فكر وحوار : نظرية الديمقراطية المغربية


بلكميمي محمد
2008 / 10 / 31 - 06:09     

تقديم: نظرية الديمقراطية المغربية موضوع تناوله الراحل عبد السلام المؤذن وهو في زنزانته بالسجن المركزي بالقنيطرة ، اجتهاداته في تحليل الواقع المغربي لاكتشاف قوانينه المحركة من اجل انارة النضال الديمقراطي ، وقد ساهم ايضا باجتهادات بالغة الاهمية على عدالة وتقدمية الكفاح المغربي من اجل استرجاع الاقاليم الصحراوية .
المساهمة التي ننشرها بهذا المنبر من جريدة انوال 1988 والتي تناولت اهم قضايا النضال الشعبي المغربي ، وهي قضية الديمقراطية وتعرض فيها الى سبعة عناوين رئيسية 1- حقيقة المجتمع المدني المغربي . 2- حقيقة الدولة السياسية المغربية 3- جدلية الدولة والمجتمع . 4- الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة الواحدة .5- الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة .6- تناقضات ديمقراطية دولة الطبقة الواحدة .7- ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع .
الحلقات الاولى تتناول العناوين الثلاثة الاولى .

لايمكن تغيير المجتمع بدون فهم المجتمع ، ولايمكن فهم المجتمع بدون الانتقال بالفكر ، من دائرة الفكر السطحي الانطباعي الى دائرة الفكر النظري العملي .
ان الفكر السطحي يبقى دائما فكرا سطحيا ، مهما حاول صاحبه استعمال ترسانة كاملة من المفاهيم الابستمولوجية الحديثة ، تماما كما ان المناضل السطحي هو مناضل سطحي ، مهما حاول الظهور بمظهر الثوري الراديكالي .
ان الخط الفاصل بين الفكر السطحي ، الذي يبقى سجينا للشكل الظاهري كما يعكسه الدماغ البشري في صورته المباشرة ، وبين الفكر العلمي النظري الذي يتجاوز السطح نحو الصيرورة الجوهرية المتحركة ، يكمن في القدرة النظرية على تحديد الاشكالية السياسية المركزية ، المطروحة موضوعيا على المجتمع في ظرف معين وزمان معين بعبارة ، يجب الاجابة عن الاشكالية التالية : ماذا يريد المجتمع المغربي بالضبط ، في هذه المرحلة المحددة من تاريخه الراهن ؟ .
ان الشعوب الملتصقة بارض الواقع ، لانها لاتهوى طرح الاشكاليات المجردة ، فهي لذلك لا تستطيع ان تطرح على نفسها سوى الاشكالية التي تقدر على حلها . فماهي اذن اشكالية الشعب المغربي في الظرف الراهن ؟ النابعة من قعر واقعه المادي المعيش ، لااشكالية هذا المثقف او اذاك ، النابعة من الاهواء والرغبات الذاتية ، المفصولة عن حركة المجتمع وعن حركة التاريخ ؟ .
هذه الاشكالية يمكن تركيزها في كلمة واحدة وموحدة هي : الديمقراطية . ان كلمة ديمقراطية تلخص كل البرنامج السياسي المطروح على القوى الديمقراطية المغربية الفعلية ، ولانها الكلمة الوحيدة التي تستجيب لحاجة المجتمع المغربي ، في هذه اللحظة التاريخية من تطوره .
لكن هناك البعض من المناضلين والمثقفين المغاربة ، من يشكك في معقولية ذلك الطرح ، وبالفعل فهم على جانب من الحقيقة ، ذلك انه اذا اقتصرنا على النظر الى سطح ، فاننا نجد بان النظام السياسي المغربي ، يمكن ان يكون قادرا على كل شيء .. ، سوى على التطور في اتجاه ديمقراطي فعلي .
لكن الحقيقة ، وهذا هو خطأهم الأول ، لم تكن في أي يوم من الايام ، قابلة للاختزال في سطح الظواهر ، فلو كانت حقيقة الاشياء هي ظواهرها ، لما كانت البشرية في حاجة الى ابتكار العلم .
