ثورة أكتوبر بين الأوهام الإيديولوجية والحقيقة التاريخية - الجزء الثاني


أيوب أيوب
2008 / 10 / 31 - 10:03     

2 ) حول "المهام الديمقراطية البورجوازية":
- أولا، تنطلق الإشتراكية الديمقراطية من رؤية ميكانيكية غائية للتاريخ. فالتاريخ بالنسبة لها خط صاعد تطوري من حالة دنيا (المشاعة البدائية) الى حالة عليا (الشيوعية) كلاهما إفتراضان نظريان وبناءان ذهنيان (الثاني من صنع ماركس)، مرورا بمراحل متتالية بانتظام وميكانيكية: المشاعة، فالعبودية، فالإقطاعية، فالرأسمالية وصولا الى الغاية النهائية للتاريخ: الشيوعية. طبعا، وفي هذه اللوحة الخماسية الستالينية الشهيرة، لا مكان للفجائيات، للهزات العنيفة، للإنقلابات النوعية، للإنكسارات والعودات. وبما أن هذه المراحل التاريخية هي بمثابة قدر غاشم وصراط مستقيم تمر فوقه كل البشرية صاغرة، وباعتبار أن هذه المتتاليات التاريخية ينظر لها من زاوية قطرية (كل قطر يجب أن يكون قد مرت عليه المراحل التاريخية المذكورة) فان مهمة البروليتاريا والشيوعيين هي رتق الفراغات التي تركها التاريخ خلفه في هذا القطر أو ذاك، وإنجاز ما يفترض أن تنجزه طبقات أخرى، أو لنقل أن مهمة البروليتاريا هي القيام بما لم تقم به الطبقات الأخرى (البورجوازية خاصة) تحضيرا لإنجازها لمهمتها الخاصة (الثورة الإشتراكية). طبعا، فإن خطل هذه الرؤية الميكانيكية وتناقضها التام مع المادية التاريخية واضح، كما أن معاينة تاريخية بسيطة تفند هذه الرؤية الداروينية للتاريخ. ذلك أننا نعرف الآن، أن هناك العديد من المناطق في العالم لم تمر بمراحل مثل العبودية أو الإقطاعية (شعوب القارة الأمريكية) وأن هناك شعوبا قد عرفت أنماط إنتاج من خارج هذه اللوحة الخماسية (نمط الإنتاج الآسيوي في الصين، نمط الإنتاج الجرماني...) بل أن العبودية لاتزال موجودة في أرقى البلدان الرأسمالية (الولايات المتحدة الأمريكية) كل هذا يجعل من مقولة أنه يجب على كل قطر (مأخوذ بمعزل عن كلية النظام الرأسمالي) أن يمر حتميا بمرحلة إسمها "المهام الديمقراطية البورجوازية" أي الرأسمالية طبقا لنموذج نظري (صناعات ثقيلة، أغلبية من السكان الصناعيين وتعميم العمل المأجور، المكنكة والتطور التكنولوجي، مع بعض التوابل البرلمانية والإنتخابات...) يجعل منها مقولة ميكانيكية، قدرية هي لب المنهج الستاتيكي البورجوازي والبورجوازي الصغير.
_ ثانيا، أن الإشتراكية الديمقراطية تنطلق من وجهة نظر الإقتصاد الوطني، من وجهة نظر قطرية، حيث رأس المال ينظر له كظاهرة قطرية، قومية، إقليمية أو محلية. لذلك فإن تتبع مسار تطوره التاريخي لا يتم باعتباره ظاهرة تاريخية عالمية، أي مستويات تطور هيمنته واستيعابه لكل النشاط البشري وتحويله الى كيان موحد يتجانس أكثر فأكثر ويتوحد أكثر فأكثر. بل كتطور قطري، قومي، إقليمي أو محلي. أي أن الإشتريكية الديمقراطية لا تنظرانمط الإنتاج الرأسمالي كنمط إنتاج عالمي النشأة، عالمي التطور، بل ان عالميته (وهذا مالا تستطيع إنكاره) هي مجرد تجميع لأجزاءه المبعثرة والمتنافرة. فليس راس المال بالنسبة لها هو الذي يصنع الأوطان والقوميات والدول، بل العكس.
وبما أن الإشتراكية الديمقراطية تنفي عالمية رأس المال، فإنها بالضرورة مضطرة لنفي البروليتاريا كطبقة عالمية، وبالتالي فإنه ليس للبروليتاريا برنامج عالمي موحد، والأممية العمالية، بالنسبة للإشتراكية الديمقراطية (على نقيض ماركس والأممية الأولى) هي تماما مثل رأس المال، مجرد تجميع عددي للأحزاب الإشتراكية الديمقراطية (الشيوعية) الوطنية. ولذلك أيضا فإنه يتم تحديد طبيعة الثورة ("الروسية" مثلا، وهنا يتضح أننا لا نستطيع الحديث من زاوية البروليتاريا عن ثورة "روسية" أو "ألمانية" أو غيرها. فالثورة البروليتارية عالمية أو لا تكون) انطلاقا من هذا القطر أو ذاك، وليس انطلاقا من كلية النظام الرأسمالي. وفي الواقع، واذا ما انطلقنا من زاوية النظر هذه، فاننا سنجد دائما "مهاما ديمقراطية بورجوازية" للإستكمال في أكثر البلدان تطورا كما في أكثرها تخلفا. ولعل هذا ما يفسر أن الثورة الإشتراكية لم تعد موجودة في برامج الإشتراكية الديمقراطية العالمية الا كهدف بعيد، كبرنامج "الحد الأقصى"، كمهمة تسبقها مهام أخرى (تتبدل وتتغير من فصيل الى آخر) الثورة الإشتراكية مجرد ديباجة لتزيين برامج هذه الأحزاب، مجرد "إيتيكات" إيديولوجية لا مجموعة مهام مباشرة وآنية. وبهذا الإعتبار أيضا فإن رؤية تروتسكي نفسه، التي كانت تعتبر ممثلة لليسار البلشفي، تلك التي تلحق المهام الديمقراطية البورجوازية بالثورة الإشتراكية (الثورة الدائمة) ليست سوى فرع راديكالي للإشتراكية الديمقراطية، ومقولة إيديولوجية استطاعت تبرير كل الإجراءات ذات الطابع البورجوازي التي قام بها البلاشفة عند وصولهم للسلطة.
