ثورة اكتوبر ...ودولة المجالس العمالية


فواز فرحان
2010 / 11 / 9 - 23:12     

يشكل التصدّي لقراءة وتفسير حدث تاريخي بارز غيّر وجه العالم بحجم ثورة أكتوبر الاشتراكية تحديّاً بحد ذاتهِ لا سيما عندما يتعلّق الأمر بالمسؤلية الأخلاقية النابعة من الايمان بالعقيدة الماركسية – اللينينية بالنسبة للجيل الجديد والاجيال المقبلة وهي مسؤلية تقع على عاتقنا جميعاً في تفسير قراءة التاريخ بشكل موضوعي يعطي للحقيقة قيمتها ومكانتها الطبيعية في الحدث ...
لقد شكلّت الثورة منذ بداياتها الأمل الهادي لملايين التقدّميين في العالم من اجل بناء صرح الإشتراكية في بلدانها والتوق الى عالم تجسّدَ على أرض الواقع من وقف إستغلال الانسان لأخيه الانسان والقضاء على علاقات الانتاج البرجوازية وإحلال علاقات الانتاج الاشتراكية التي غيّرت جذرياً مفهوم العمل عند الانسان السوفيتي وأعطتهُ بريقاً آخراً مميّزاً جعلهُ يقترن بالبداع والتقدم في مجالات الحياة المختلفة ، منذ انطلاق الثورة عبر بحارة كرونشتاد وانتهاءا بالسيطرة على القصر الشتوي كانت احداث تلك الثورة أشبه ما تكون بمغامرة فريدة الطراز تحكم لينين في نهايتها ليعلن قيام دولة المجالس العمالية التي تعطي السلطة الحقيقية للعمال عبر مجالسهم وتمكنهم من بناء دولتهم بعيداً عن سلطة القهر والجوع ...
لم يكن من السهل السيطرة على تلك الاحداث المتسارعة التي كانت الجماهير تصنعها لمصلحة الثورة كما لم يكن سهلاً إجراء تحليلات واسعة ودقيقة من قبل لينين للأحداث وسط وجود معارضة قوية لحزبهِ حتى من قبل حلفاء له في الاحزاب التي ارادت الاشتراك فعلياً في الثورة والتي تم ابعادها نهائياً بعد تحويل السلطة الى يد الشعب ، لا تظهر الافكار والنظريات الجديدة إلاّ حين يثير تطور حياة المجتمع المادية مهام جديدة أمام المجتمع وهو ما حدث فعلاً أثناء الثورة وبعدها وحوّل لينين الماركسية الى قوة لها أهميتها الكبرى في تقدم المجتمع وتطويرهُ ، فكانت اولى المهمّات هي القضاء على حكومة كيرنسكي وتسليم السلطة الى السوفيتات لضمان تحرير القوميات المضطهدة وبناء مجتمع تسودهُ القيم الماركسية بكل تفاصيل نظرتها المادية للحياة والمجتمع ، لقد كانت الطبقة العاملة الروسية بحاجة ماسّة للتعبئة الفكرية التي من شأنها تسهيل تحقيق مهمّات الثورة وقد ساهم لينين الى حدٍ بعيد في تنفيذ هذهِ المهمة منذ عام 1900 عبر صحيفة الايسيكرا التي لعبت دوراً حاسماً في ترسيخ الافكار الثورية وتعريف الطبقة العاملة بمهامها ...