اما خطأهم الثاني ، فيكمن في الاعتقاد بان القول بامكانية تطور النظام في اتجاه الديمقراطية ، يعني القول بان النظام سيتبرع بها كمنحة من تلقاء نفسه ، وبطبيعة الحال ، هذا يتناقض جذريا مع كل المنطق الذي عرفه التاريخ حتى الان . وقديما قال هيجل عن حق : لاشيء عظيم تحقق في التاريخ بدون الم ومعاناة .
ان تحقيق الديمقراطية في المغرب ، هو شيء عظيم ، ولذلك فهو يتطلب بالضرورة من الشعب ومناضليه ، كثيرا من الالم والمعاناة ، مع ذلك يمكن اختصار تلك الآلام والمعاناة ، ولكن فقط اذا كان هناك وعي تام بالهدف الديمقراطي اولا ، واذا توحدت كل القوى الديمقراطية حول ذلك الهدف العظيم ثانيا .
مرة اخرى : لماذا الديمقراطية ليست فحسب مسالة ممكنة ، بل وضرورية ايضا بالنسبة لمجتمع المغرب ؟ .
هذا هو التحدي الذي يواجه هذه المقالة النظرية . وهذه هي المقالة النظرية التي تواجه هذا التحدي .
في البدء كان الفعل : هكذا تكلم جوته على لسان فوست .
أرنا إذن فعلك .

1- حقيقة المجتمع المدني المغربي .

ان المجتمع المدني المغربي ، هو كل مظاهر حياة المجموعة البشرية المغربية ، انه بالتالي هو الارض المغربية ، وهو الرجال المغاربة والنساء المغربيات ، وهو اسلوبهم في التنظيم الاجتماعي والعيش وهو نمطهم في الملكية والانتاج المادي وتوزيع الثروة . كما انه هو طريقتهم في انتاج الثقافة ونشرها واعادة انتاجها . ويمكننا ان نستمر ونستمر في ذكر خاصيات المجتمع المغربي دون ان نستنفذها ، لان تلك الخاصيات لاحصر لها .
بكلمة : ان المجتمع المدني المغربي ، هو كل الحياة الظاهرة التي يمكن تلمسها بشكل محسوس ومشخص ، لدى الشعب المغربي ، ان المسالة ، على سبيل المثال المجرد ، تشبه قطعة السكر . فكما ان الذي يعدد هوية السكر ، هو لونه الابيض ، وطعمه الحلو ، وشكله المكعب ... الخ فكذلك ان الذي يحدد هوية المجتمع المدني المغربي ، هي كل خاصياته الظاهرة وصفاته الملموسة .
لكن المجتمع المغربي ، ليس هو كل خاصياته الظاهرة فحسب ، تماما كما ان قطعة السكر ، لايمكن اختزال حقيقتها في خاصيتها الظاهرة فقط ، ان الوقوف عند حدود الخاصيات السطحية ، لايمكن ان ينتج سوى معرفة سطحية ، ولذلك من اجل انتاج معرفة علمية ، لابد من تحقيق قفزة الانتقال من الظاهر الى الباطن .. من السطح الى العمق .. من الملموس الى المجرد .. من المباشر الى اللامباشر .. او بعبارة / كما يحلو لهيجل ان يقول: لابد من انشطار الواحد الى اثنين .
لماذا وكيف اذن المجتمع المدني المغربي ، ليس هو الملموس فقط ، بل هو المجرد ايضا ، وليس هو الهوية وحدها ، بل والاختلاف كذلك ؟ لماذا السطح الظاهر الذي يبدو وكانه واحد ، انما هو في حقيقته منقسم على نفسه الى اثنين متناقضين ، ولكنهما موحدان في نفس الوقت ؟ اكثر من ذلك : لماذا في وحدة الضدين تلك .. في وحدة الظاهر والباطن .. السطحي والعميق .. الهوية والاختلاف ، ان الطرف الظاهر لايمثل سوى وجود تابع للطرف الخفي ، الذي هو حقيقة وجوهر الاول.
