الماركسية وأطياف كارل ماركس


أحمد الناصري
2008 / 10 / 31 - 10:05     

الماركسية نظرية اجتماعية وجمالية وحياتية راقية، ترتبط بالحداثة وآفاقها المفتوحة، وهي نظرية للتقدم والبناء الإنساني، هدفها الإنسان وحقوقه وحاجاته الأساسية، المادية والروحية والثقافية، وتتصدى للاستغلال والاستعباد والقهر والظلم بجميع أشكاله ومصادره ودرجاته، ولها قدرة كبيرة على التطور والتجاوز واستيعاب الجديد، لارتباطها بالواقع وبالعلوم وبحرية التفكير وبآفاق وقدرات التفكير والعقل البشريين، والماركسية ليست نظرية متجهمة وقاسية في شكلها ومضمونها، كما يعتقد البعض، إنما هي، فكر إنساني حساس ورقيق وشفاف، يمزج بين المعرفة والعلم والثقافة والفن والحب والعلاقات الإنسانية النبيلة، فكر يحب الفرح والسعادة وينتجهما. وهي بذلك تكون نظرية إنسانية عقلية من الطراز الأول، ذات طاقة إبداعية خلاقة.
ظهرت في التاريخ البشري نظريات وأفكار وتصورات كثيرة لا حصر لها، بعضها تقادم وأنتهي، وبعضها له قدرة على الاستمرار والتجاوز، وهناك نظريات سليمة ونافعة، وأخرى خاطئة وخطيرة ومدمرة، حسب الموقف الأساسي من الإنسان، وحسب الموقع والموقف الاجتماعي والطبقي. فأين تقف وتقع النظرية الماركسية بين النظريات؟؟ وهل نستطيع إثبات هذا التوصيف الأولي، وهذه الكلمات القليلة بصدد الماركسية مثلاً؟؟ وهل هذه الصفات مستمرة وقائمة إلى اليوم، بعد مرور كل هذه العقود الطويلة، وهذه التحولات الجذرية والشاملة في العالم؟؟ هل تقادمت الماركسية؟؟ أم تقادمت أجزاء منها، بسبب التغيرات الموضوعية الكبيرة التي طرأت على موضوعات ومواد الواقع والحياة؟؟ وما هي الأجزاء التي يبست في شجرة الماركسية الوارفة الظلال؟؟ وماذا بقي منها مورق ومشع؟؟ وهل الماركسية قادرة على تجاوز القديم واستيعاب التطورات الجديدة الهائلة؟؟ وهل للماركسية أن تشارك وتساهم في الإجابة على الأسئلة المصيرية الجديدة والكثيرة، فيما يتعلق بحياة الإنسان ومصيره ومستقبله؟؟
أدرك إن تلك المهمة ليست سهلة، وليست عادية، ولا يمكن إثباتها بشكل ميكانيكي عام، أو بطريقة (إيمانية) شكلية جامدة وجاهزة، يكررها البعض من دون دراية ودراسة تتطلبها الماركسية ذاتها، وكأنها مسلمات دينية مقدسة، أو بواسطة اطمئنان داخلي مغلق، يوفر قناعة بلا اختبار، أو خارج النقد والمراجعة، مما ضيع فرص وإمكانيات لنقد وتطوير الماركسية.
جوهر النظرية الماركسية الجدلي، المادي والتاريخي، يرتبط ويتمحور حول منهجها الداخلي، التحليلي والتغييري، وقدرتها على استيعاب الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية والجمالية والعلمية، من خلال دراسة التاريخ، ودراسة الظواهر الجديدة التي تمر بها المجتمعات والطبقات والشعوب، من داخل المجتمع الرأسمالي، وعن أسلوب الإنتاج الرأسمالي وقوانينه، والعلاقات الرأسمالية الاستغلالية. وإن ما كتب عن جوهر العلاقات الرأسمالية لا يزال يحتفظ بصحته وصوابه. كما إن الماركسية لم تغلق آفاق ومسارات الاجتهاد والإضافة والنقض والتصحيح والتجاوز. بينما لا توجد نظرية اجتماعية درست هذه القضايا بالطريقة الماركسية، من حيث الجذرية والعمق والدقة. ولم يجر تجاوز النظرية الماركسية إلى الآن، من قبل نظريات اجتماعية أخرى، رغم كل هذا الوقت الطويل على ظهورها.
