هل الأناركية عنيفة.. شعبوية.. ؟


محمد عبد القادر الفار
2008 / 10 / 28 - 00:34     

جرت العادة مع أي نص يدافع عن الأناركية أن يستهل بالتذكير بكثرة الدعايات الخاطئة التي تحيط بالموضوع والتي تعيق فهم الأناركية، مشيراً إلى طبيعة الفكر الأناركي المطاط على حد تعبير البعض والذي يحتمل الكثير من التفسيرات والاجتهادات ليتسع لكثير من المتمردين والرافضين لظروف الحياة الراهنة ممن قد تغريهم الأناركية بعفوية.. وفي حالات أخرى يجهد الأناركيون في التصدي لاتهامهم من قبل الماركسيين بأنهم طوباويون وخياليون أو بأنهم فوضويون لا يعرفون التنظيم مذكرين بالتجارب الإسبانية والأوكرانية وغيرها....

هذه المرة أريد أن أسلط الضوء بشكل مختصر على مسألتين مختلفتين إحداهما على الأقل ترتبط بشدة بطبيعة مجتمعات منطقة الشرق الأوسط العربية والإسلامية..

مسألة العنف ... ومسألة الشعبوية

بالنسبة للعنف : سأنطلق هنا من فكرة اللاسلطوية نفسها، ولا علاقة لي بأي مجموعة تسمي نفسها أناركية مارست العنف أو أي من منظري الأناركية الكبار إذا كان قد دعا إلي اي شكل من أشكال العنف. فالقاعدة الوحيدة بالنسبة للتحرري هي أنه لا توجد قواعد.

إن فكرة الأناركية تقوم بالأساس على مبدأ بسيط جداً هو "رفض كل أشكال السلطة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى،، وذلك ينطبق بالنسبة للإنسان تحرري الهوى على الأمور الدقيقة كما ينطبق على الأمور الواضحة مثل رفض وجود سلطة حاكمة ورفض العسكرة ورفض الأجهزة الأمنية إلخ. فالأناركي مثلاً لا يتقبل أي نوع من الخطاب التهديدي والوعيدي ولا يرضى أن يعمل في جو من الإرهاب والقمع ولا يستطيع أن يبدع تحت الأمر والنهي. وأسلوب الحياة الذي يختاره الأناركي بما في ذلك المهنة التي يزاولها كلها تتأثر مباشره بمزاجه التحرري الذي لا ينسجم نهائياً مع أي وجود للسلطة في حياته.

ولهذا فليس من الصعب على التحرري أن يدرك بوضوح أن "العنف يساوي سلطة القوة".. أياً كانت تلك القوة... سواء أكانت بدنية أو اقتصادية أو ذهنية أو قوة يستمدها من انتهازية اختيار المكان والزمان المناسبين لعمل عنيف إرهابي أو تخريبي، مع وضوح وجود "استغلال" لضعف أو جهل أو عدم استعداد الضحية في هذه الحالة حتى لو كان هذا الضحية من أعتى عتاة السلطوية.

الأناركية بالنسبة للأناركيين ليست نظرية سياسية تبدأ وتنتهي عند السلطة السياسية وتبرر بذلك كل أشكال العنف الممكنة ضدها! بل هي كما قلت نظرة شاملة للوجود الإنساني، ويحضرني هنا أحد الرفاق الرائعين الذي قال لي أنه يمارس الأناركية بعفوية تامة في كل تصرفات حياته حتى أنه انتقد صديقاً له أمر أخاه الصغير بشراء علبة سجائر له واصفاً ذلك بأنه أمر سلطوي من موقع قوة وأن عليه أن يبتاع سجائره بنفسه !

لا عجب أن تلتقي الأناركية إذاً مع الفلسفة الوجودية التي جعلت محور اهتمامها وجود الفرد وحريته، ومن المعروف أن الفيلسوف الفرنسي الكبير ألبير كامو كان أناركياً ولم يكن يخفي ذلك... ومن المعروف أن الفلسفة الوجودية تتحفظ على العنف بشكل كبير، رغم كلام سارتر عن حاجة المضطهد إلى استخدام العنف ضد مضطهده في بعض الحالات وهي النظرة التي ألهمت الكثير من الأناركيين برأيي. ولكننا في النهاية أمام نظرية تضع العنف كحل أخير لا كما تروج الدعايات السائدة الفكر الأناركي بأنه فكر قنابل وتخريب...