لتوضيح ذلك يتعين علينا العودة الى مثال قطعة السكر .
قلنا في البدء ان السكر هو الخاصيات المحسوسة ، من لون وطعم ، وشكل ، وغيرها ، ثم قلنا بعد ذلك بان المحسوس ينشطر الى اثنين ، بمعنى ان ماوراء المحسوس الظاهر ، يوجد المجرد الخفي ، وان المجرد هو حقيقة الملموس .
واذن ماهو الشيء المجرد بالنسبة لقطعة السكر ؟
ان السكر قبل ان يصبح جاهزا للاستهلاك في فنجان القهوة ، قد خضع في الاصل لعملية الانتاج داخل المعمل . واذن فان السكر هو نتاج لعمل العامل الذي صنعه .. نتاج العمل الذي حول المادة ماقبل المصنعة الى مادة مصنعة من السكر .
ان السكر اذن يتضمن العمل المصروف في انتاجه ، وهو يتضمنه لا كشيء متميز عنه ، بل متوحد معه توحدا كليا. لان الوحدة بين المادة السكرية والعمل ، هي وحدة مطلقة ، باعتبار ان العمل يوجد في كل ذرة من ذرات السكر ، من هنا يستحيل التمييز بين العمل والسكر هما شيء واحد .
وفي الحقيقة ان ملموسية العمل ، لانلمسها فقط في السكر في حد ذاته كنتاج نهائي مكتمل التصنيع ، وانما نلمسها ايضا ، منذ اللحظة الاولى التي شرع فيها العامل في صنع السكر ، فهذا العامل يستحيل عليه صنع السكر ، بدون ان يكون عمله عملا ملموسا في المنطلق ، أي بدون تحديد هدف ملموس ، ودون استعمال وسائل الانتاج الملائمة ، ودون تركيز الذهن على الهدف المنشود ، في المنطلق قرر العامل صنع السكر وليس شيئا اخرا من هنا ملموسية هدفه وعمله .
ان العمل المصروف في انتاج السكر ، هو عمل ملموس .
هذه اذن هي النتيجة الاولى لذلك التحليل وهذا هو الوجه الاول للمسالة .
لكن ماهو وجهها الثاني النقيض ؟ .
ان العمل المصروف في انتاج السكر ، هو عمل ملموس .
هذه اذن هي النتيجة الاولى لذلك التحليل وهذا هو الوجه الاول للمسالة .
قلنا العمل الملموس ، لكن ماهو العمل الملموس ؟ انه هو قوة العمل المتحركة صوب انتاج منتوج معين . وما هي الطاقة المحركة لقوة العمل تلك ؟ انها هي العضلات والاعصاب التي يستهلكها ويحرقها جسم العامل ، من اجل توليد تلك الطاقة .
الاصل اذن هو الاعصاب والعضلات ، التي هي بمثابة الوقود لتوليد طاقة العمل ، ان طاقة العمل ، في منشئها الاصلي ، هي اذن طاقة مجردة غير مرتبطة بشكل محدد للعمل . ولذلك فان ارادة العامل ، هي التي تضفي عليها شكل العمل المجسد في السكر ، او المجسد في القطران فقبل ان يصبح العمل ملموسا ، كان اذن مجردا ، والمجرد هو هو حقيقة الملموس وجوهره .
لكن لايجب الفهم من ذلك القول ، بان هناك نوعين من العمل : عمل ملموس والآخر مجرد ، بل هناك عمل واحد فقط ، انما هو متعارض مع ذاته ومنقسم على نفسه بين قطب ملموس وقطب مجرد . ان قطعة السكر هي في نفس الوقت ، نتاج لعمل مجرد ولعمل ملموس . لعمل مجرد : « قوة العمل الضرورية لانتاج السكر تتطلب في حد ذاتها استهلاك كمية معينة من الاعصاب والعضلات ، لتوليد طاقة العمل كعمل في حد ذاته . ولعمل ملموس : لان العامل وضع نصب عينيه تحقيق هدف محدد ، هو انتاج السكر .
