ذكرى اكتوبر في ظل الأزمة الرأسمالية الراهنة


معتز حيسو
2009 / 11 / 7 - 14:05     

(علي أنقاض المجتمع البورجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية يبرز مجتمع جديد يكون فيه تطور الفرد الحر هو الشرط لتطور المجموع الحر)( البيان الشيوعي).
من دون شك إن عام / 2008 / سوف يؤسس لمتغيرات بنيوية عميقة تمس جوهر الفكر والواقع الإنساني . إذ إن الحلم الذي بقيت تعيش عليه شرائح اجتماعية واسعة ، أولها المضطهدين والمظلومين من العمال والفلاحين والمثقفين كان يتراجع مع تقدم المدحلة الرأسمالية المعولمة. ومع عودة الحلم الاشتراكي على قاعدة الأزمة الرأسمالية الراهنة ، نرى من الضروري أن نقف على تساؤل أولي : هل يجب أن يعاد إحياء الذاكرة ونبش تراثها لإنجاز تصورات مفترضة لآليات تجاوز الرأسمالية تحقيقاً للاشتراكية بعيداً عن الأزمة الموضوعية التي يعانيها اليسار والأحزاب التي ما زالت تدعي أنها تقوم على القاع المعرفي الماركسي ؟؟؟ أم إن آليات ومهمات العمل السياسي،ومنطلقات وآليات العمل المعرفي يفترض أن تكون تعبيراً عن سيرورة وآفاق الواقع الموضوعي والذاتي،و بالتالي من المفترض عدم القفز من قاعدة الحاضر الرجراجة غير المستقرة في هواء المستقبل المجهول ؟؟؟ .
من المؤكد بأن ثورة إكتوبر ما زالت تحمل الكثير من العبر والدروس التي يجب الوقوف عليها ، لكن مما لا شك فيه بأن الإنسان المعاصر شب عن الطوق وأصبح قادراً على قطع حبله السري والاعتماد على قدراته وتجاربه وقراءته لواقعه الراهن ، من دون أن يعني هذا التنكر للماضي أو رجمه بحجارة الحاضر ، ذلك لعلمنا بأن التاريخ / الماضي /التراث لا يمكن استعادته،أو نقله ميكانيكياً،ولكي لا يبقى الماضي ممسكاً بتلابيب الحاضر، يجب قراءته بضوء ودلالات ومعطيات الحاضر،لأن الواقع الإنساني بسيرورته المتطورة والمتغيرة يبقى مفتوحاً على التجارب الإنسانية الجديدة والمتجددة وقدرات العقل البشري غير المحدود .
ــ إذا بدأنا من المفكر العظيم ماركس ، نرى بأنه أكد على أن البرجوازية في سيرورتها المتجاوزة للحدود القومية ، سوف تدك بمدافع صناعاتها المتقدمة أعتى قلاع الإقطاع ، مما يؤكد بأنه كان مدركاً بأن الرأسمالية في مراحل تطورها المتلاحقة سوف تخترق وتتجاوز الحدود القومية ، بمعنى أن حركة رأس المال عابرة للقوميات و متعددة الجنسيات ، ويتجاوز في لحظات محددة قوانينه التي يفرضها على البشرية ليصل في لحظة معينة إلى مرحلة الجنون التي توصله إلى حبل المشنقة ، الذي طالما لُفَّ على رقبة الرأسمالية جراء سيرورتها المتناقضة . أما الجانب الآخر هو تأكيده على إن الانتقال إلى الاشتراكية سوف يكون من المراكز الصناعية ، إدراكاً منه بأنها سوف تمثل قاطرة الدول المتخلفة ، لأن البنى الداخلية للدول الرأسمالية المركزية تكون مشبّعة بتناقضات رأس المال المنتجة موضوعياً لنقيضها الطبقي، إضافة إلى إن درجة تطورها الاجتماعي والصناعي ومستوى تراكم رأس المال وارتفاع حدة التناقضات الطبقية تساهم في تشكيل البديل الموضوعي للرأسمالية ، لتكون الاشتراكية مرحلة تتحقق فيها العدالة الاجتماعية التي تمثل جوهر الفكر الاشتراكي . وقد نقل ماركس اهتمامه إلى روسيا نتيجة لجملة من المتغيرات الدولية آنذاك متوقعاً أن تكون البوابة التي يمكن العبور من خلالها إلى الشيوعية،ويجب ألا ننسى إقراره لقوانين التجارة الحرة رغم إدراكه بأنها مجحفة بحق الشعوب لكنه كان مدركاً بأنها من أسباب اختراق الحدود القومية للوصول إلى تحطيم قلاع الإقطاع في الدول المتخلفة.