لم تغادر أفكار وأطياف كارل ماركس، مسرح الخيال والعقل والحلم البشري، ولا بال الكادحين والمعدمين، ولم تتراجع النظرية الماركسية عن موقعها في الإنجاز الفكري الاجتماعي والتاريخي بين جميع النظريات، في التقييمات العلمية والأكاديمية الموضوعية، لكنها تراجعت في ميدان السياسة التطبيقية، بسبب الأخطاء والإخفاقات الجسيمة، وما تعرضت له من حرب شرسة وصراع دام ورفض وتخريب وتشويه من الخارج والداخل، وبسبب ما عانته الماركسية أيضاً من الابتذال والإهمال على صعيد التطبيق والنظرية، منذ فترات مبكرة، في كل التجارب التي أنجزت.
تعود الماركسية من جديد كحاجة موضوعية، وحاجة إنسانية، وكمنهج للتفسير والتحليل والتغيير، وكنظرية قادرة على تجديد نفسها بالرجوع إلى جدلها الداخلي، كنظرية نقدية، وقدرتها على طرح الأسئلة الراهنة، والمساهمة الفعالة في الإجابة عليها. فنحن لا زلنا نواجه نفس المشكلة التي واجهت ماركس، ولكن بصورة أكبر وأضخم وأكثر وحشية، وهي آليات النظام الرأسمالي، والعلاقات الرأسمالية، وما ينتج عنها من استغلال وحروب وأزمات، ومشاكل الفقر والجوع والتخلف حول العالم، والعمل على استبدالها بنظام العدالة الاجتماعية، نظام الاشتراكية، الذي تتطلع له البشرية والشعوب في أرجاء المعمورة، كحلم وهدف قابل للتحقق، حيث إن الاستغلال الطبقي لم يختف ولم يتغير أو يتوقف ذاتياً. وعلى اعتبار أن السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد، وترجمة مباشرة للتوجهات والمواقف والنوايا الاقتصادية، مما يمس جوهر وجود وحياة الناس وطرق عيشهم. والماركسية تكشف وتفكك مغاليق الاقتصاد، فهي بذلك تكشف وتحدد نوايا السياسة والشعارات السياسية، كما إنها تتعامل مع الدين والتاريخ والتراث والفن والأدب بطريقة نقدية تفكيكية، جديدة وحازمة.
إن استمرار الرأسمالية إلى هذه اللحظة وعدم سقوطها لا يعني صحتها من الناحية الإنسانية والتاريخية، كنظام إنساني صالح، لكنه يعني من جهة أخرى قدرتها على البقاء والاستمرار إلى أمد آخر، وفق آليات ومعالجات داخلية خاصة ومتبدلة، ونتيجة للإمكانيات الهائلة التي يوفرها النهب والاستغلال الداخلي والخارجي، للشعوب والأمم والبلدان الأخرى. وبسبب قذارة ووحشية الأساليب المستخدمة في الصراع والبقاء، وفشل الخصم الطبقي في تجديد أساليبه وتنفيذ برامجه الخاصة. وهدا لا يعني خطأ وفشل أفكار ماركس، لأنها لم تطبق أصلاً. كما أنه فصل من فصول الصراع الطبقي التاريخي المستمر، بين المستغلين والمستغلين، الذي مرت وتمر به البشرية، لا يمكن تجاوزه بالكلمات، مهما كانت جميلة وبراقة ومخادعة، حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو نهاية التاريخ، أو عجز وفشل الماركسية التاريخي. والحكاية لم تتوقف أو تنتهي بعد، وربما يأخذ الصراع أشكالاً جديدة، ما دامت المشاكل قائمة وموجودة، ويعاني منها ملايين البشر، والرأسمالية غير قادرة على حلها وتجاوزها، مثلما ثبت ذلك بشكل قاطع إلى الآن.