- ثالثا، تنطلق الإشتراكية الديمقراطية من رؤية مثالية للمهام الديمقراطية البورجوازية، فيتم تصويرهذه المهام لا كما هي في الواقع (أي ما تقوم به البورجوازية يوميا: الإصلاح والإصلاح الذاتي للرأسمالية) بل كمجموعة وصفات ذهنية غير قابلة للتجسيد عمليا. المهام الديمقراطية البورجوازية، من منظور الإشتراكية الديمقراطية، هي بالضبط تلك الصورة التي تقدمها الرأسمالية عن نفسها لتبرير وجودها وهيمنتها على البشرية: تقدم، حضارة، علوم، رفاه، ثقافة، تقدمية....ما لا تستطيع أن تفهمه الإشتراكية الديمقراطية هو أن التقدم البورجوازي (كل الحضارة الرأسمالسة) هو في نفس الوقت تطوير لقوى الإنتاج وتدمير بربري لها، هو في نفس الوقت وصول الإنتاج الى ذرى غير مسبوقة وتدحرج القدرة الإستهلاكية الى حدود الفاجعة، هو الصناعات الكبيرة في المدن لكن أيضا كل بؤس الأرياف، هو تراكم الثروات في أياد تزداد قلة مقابل فقر يزداد توسعا ليشمل فئات اجتماعية جديدة، هو أيضا تبذير لامحدود للثروات في مجالات بلا منفعة (الأسلحة، الإستهلاك البورجوازي...)مقابل مجاعات وسوء تغذية معممين. الإستغلال الطبقي، البطالة، البؤس، الحروب التدميرية كلها وجه ملازم للتقدم البورجوازي، لا يمكن لل"مهام الديمقراطية البورجوازية" أن تتنصل من كل هذه التبعات الكارثية. وإن أفضل من يستطيع القيام بهذه المهام هي البورجوازية نفسها.
اذا ما كشفنا هذه "المهام الديمقراطية البورجوازية" على حقيقتها كما هي في الواقع، فإن كل الأحجية الإشتراكية الديمقراطية ستجد حلها. فهذه الأخيرة، وتأسيسا على اليوطوبيا الرجعية بامكانية إنجاز تقدم وتنمية رأسمالية (وطنية) بدون تناقضات الرأسمالية المستعصية، بدون الوجه الكارثي الملازم (أي رأسمالية بدون بروليتاريا وهذا هو بالضبط الحلم البورجوازي المستحيل) ببساطة لأنها تنسب كل الفضاعات المصاحبة للنظام الرأسمالي إما الى أنماط إنتاج ماقبل رأسمالية (اقطاعية، متخلفة، استبدادية، قروسطية...) (مثلا يتم نسب البؤس المدقع في الأرياف الى بقايا اقطاعية..) أو الى مناطق جغرافية محددة (الشرق، الجنوب، العالم الثالث..) أو الى مرحلة تاريخية محددة (المرحلة الإمبريالية، المرحلة الإنحدارية للرأسمالية..) أو الى إنحراف وتشوه في المسار التقدمي لرأس المال (يمينية، نازية، فاشية...) بحيث تتحول "المهام الديمقراطية البورجوازية" الى رأسمالية مصفاة، مستقطرة من كل مساوئها، رأسمالية ليس فيها سوى تطوير وسائل الإنتاج والتقدم التقني ومراكمة الثروات وكل السعادة البورجوازية الإشهارية، وتأسيسا على كل هذا الوهم البورجوازي الصغير تتحول كل حركة البروليتاريا لا لتدمير السبب الجذري لبؤسها (وبؤس البشرية) ألا وهو النظام الرأسمالي (القيمة، العمل المأجور، الملكية الخاصة، النقد...) بل لدعم هذا النظام بالذات واعادة انتاجه. وفي غالب التجارب (كما في روسيا) سريعا ما يتحول الحزب الإشتراكي الديمقراطي القائد الى متصرف جديد في رأس المال، الى بورجوازية جديدة متجددة سواء باسم الإشتراكية أو الشيوعية أو الديمقراطية الشعبية... وحتى أكثر العمال ثورية ممن يعتقدون أنه بمقدورهم ادارة رأس المال لصالح البروليتاريا (لصالح الشعب...؟) يجدون أنفسهم (بوعي أو بلاوعي) قد تحولوا الى عبيد للربح والربح الأقصى، للمردودية الإقتصادية، لقانون القيمة، للمنافسة الإقتصادية وملحقها الضروري: الحرب الإمبريالية.
هذا هو جوهر البرنامج الإشتراكي الديمقراطي العالمي، فهل أنجز البلاشفة تلك القطيعة التاريخية عن هذا البرنامج وعن ممثله الأول: الأممية الثانية؟ هذا ما سنناقشه في الجزء القادم.