ان الخلاصة النظرية العامة ، التي يجب استخلاصها من التحليل السابق ، هي التالية : لايجب النظر الى قطعة السكر بنظرة واحدة الجانب ، بل النظر اليها في انشطارها الى اثنين متعارضين . النظر اليها في وحدتها المتناقضة .
هذه خلاصة حاسمة على الصعيد المعرفي . وعلى فهمها يتوقف فهم كل العرض اللاحق . لذلك من المستحسن ، ومن اجل المزيد من ترسيخها في الذهن ، توضيحها ببعض الامثلة المركزة الملموسة .
ان التفاحة ، مثلا ، التي اعضها واتلذذ باكلها ، هي بالنسبة لي ، في صورتها المباشرة ، مجرد كيف ، لكن وراء الكيف الظاهر المباشر ، يوجد الكم الباطن اللامباشر . فالتفاحة قبل ان تكون كبفا ، هي في الاصل كم . وهذا الكم يعبر عن نفسه بواسطة ملايير الملايير من الذرات التي تتشكل منها التفاحة .
مثال اخر : المثلث . في صورته المباشرة ، هو شكل هندسي مكون من اضلاع وزوايا ومساحة . لكن وراء تعبيره الهندسي المرئي الملموس ، يوجد تعبيره الرياضي المجرد الذي هو : نصف حاصل ضرب القاعدة في الارتفاع .
مثال اخر : في القرن التاسع عشر ، الف الموسيقار النمساوي يوهان شتراوس ، موسقى فالسية سماها : الدانوب الازرق الجميل ( نسبة الى نهر الدانوب المار من فينيا ومن عواصم اوربية اخرى ) ان فالس شتراوس هذا ، كله يقطر جمالا ومرحا وسلاما ، لكن وراء الدانوب الازرق الجميل ، يوجد الدانوب الاحمر القبيح ، الذي صنعته دماء الحروب الاوربية المدمرة ، من نابليون الى بسمارك .
ويمكننا ان نستمر في جرد هذه الامثلة ، بدون ان نصل الى نهاية ، لان كل ماهو موجود – بالمطلق- هو عبارة عن وحدة ضدين .
والان لنعد الى مجتمعنا المدني المغربي .
في صورته السطحية المباشرة ، ان المجتمع المغربي هو كل مظاهر حياة المجموعة البشرية المشكلة له . لكن ماذا وراء السطح ؟ .
ان المجتمع المدني المغربي ، لكي يوجد ويستمر في الوجود ، لابد له من وسائل العيش المادي والروحي . لكن وسائل العيش تلك هي بدورها في حاجة الى من ينتجها .. في حاجة الى وسائل الانتاج .. اين توجد وسائل الانتاج هذه ؟ انها من حيث الاساس ، ليست تحت مراقبة المجتمع المدني ككل ، بل تحت سيطرة طبقة اجتماعية هي البورجوازية . واذن فالبرجوازية هي القطب الثاني النقيض للاول لان ما وراء المدني يوجد الطبقي . وما وراء السطح الملموس ، يوجد العمق المجرد . معنى هذا ان المجتمع المدني يمكن تجريده في طبقته السائدة .
لكن ذلك التجريد الطبقي هو شيء مثالي ، موجود فقط في الخيال والفكر والتحليل ، اما في الواقع فان الطبقة المجردة لا وجود لها ، لانه يستحيل فصلها عن جسم المجتمع المدني الذي توحدت معه توحدا تاما . بهذا المعنى يصح القول بان المجتمع المدني هو طبقته السائدة ، وان الطبقة السائدة هي المجتمع المدني ولذلك فان الوسيلة الوحيدة لفصل الطبقة عن المجتمع ( وهو شرط ضروري لامتلاك الواقع بشكل ملموس ) ، هو التجريد . من هنا رغم ان التجريد شيء مثالي ، لا وجود له خارج دائرة الفكر ، الا انه تجريد يعكس واقعا فعليا .