نحن بحاجة إلى إعادة قراءة ماركس من جديد، لكن بقراءة معاصرة ومقاربة للواقع والوقائع الراهنة، مع دراسة الخصائص التاريخية والمحلية المحددة، ومعرفة مدى أهميتها وتأثيرها على وعي الناس ومصالحهم، واستيعاب التحولات الكبيرة الجارية في العالم، منذ ماركس وما بعده. كما إننا بحاجة إلى جهد نظري جماعي عال ودائم لرصد ومتابعة التحولات الحياتية المستمرة، وفق منطق وروح الجدل وديالكتيك الحياة نفسها ومسيرتها الدائمة، التي لا تنقطع ولا تتوقف عند نقطة أو حد معين ومعروف. فعندما درس ماركس تاريخ الرأسمالية في إنكلترا وألمانيا ميز بينهما، لأنه عاد ودرس تاريخ كل بلد على حدة، ودرس كيفية نشوء المدن فيهما، وبذور وكيفية تكون الرأسمالية لاحقاً في كل بلد، وعندما لامس النموذج الآسيوي على أساس تاريخي، توصل إلى اكتشاف هام وكبير، هو نمط الإنتاج الآسيوي، الخاص بالمنطقة.
والنظرية الماركسية، لا علاقة لها بالموسمية والمزاج الفردي للناس، والهبوط والصعود أو التحولات الطارئة، وهي ليست نظرية موضة حسب الطلب أو الرواج والسوق، أو نظرية استعراضات فكرية أو مماحكات وسجالات بلا طائل أو فائدة. كما إنها ليست نظرية جامدة، لا تعرف أو تقدر قدرة وطاقة ودقة الشعار المطلوب، أو الموقف المعين. لقد تعرفنا على نماذج ماركسية متنوعة، وعناصر ماركسية متنوعة، بعضها راق ومتقدم ، لكن البعض الآخر مبتذل وتقليدي وشكلي أو مؤقت، لا يمت للماركسية بصلة، بل إن البعض ألحق أضراراً بالغة بالماركسية، من حيث يريد أو لا يريد، وقد جنت عليها بعض التجارب والحركات والتطبيقات السياسية التي حملت أسمها. ونحن بحاجة إلى الفرز والوضوح، ومعيارنا في ذلك المنهج الماركسي ذاته، لكي نستعيد منهج ماركس، وتلك هي المهمة الرئيسية، وموضوع البحث والجدل الأول، بين الماركسيين أنفسهم، ومع خصومهم، من جميع الأصناف.
في حالتنا العراقية والعربية تستطيع الماركسية المساهمة الكبيرة والرئيسية، في استعادة وإطلاق مشروع النهضة والبناء والتقدم المتوقف منذ عقود، عبر دراسة الواقع وخصائصه، وتشخيص المشاكل المتراكمة التي تواجه مجتمعاتنا، والمساهمة الفعالة والمؤثرة في وضع الحلول لها، بطريقة واقعية عميقة، وليست شكلية وسطحية وخارجية، للمساعدة على الانتقال إلى مسار وأفق تاريخي آخر، إلى جانب النظريات والمدارس التقدمية الأخرى. إن فرص الماركسية واليسار متاحة دائماً، من خلال نشاطات وتوجهات صائبة ودقيقة، فكرية وسياسية وجماهيرية، خاصة في الأزمات والمنعطفات التاريخية، حيث تظهر النظرية الماركسية، فعالية مضاعفة ومتزايدة، وتألق خارق، وهذا أحد أسرار قوتها وعمقها وديمومتها.
ما يهمني قوله أخيراً، بأنني أكره الانتهازية والموسمية والتقلب، لكنني ليست ضد التطور والتجديد، مهما كان حجمه ونوعه، و لم أكن ماركسياً موسمياً، ولم أعد إليها بسبب الأزمة الحالية للرأسمالية، والهرج العام الحالي، وعودة شبح ماركس يجول في الجامعات والنوادي والشوارع والحانات، وعلى صفحات الجرائد والكتب والمعارض وقمصان الشابات والشباب، كما جيفارا الذي لم يغادر المكان والمشهد لحظة واحدة، رغم كل الظروف والأحوال وصروف الدهر.. لن أتخلى عن الماركسية كنظرية هادية تدافع عن الإنسان كقيمة عليا، وعن حقوق الإنسان الحقيقية وليس الملفقة. ولن أتنازل عن رايتها وقميصها المشرع، وسأبقى منفتح على كل النظريات والأفكار والتجارب الإنسانية الأخرى، ولندع ألف زهرة طبيعية وبرية تتفتح في حقول الإنسان والحياة.