وبذلك يتضح الدور الخطير الذي كان يلعبه الرقيق في النسيج الاقتصادي والاجتماعي لسلطنة دار فور .
2- خصوصيات تشكيلة السلطنة :
عند فحص التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية لسلطنة دار فور وعلى مستوى البنية الإنتاجية –الطبقية نلاحظ السمات والخصوصيات التى كانت تتفرد بها ، كما نلاحظ أنها كانت تتكون من الأنماط الآتية :
أ –نمط الإنتاج البدائي عند القبائل التي كانت تقطن جنوب السلطنة ( دارفرتيت ) والذي كان يقوم على الصيد والتقاط الثمار وتربية الحيوانات . هذا إضافة إلي أن تلك القبائل نفسها كانت عرضة لحملات صيادي وتجار الرقيق ، فقد كان اغلب الرقيق الذي كانت تصدره السلطنة للخارج يجلب من تلك المناطق .
ب – نمط الإنتاج العبودى : وبالخصوصيات التي تم تحديدها سابقا فقد كانت تجارة الرقيق أحد مصادر الأرباح للسلاطين وتجار الرقيق إضافة إلي انهم كانوا يعملون في الزراعة والرعى وفقا لعلائق الإنتاج العبودية ، هذا إضافة لدور الرقيق في جيش السلطنة ، فضلا عن انه كان وسيلة تبادل أو دفع للجزية أو الخراج .
ج – نمط الإنتاج الإقطاعي السائد وبالخصوصيات التي حددناها سابقا : هيمنة السلطان المركزية أو في نظام حكم اقطاعي استبدادي مطلق ، يحتكر السلطان فيه الأرض ويعطيها لمن يشاء وينزعها ممن يشاء ، هذا إضافة لاحتكار السلطان للتجارة ، هذا فضلا عن علائق السخرة فقد كان المزارعون يجبرون على العمل في أراضي السلاطين وحكام الأقاليم بلا مقابل . إضافة للاستحواذ على الجزء الأكبر من فوائض إنتاج المزارعين وتقسيمه بين أصحاب ألحوا كير وحكام الأقاليم والسلاطين .
د – نمط الإنتاج البضاعى الصغير : وما ينتج عنه من تقسيم العمل ،حيث ظهر أصحاب الحرف وأرباب الصنائع من حدادين ونجارين والفخرانجية ... الخ ، كما ظهرت الأسواق وظهرت طبقة تحترف التجارة ، ونشأت المدن وتطورت الحياة الاجتماعية وظهرت فئات اجتماعية جديدة مثل : الفقرا والعلما والكتاب والإداريون والتجار ... الخ . كما لاحظنا هيمنة السلطان على التجارة من خلال التنظيم الدقيق الذي كان يسيطر به سلاطين دار فور على التجارة ، وكان السلطان اكبر تاجر في السلطنة . هذا إضافة لازدهار وتطور التجارة الداخلية والخارجية والعائد من السلع الكمالية التي كانت تهم السلاطين واصحاب النفوذ والفئات المتيسرة .

*المصادر والهوامش:
1- أوفاهي: الدولة والمجتمع في دارفور، لندن 1980م(بالانجليزي).
2- الانتقال من الاقطاع للرأسمالية - مجموعة من الكتاب، دار ابن خلدون، بيروت ط2 1982، ترجمة عصام الخفاجي.
3- تاج السر عثمان: تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي، مكتبة الشريف الأكاديمية 2005م.
4-تاج السر عثمان: تاريخ النوبة الاقتصادي- الاجتماعي، دار عزة 2003م.
5- تاج السر عثمان: لمحات من تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004م.
6-جوستاف ناختقال: سلطنة دارفور: أقاليمها وأهلها وتاريخهم، ترجمة النور عثمان ابكر، ومراجعة عالم عباس محمد نور، دار عزة 2004م.
7- محمد ابراهيم ابوسليم:الفور والأرض(وثائق تمليك) الخرطوم معهد الدراسات الأفرو- آسيوية، جامعة الخرطوم 1975م.
8- محمد علي نصرالله: تطور نظام ملكية الأرضي في الاسلام، نموذج أراضي السواد، دار الحداثة، بيروت ط2 1985م.
9- موسي المبارك الحسن: تاريخ دارفور السياسي، الخرطوم 1970م.
10- سمير أمين: التطور اللامتكافئ، دار الطليعة، بيروت 1985م، ترجمة برهان غليون.