والخلاصة : ان الطبقة السائدة – التي تعارض ، وتتميز عن وتختلف عن المجتمع المدني المغربي ، لكن في نفس الوقت تتوحد معه توحدا مطلقا -- هي حقيقة المجتمع المدني المغربي . وهذا الاخير هو وحدة الملموس ( المدني ) والمجرد ( الطبقي ) .

2- حقيقة الدولة السياسية المغربية .
ان الدولة السياسية المغربية ، هي عبارة عن جهاز قوة منظمة عمومية ، وبالنظر لطابعها العام ذلك ، فهي توجد فعلا فوق المجتمع المدني ، حيث تتخذ موقفا محايدا من مكوناته.
ان الوظيفة الاساسية للدولة ، هي الحفاظ على الامن : الامن الداخلي بين المواطنين ، وهذا هو دور الشرطة والقضاء . والامن الخارجي للوطن ، وهذا هو دور الجيش .
لكن الشرطة والقضاء والجيش ، لكي يتفرغوا للقيام بمهامهم ذات المصلحة العامة ، يتعين على المجتمع المدني تامين عيشهم وتمويل انشطتهم ، من هنا ظهور فئة من البيروقراطية ، مهمتها جمع الضرائب .
بالاضافة الى الامن ، بالمعنى الحصري للكلمة ، فان الدولة يمكن توسيع زظيفتها الامنية ، لتشمل الامن الاجتماعي العام ، وفي هذا الاطار يدخل دور الدولة في تزويد المواطنين بالحبوب من الاسواق الاجنبية ، في مواسم الجفاف . وفي دعم اسعار السلع المستوردة وغيرها .
كذلك فان الدولة تقوم بالخدمات الاجتماعية للصالح العام ، مثل : بناء المستشفيات ، والمدارس ، ودور السكن وغيرها .
هذه هي اذن الوظيفة العامة للدولة ، وهذا هو الوجه الاول للمسالة .
فماهو وجهها الثاني النقيض ؟
ان الدولة السياسية المغربية ، ليست قوة منظمة عمومية وكفى ، ولكنها ايضا قوة خاصة . فما وراء العام يوجد الخاص . ان العام يخفي الخاص . والخاص هو حقيقة العام وليس العكس .
لناخذ هاتين الحالتين المتعارضتين للمس الخاص .
الحالة الاولى : ثمة عمال مغاربة يضطرون للاضراب عن العمل ، من اجل الدفاع عن مصالحهم .
الحالة الثانية : ثمة ارباب عمل مغاربة يضطرون لاغلاق معاملهم وتسريح عمالهم ، لان مصلحتهم اصبحت تقتضي ذلك .
ان هاتين الحالتين متساويتان : في الحالة الاولى : العامل يضرب عن العمل ، وفي الحالة الثانية ، الراسمال هو الذي يضرب عن العمل .
لكن رغم تشابه الحالتين ، فان الدولة لاتتخذ موقفا موحدا منهما ، في الحالة الاولى ، يتم تطويق المعامل بقوات البوليس لارغام العمل على العودة الى الراسمال ، لكن في الحالة الثانية ، لايتدخل البوليس لارغام الراسمال على العودة الى العمل .
ان الدولة اذن تنحاز للراسمال ضد العمل .
مثال اخر : ثمة جماهير ساخطة على احوالها ، تضطر للتظاهر في الشوارع للتعبير عن سخطها ، فتتدخل قوات الامن بدباباتها ومدرعاتها لسحقها بلا رحمة ، وكانها توجه عدوا اجنبيا .
لكننا لم نسمع في أي يوم من الايام ، بان قوات الامن قد فعلت شيئا ضد الذين ينعمون في قمة السعادة ، مع انهم هم سبب قعر الشقاء الذي سقطت فيه الجماهير المسحوقة .