وبالنسبة لنا كتحرريين فلسنا ملزمين بأي منظـّر مهما علت قامته ومهما صغرت قامتنا في عيون الناس، ويكفي أننا نستطيع أن نكون أناركيين بالكامل ولاعنفيين بالكامل. فالأناركية هي إلغاء السلطة وذلك لا يتطلب العنف... ببساطة

ماذا عن الشعبوية؟؟

قد يستهجن معظم الناس استخدام هذا المصطلح في سياق الحديث عن الأناركية لأنه قد يبدو نخبوياً يصنف الناس إلى نخبة وسوقة. لكنني لا أقصد هذا المعنى بالمرة.

الأناركية بالتأكيد تأتي من الشعب ولا يمكن فرضها فرضاً فلا نتخيل أن تأتينا الأناركية مثلاً عن طريق انقلاب عسكري! (إلا إذا كان انقلاباً قام بالقضاء على العسكرة.. أي استخدم أدوات القوة في تدمير الأدوات نفسها) ولهذا فجميع الناس يجب أن يتفقوا على ضرورة إلغاء السلطة على الأقل، ومن الطبيعي هنا أن يعترض أصحاب المصالح المتسلحون بالسلطة ممن يظنون خطاً أنهم سيتضررون بزوال السلطة، وسيواجهون،، لكنني لا أصل هنا إلى مأزق الحديث عن العنف ومواجهة الشعب للمستغلين،، ببساطة لأنهم ليسوا وحدهم من سيتمسكون بالسلطة !

فهناك شرائح كبيرة من مجتمعاتنا لها المصلحة الأكبر من زوال السلطة لكنها غير مستعدة للتنازل عنها،،، ببساطة لأنها أدمنت القمع وليست مستعدة للتخلي عنه، لأنها مجتمعات استطاع الحكام فيها عبر قرون من الحكم التسلطي وعون مؤسسات التأثير في الرأي العام المدعومة من السلطة ترسيخ خرافة المستبد العادل ممكن الوجود. لذلك فهي مجتمعات لا يزال كثير من أفرادها المسحوقين يحدثك عن أمله بقائد مغوار يعيد الروح إلى الأمة إلى آخر ذلك الكلام النابع من الإيمان بأن السلطة هي القادرة على صنع الحلول وهي المطالــَـبة بها..

أمام مجتمعات تثور على كتاب أو شاعر أو يجن جنونها لرسم كاريكاتوري وتحاكم نفسها وبعضها من خلال حكامها لا تستطيع أن تقول أن الأناركية هي فكر شعبي في الوقت الراهن حتى ولو كانت مصلحة شعبية... لذا يندر أن تجد بين الديماغوجيين والهتيفة من هو أناركي التوجه وإنما هتيفة مختلفون لمؤسسات تسلطية متنوعة...

هذا يقودني إلى مقالة الأستاذ مازن كم الماز الأخيرة عن جرائم الشرف،، فالجرائم شعبية،، والسلطة تواجهها لتبدو متقدمة على شعبها الذي لا ندري كم من جرائم الشرف قد تمر به لو تساهلت السلطة..

هل السلطة مفيدة إذاً في بعض الحالات؟؟

إنها آخر من يمكن أن يكون مفيداً... واللجوء إليها ومطالبتها والنظر إليها كمالكة للحلول يعني مزيداَ من القمع وحجة لها لتزيد فتكها بالناس...

إن للأناركية مبدأ صريحاً يرفض السلطة لذا لا يمكن تطويعها لتناسب أمزجة الجميع ولكن يمكن حوار الجميع بشأن قيمة الحرية وتوعيتهم بأن وجودهم ناقص طالما لم يكونوا أحراراً... وعندما نتفق على ذلك... عندها تصبح الأناركية شعبية فعلاً...

عندما تصل شعوبنا إلى حقيقة قول الست فيروز في مسرحية ميس الريم

بييجي مختار .. بيروح مختار

والسيارة مش عم تمشي !!

http://1ofamany.wordpress.com