ومع انتصار ثورة إكتوبر التي رأى فيها لينين شرطاً موضوعياً لإقامة القطع الاقتصادي والسياسي مع الدول الرأسمالية ، وتحقيقاً لديكتاتورية البروليتاريا التي تحمل إمكانيات الانتقال إلى الاشتراكية بفعل قواها الذاتية وبفعل قيادة الحزب الشيوعي، مقتنعاً بقدرة التجربة الروسية على حرق وتجاوز مرحلة التطور الرأسمالية ، لنراه في عام / 1918 / ونتيجة لجملة من المعطيات المادية يعمل على إنجاز شيوعية الحرب التي ثبت فشلها لاحقاً ليعلن على أثرها الانتقال إلى سياسية النيب التي مثلت أول شكل من أشكال رأسمالية الدولة . وقد تخلي خلفاء لينين عن التوجهات الاقتصادية التي أسس لها لينين وعملوا على تكريس الاشتراكية التي هي بالعمق شكل من أشكال رأسمالية الدولة بأشكال سياسية شمولية اتسمت بتكريس مظاهر تقديس الفرد وقمع المعارضين السياسيين والتنكر لحقوق الشعب في الديمقراطية وتراثه الروحي ، وتكرست هذه الميول مع هيمنة النزعة البيروقراطية التي ساهمت في تنامي مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي على مستوى القيادات العليا للدولة ، وتفاقمت هذه الحالات بترابطها مع عمل القيادة السياسية على القضاء على أي مظهر من المظاهر الديمقراطية السياسية وحرية التعبير، إلا ما كان يخدم رغبات وميول الرمز الأعلى ، وقد تزامنت هذه القضايا مع زيادة حدة التناقضات الدولية الناجمة عن توسع دائرة هيمنة الرأسمالية المعولمة التي كانت تعمل على تشديد حصارها على المنظومة السوفيتية مما دفعها لزيادة حدة التسلح، لتنعكس بأشكال سلبية على الواقع المعاشي للشعب السوفيتي ... وقد ساهمت مجمل التناقضات الداخلية / السياسية والاقتصادية والاجتماعية / والدولية في إجهاض مجمل التجارب / الاشتراكية المحققة / ،وقد تمثلت هذه التجارب على مدار عقود بأشكال من الرأسماليات المتباينة في مستويات تطورها وشدة تبعيتها السياسية والاقتصادية للمركز السوفيتي .ليتوضح لاحقاً بأن معظم النسخ السوفيتية عانت من أشكال سياسية شمولية بيروقراطية ومن تدني في مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي كان من نتيجته التراجع أو الانهيار أمام التطور الرأسمالي المعولم ، هذا إضافة إلى اندماج أو ارتباط كثيراً من دول المنظومة السوفيتية السابقة أو من دار في فلكها بالنمط الرأسمالي المهيمن . وهذا لا يعني بأن السوفيت لم يحققوا نهضتهم الصناعية ومشروعهم الوطني،أو إننا نتناسى دعم السوفيت لحركات التحرر الوطني .