ان المجتمع المدني المغربي ، منقسم على نفسه بشكل عميق ، بين قطب الثروة وقطب البؤس ، ولا يمكن للقطب الاول ان يزدهر ، الا على حساب انحطاط القطب الثاني . فكلما تركزت وتمركزت الثروة في جانب ، الا وتوسع وتعمق البؤس في الجانب الاخر . ان علاقة الثروة بالبؤس ، هي علاقة الغاء واقصاء طرف للطرف النقيض .
والقول بامكانية الجمع بينهما ، عن طريق « اغناء الغني دون افقار الفقير » كما تزعم بعض الا وساط المغربية ، فذلك منطق بالغ السمو في تركيبه ، لايقدر عليه سوى المتسامين بثرواتهم . اما المنحدرون في عيشهم ومنطقهم على السواء ، فيعرفون جيدا ، بان الجمع بين الثروة والبؤس ، مثل الجمع بين النار والماء ... !
وهذا شيء بديهي . فلكي تتركز الثروة في ايدي الاقلية ، ينبغي ان تنفصل عن ايدي الاغلبية . اذ لوكانت كل الاغلبية ميسورة الحال ، لما ظهر الى الوجود مفهوم تركز الثروة . فالواحد ينفي الاخر ويلغيه .
واذن فالمجتمع المدني المغربي ، المنقسم طبقيا على نفسه ، بين طبقة البورجوازيين وطبقات الكادحين ، لايمكنه ان يعيش .. لااقول يوما واحدا ، بل ساعة واحدة ، بدون دولة . أي بدون تلك القوة المنظمة العمومية ، حامية ثروة الاقلية من « جنون » الاغلبية . من هنا الطابع الطبقي الخاص للدولة .
والخلاصة : في صورتها السطحية الباشرة ، تبدو الدولة السياسية المغربية ، على انها قوة منظمة عمومية ، مسخرة لخدمة مصالح المجتمع المدني في شموليته . لكن في جوهرها غير المباشر ، فهي اداة لخدمة مصالح طبقة خاصة مكونة من اصحاب الثروة .
ان الدولة هي اذن وحدة بين ضدين ، لاغنى لاحدهما عن الاخر .. انها وحدة بين ضدين لاغنى لاحدهما عن الاخر .. انها وحدة بين الوظيفة السياسية العامة ( المجتمعية ) ، والوظيفة الخاصة ( الطبقية ) ، لكن في ظل تلك الوحدة المتناقضة يمثل الخاص حقيقة العام .
واذن فان الطبقة البورجوازية المغربية ، هي حقيقة الدولة السياسية المغربية .

3- جدلية الدولة والمجتمع .

ماهي العلاقة الصميمية بين الدولة السياسية والمجتمع المدني ؟
ان الدولة السياسية ليست هي المجتمع المدني ، كما ان المجتمع المدني ليس هو الدولة السياسة . فالمجتمع المدني هو كل مظاهر حياة الشعب الذي يشكله ، بينما الدولة السياسية هي قوة منظمة عمومية فوق المجتمع المدني . هذا اولا .
وثانيا ، لقد لاحظنا في الفقرات الاولى ، بانه يمكن تجريد المجتمع المدني من شكله الظاهري ، واعادته بالتالي الى نواته الحقيقية . وقلنا بان تلك النواة الحقيقية هي الطبقة البورجوازبة المغربية .
كذلك لاحظنا في الفقرة الثانية ، بانه يمكن تجريد الدولة السياسية من مظهرها الخارجي ، لاختزالها في نواتها الحقيقية ، وقلنا بعدئذ بان حقيقة الدولة السياسية ، هي الطبقة البورجوانزية المغربية .
معنى هذا ان المجتمع المدني هو دولة سياسية ، والدولة السياسية هي مجتمع مدني ، ماداما قائمين معا على قاعدة واحدة ، ومؤسسين على ارضية مشتركة ، هي الطبقة البورجوازية المغربية .
هناك اذن حقيقة واحدة .. طبقة واحدة ( البورجوازية) ، لكنها تتمظهر في شكلين مختلفين متعارضين : شكل مدني ( المجتمع المدني ) وشكل سياسي ( الدولة السياسية ).
ان كون برهان غليون ( وهو ابرز الكتاب العرب الذين اهتموا باشكالية الدولة في الوطن العربي ) ، لم ير في العلاقة بين الدولة والمجتمع سوى جانب الاختلاف . فلذلك جاءت خلاصاته النظرية خاطئة جذريا ، بل وساذجة .
اكثر من ذلك : فحتى جانب الاختلاف نفسه ، لم يطرحه طرحا نظريا سليما ، فهو يفكر وفق المنطق التالي ، ثمة مجتمع مدني كشيء مستقل ، قائم الذات ، ثم بازائه ثمة شيء اخر مستقل عن الاول وقائم بذاته ، هو الدولة ، والعلاقة بين الاثنين ، هي علاقة طلاق واختلاف تام .
ان هذا الطرح خاطئ من الاساس . اذ ليس هناك شيئان مستقلين عن بعضهما البعض ، شيء اسمه المجتمع ، وشيء اسمه الدولة ، بل هناك طرفان لشيء واحد من هنا نسبية ومحدودية الاختلاف بينهما .
ان النظرة العلمية للعلاقة بين الدولة والمجتمع ، تقتضي النظر اليهما في وحدتهما المتناقضة ، بمعنى : النظر اليهما كقطبين مختلفين من حيث الشكل والمظهر الخارجي ، لكنهما في نفس الوقت موحدان من حيث الجوهر ، لانهما يستندان الى نواة مجردة واحدة هي الطبقة البورجوازية . فهذه الاخيرة تعبر عن نفسها اذن ، مدنيا في المجتمع المدني ، وسياسيا في الدولة السياسية .
هذا هو المستوى الاول من التحليل .
لننتقل الى المستوى الثاني ،
قلنا ان المجتمع المدني والدولة السياسية ، هما قطبان لتعبير واحد ، لكن هذين القطبين لايلعبان نفس الدور . فالمجتمع المدني هو معطى اول ، بينما الدولة السياسية هي معطى ثان . ان المبادرة تنطلق من المجتمع المدني ، اما الدولة السياسية فهي الشكل التعبيري الذي تنعكس فيه تلك المبادرة . ان المجتمع المدني هو القطب النسبي ( أي بالنسبة للدولة السياسية ) ، بينما الدولة السياسية هي التكافؤ المطابق .
بعبارة ان الدولة السياسية هي انعكاس للمجتمع المدني ، فالدولة السياسية تعكس وتعبر عن حقيقة المجتمع المدني ، لان لكل مجتمع مدني دولته السياسية التي تناسبه وتوافقه ، في لحظة محددة من تطوره .
من هنا فالعلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية ليست علاقة اعتباطية قائمة على الصدفة ، بل علاقة ضرورية وموضوعية ، ولذلك ليست الدولة السياسية ، او الحاكمون على راسها ، هم الذين يجعلون المجتمع المدني يتمتع بهذا القدر او ذاك من الديمقراطية ، او يعاني من الاستبداد ، بل على العكس ، ان المجتمع المدني هو الذي يحدد الشكل السياسي للدولة ، وبالتالي هو الذي يجعلها تكون إما ديمقراطية او استبدادية ، مادامت الدولة في حقيقتها ليست سوى انعكاسا ضروريا لواقع المجتمع الموضوعي .
ان عدم ادراك العلاقة الضرورية الموضوعية التي تربط الدولة السياسية بالمجتمع المدني ، هو الذي جعل الكثيرين من الكتاب والمناضلين يسقطون في اوهام ساذجة مبتذلة ، تعتقد ان الحاكم الموجود على راس الدولة هو الذي يملك القدرة على تكييف شكلها السياسي في هذا الاتجاه او ذاك .
ان علاقة الدولة السياسية بالمجتمع المدني ، هي في ضرورتها وموضوعيتها ، لاتختلف في شيء عن كل العلاقات الضرورية الموضوعية الاخرى ، سواء تعلق الامر بالتاريخ او الطبيعة او الفكر .