ــ أما وقد حقق النظام الرأسمالي درجة عالية من العولمة ،و من تراكم الرساميل التي يتحكم في سيرورتها الشركات العابرة للقومية ومتعددة الجنسية بقيادة رأس المال المالي والخدمي الذي حقق في سياق سيرورته انفلاتاً مطلقاً من كافة أشكال الرقابة ، وبذات الوقت كان يعمل للحفاظ على دور سلطة الدولة في تحقيق الأمان والاستقرار لحركته خارج الحدود وداخلها ، مما أوصل معظم الدول الرأسمالية وتحديداً الولايات المتحدة إلى أزمتها الراهنة التي كان جنون رأس المال وهلعه المحموم لتحقيق أعلى معدلات ربح بعيداً عن القطاعات الصناعية أحد الأسباب الرئيسية،ومن الممكن أن يؤدي تزايد حدة تناقضات رأس المال لإيصاله لحبل المشنقة الذي ما برح يُلفّ حول عنقه .
إن الأزمة البنيوية الراهنة التي تحاول الدول الرأسمالية الخروج منها بأشكال مختلفة أولها استعادة دور سلطة الدولة في ضبط جنون رأس المال،وثانيها ضخ مبالغ نقدية كبيرة للشركات والبنوك والمؤسسات المهددة بالإفلاس،وقد لا يكون آخرها افتعال حرب شاملة أو جزئية يتوقع المختصون بأنها يمكن أن تعيد التوازن للنظام الرأسمالي وتساهم في تحسين معدلات النمو ...لتتكيف من جديد مع تناقضاتها الذاتية وتستعيد هيمنتها العالمية.
إن ما أوردنا من عرض للأزمة الراهنة في لحظة تحتفي فيها القوى الشيوعية بذكرى ثورة إكتوبر، يفترض منا التأكيد على أن الظروف الراهنة التي يتوهم البعض من خلالها اقتراب الخلاص من استغلال النظام الرأسمالي لشعوب العالم ،لا تعني شيئاً في ظل غياب البديل السياسي الماركسي / اليساري .
إن الأزمات التي تعاني منها معظم التيارات والأحزاب والتجمعات اليسارية العالمية بفعل أزماتها الذاتية ،وبفعل هيمنة نظم سياسية قطرية شمولية تعمل على تغييب وإجهاض أي عمل سياسي يساري يمكن أن يساهم في استعادة الدور الفعلي للقوى الاجتماعية المتضررة من تناقضات النظم الرأسمالية بأشكالها ومستوياتها المتباينة ، إضافة إلى عمل السلطات السياسية المسيطرة الذي يرتبط موضوعياً مع الهيمنة الرأسمالية المعولمة في منع تشكّل المناخات الديمقراطية ، تدلل على إن على قوى اليسار الماركسي تحديداً مهمات مرحلية تفترض منها العمل على استعادة دورها السياسي في الأوساط الاجتماعية الحاملة لمشروع التغيير الديمقراطي الذي يمثل البديل الموضوعي لهيمنة رأس المال بأشكاله السائدة . وهذا يستدعي من القوى الوطنية الديمقراطية اليسارية الماركسية إعادة قراءتها لواقعها ولواقع مجتمعاتها ، والعمل على تحديد مهماتها الراهنة والإستراتيجية على ضوء التطورات التي تؤكد سمة الترابط ، وفق منهجية معرفية وفكرية وسياسية علمية موضوعية .
إن من الدلائل التي يمكن أن تكون مصدراً للتفاؤل هي تجدد الاهتمام بالفكر الماركسي الذي ما زال حتى اللحظة يمثل الأساس المعرفي / النظري لقراءة وتحليل النظام الرأسمالي، والذي من خلاله يمكن إيجاد آليات مناسبة لتجاوزه . وهنا لا بد من التنويه من أن العودة إلى فكر ماركس يجب أن ترتبط بالوعي الديمقراطي والممارسة الديمقراطية ،والعمل الفكري لإنضاج مفاهيم سياسية يتحدد من خلالها الموقف من : دكتاتورية البروليتاريا ، التعددية السياسية ، أشكال تجاوز الرأسمالية ، وتحديد شكل ووظيفة ودور الدولة المستقبلي ..... كل هذا وغيره يجب أن يتأسس على الفهم الديمقراطي للتعددية السياسية وحقوق المواطنة وحرية التعبير ، والحفاظ على حقوق الأقليات القومية والإثنية في ظل نظام ديمقراطي يقوم على التعايش السلمي القائم على الإقرار بالتنوع الاجتماعي والسياسي .