والامثلة التالية هي اسطع دليل على ذلك .
مثال اول : العلاقة بين البضاعة والقيمة . ليس التبادل هو الذي يحدد قيمة بضاعة ما ، بل بالعكس ا ن البضاعة هي التي تحدد قيمتها . فالقيمة ليست سوى انعكاسا لواقع البضاعة الموضوعي . وهذا الواقع الموضوعي هو كمية العمل الضروري اجتماعيا لانتاج البضاعة.
مثال ثان : البصر ، ان البصر هو علاقة بين جسمين فيزيائيين ، جسم خارجي وعدسة العين . وفي اطار هذه العلاقة ، ليست عدسة العين هي التي تخلق وتحدد الجسم الخارجي المنظور ، بل بالعكس ان اشعة الضوء المنبعثة من الجسم الخارجي ، والمنعكسة على العدسة ، هي التي تثير العصب البصري وترسم صورة مطابقة للجسم الخارجي على العدسة.
مثال ثالث : الوزن ، ليست قطعة الحديد الموضوعة في كفة الميزان ، بوصفها وحدة قياس الوزن هي التي تحدد وزن الجسم الموضوع في الكفة الاخرى ، بل بالعكس ان هذا الجسم هو الذي يحدد وحدة القياس ، المعبرة عن وزنه والعاكسة لواقعه .
مثال رابع : الفكر ، ليس الواقع انعكاسا للفكر ، كما يزعم الفلاسفة المثاليون ، بل بالعكس ليس الفكر سوى انعكاسا للواقع الموضوعي ، والفكر يكون علميا بقدر ما يتمكن من عكس ذلك الواقع بصفة مطابقة وموضوعية.
وبالمناسبة يريد عبد السلام المؤذن ان يسجل ملاحظة خاطفة ، على كتاب الدكتور محمد عابد الجابري « نقد العقل العربي » ، ان الجابري اعتقد انه توصل الى تحليل بنية العقل العربي ، بمجرد تأكيده على ان ذلك العقل يتكون من نظام عرفان ، ونظام بيان ، ونظام برهان .
والحقيقة ان القول بان العقل العربي ، يتكون من نظام عرفان ونظام بيان ونظام برهان ، لايختلف في شيء عن القول بان قطعة السكر ، تتكون من لون ابيض وطعم حلو وشكل مكعب ، ولذلك كان تحليل الجابري تحليلا سطحيا .
ان التحليل العلمي للعقل العربي ، يقتضي احداث قفزة معرفية تؤدي الى انشطار الواحد الى اثنين . أي اكتشاف الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء سطح العقل العربي ، وتلك الحقيقة ليست شيئا اخر غير الواقع الاجتماعي الموضوعي نفسه .
من هنا سقوط الجابري في خطأين نظريين كبيرين : 1) نظرته اللاجدلية الواحدة الجانب ، الناجمة عن تجريد العقل العربي عن جوهره الحقيقي ، الذي هو المجتمع العربي ..2) ونتيجة لذلك سقوطه في النظرة المثالية ، التي تتوهم امكانية ادراك حقيقة العقل العربي من خلال هذا العقل نفسه ، الذي تم تجريده عن جوهره ، الامر الذي جعل اطروحات الكتاب الرئيسية ، تكون خاطئة كليا ( على سبيل المثال ، تقييمه المثالي لعصر التدوين ، وربطه المثالي بين عقل التدوين والمجتمع العربي في العصر الراهن ).
في الفقرة الاولى من هذا التحليل ، حددنا حقيقة المجتمع المدني المغربي ، وفي الفقرة الثانية حقيقة الدولة السياسية المغربية . وفي الفقرة الثالة العلاقة الموضوعية والضرورية بين الاثنين .
ام الان فاننا نريد ان نفعل ما لم يفعله الفكر السياسي المغربي من قبل ، الا وهو : رصد حركة تعاقب الاشكال السياسية للدولة المغربية ، من خلال تحليل الصيرورة الجوهرية لتطور وتشكل المجتمع المدني المغربي .