لقد تمكن لينين من قراءة الواقع الثوري في روسيا قراءة ماركسية دقيقة واستغنى خلالها عن تلك النظريات التي لم تعد تلائم وضع روسيا في ذلك الحين وتوصل الى انه يمكن الانتصار على الرأسمالية في أضعف مواضعها رغم معارضة بعض المقرّبين له أمثال بليخانوف الذي وجّهَ انتقاداً للثورة بعبارتهِ ... ان البلاشفة لن يفعلوا شيئاً سوى إستبدال الدكتاتورية القيصرية بأخرى ذات رداء بلشفي ..
لم تكن تلك الانتقادات تؤثر في مسيرة الثورة وتعيق تقدّمها بدليل ذوبانها ونجاح لينين في مسيرتهِ لبناء دولة العمال ، لقد أدرك منذ الوهلة الاولى الشروط المواتية لبناء المجتمع الاشتراكي حيث لا يمكن تغيير طريقة الانتاج إلاّ في ظروف موضوعية معينة ،وذكر ستالين فيما بعد في حديث له عن بداية الثورة ومرحلة التغيير يقول ...لقد كان ذلك صعباً على سلطة المجالس العمالية (السوفيتات) ومعقداً لكنهم قاموا بالمهمة على أفضل ما يكون ، لقد وقف عاملاً مهماً وحاسماً وراء نجاح لينين في بناء الاقتصاد الاشتراكي وهذا العامل كان القانون الاقتصادي المتمثل بقانون الترابط الضروري بين علاقات الانتاج وطابع القوى المنتجة ، وتحكمت المصلحة الطبقية في إستخدام هذا القانون حتى تمكنت الطبقة العاملة الروسية من قلب علاقات الانتاج البرجوازية واستبدالها بعلاقات انتاج اشتراكية جديدة ولولا هذا القانون لما تمكنت الثورة من الصمود ...
كان هناك ايضاً أحد الشروط الموضوعية الضرورية لبناء الاشتراكية وهو إيجاد صناعة ثقيلة قوية يمكن الاعتماد عليها لتطوير نواحي الحياة المختلفة ومنها الزراعة التي كانت بحاجة ماسة للمكننة والآلات وكذلك كهربة البلاد ومدّها بمصادر الطاقة ..
لقد انتصرت الثورة البلشفية في ظروف قاهرة فعلاً فرضت عليها تحديّات من جميع الجهات وتجاوزتها بطريقة أذهلت أعداءها الذين خططوا لقتل لينين وتغييبهِ عن الساحة بعد أن إكتشفوا أنه العقل القادر على إيجاد الحلول لكل المشاكل التي تواجه الثورة ، لا يمكن إعادة سرد منجزات ثورة اكتوبر التي إحتوتها الكثير من المجلدات من خلال مقالة بسيطة ولكن ما هو ضروري وحيوي بالنسبة لنا في هذا العصر دراسة التجرية والتمعّن في نتائجها وتأثيرها على هذا الجيل والاجيال القادمة لا سيما وان هناك مناطق عديدة تشهد عودة الفكر الاشتراكي ولو بطريقة مختلفة عن تلك التي ظهرت في هذه الثورة كما يحدث في امريكا اللاتينية وبعض الدول الاسيوية ...
لم تتحقق الاشتراكية بتطبيقاتها الحقيقية على أرض الواقع كما تحققت في عهدي لينين وستالين ولا يمكن لنا الحكم على طبيعة الاخطاء التي ارتكبتها الثورة ان صحَّ لنا بتسميتها أخطاء بعقلية العصر الحالي لان ذلك يبتعد عن الصواب ويمثل تعدّياً على العصر الذي شهد بناء الاشتراكية في تلك المرحلة فالتحديّات التي كانت تواجه الثورة في ذلك الحين تختلف عن تلك التي واجهتها في مراحل لاحقة ولو قُدّر للكثير منا العيش في تلك المرحلة لأبدينا تأييدنا لكل تصرف أقدم عليه قادة الثورة دون تردد ، غير انّ الذي يتمعّن في طبيعة الأحداث التي توالت على الدولة السوفيتية بعد الانتصار في الحرب على النازية يرى أنّه كان من الصعب تجنب تلك التحديات او عدم التعامل معها ..
فالنازية التي إخترعتها الرأسمالية مع الفاشية في ايطاليا كانتا موّجهتان بالتمام الى الاتحاد السوفيتي لمحاصرة التجربة الفذة للاشتراكية هناك والاخير كان يعلم تماماً ان الولايات المتحدة وبريطانيا تقفان خلف مدّ هتلر بالاسلحة والمصانع وقطع الغيار واكذوبة العرق الآري المتفوّق والعقل الألماني الجبّار لم تكن سوى خدعة أرادوا من خلالها ضرب الشعبين الالماني والروسي ببعضهما وقطع أي تواصل فكري بينهما ...
لقد قضت الحرب العالمية الثانية على اكثر من عشرون مليون مواطن سوفيتي جلّهم من الشيوعيين الحقيقيين ومن قادة المجالس العمالية الذين هبّوا لتلبية النداء للدفاع عن الوطن السوفيتي والتجربة الاشتراكية وادى ذلك الى خسارة فادحة في نوعية الكوادر الشيوعية التي قادت الاشتراكية والعمل الاشتراكي بعد الحرب ، ورغم انتصار الجيش الاحمر في الحرب وسحقهِ للنازية في عقر دارها الا ان الرأسمالية انتصرت هي الاخرى في بلدان اوربا الغربية التي استثمرت فيها سبعة عشر مليار دولار في مشروع مارشال لبناء اوربا الغربية وحصدت من خلالهِ ما يفوق التريليون وسبعمائة مليار دولار في ظرف عقدين من الزمن وربطت اقتصاديات هذه الدول بالاقتصاد الامريكي لتحقق انتصاراً مادياً على حساب الانتصار المعنوي للشيوعيين في الحرب ...
لقد واجهت ستالين مجموعة من الاوضاع المتداخلة بعد الحرب منها ما يتعلق بإعادة بناء الداخل جراء الدمار الذي لحق به من الحرب او ما يتعلق بالجمهوريات الوافدة الجديدة في اوربا الشرقية التي كانت تحتاج هي الاخرى لمليارات من الدولارات لاعادة بناءها بعد ان دمّرتها آلة الحرب النازية ولكن هذهِ المرة وسط ظروف أكثر قسوة من السابق بعد ان فقد الاتحاد السوفيتي خيرة كوادره في الحرب كما ذكرت ...
لم يتصدى العديد من الكتّاب لواحدة من أخطر التحديّات التي واجهت ستالين بعد الحرب العالمية الثانية وهي انتشار الافكار الدينية والخرافات والطائفية في مجتمع فقد خيرة كوادرهِ المتنوّرة والتي كانت تقود الثورة الثقافية في بقاع عديدة من الارض السوفيتية قبل الحرب وهذا التحدي فرض عليه ان يتصرّف بقبضة من حديد مع المعادين للثورة الاشتراكية من الذين وضعوا مصالحهم الشخصية فوق مصلحة الشعب السوفيتي فقاد العديد منهم الى محاكمات كانت الى حد بعيد وبإعتراف أعداء الاتحاد السوفيتي قبل أصدقاءهُ بأنها كانت عادلة ووفق اجراءات قانونية لم يثار حولها في ذلك الوقت أيّ جدل ...
لقد كانت السنوات الخمس الاولى من نهاية الحرب بحق التجربة الحقيقية لإعادة البناء الاشتراكي في الدولة السوفيتية وتمكنت الستالينية من تجفيف الكثير من ينابيع الخرافة والجهل وإحلال الافكار العلمية الثورية محلّها ورغم تعرض الاتحاد للمجاعة والجفاف فأنه تمكن من تجاوزها ووضع أساساً لأقوى دولة صناعية في العالم تعتمد على ذاتها في الاختراع والابداع ودون مساعدات خارجية سواء أكانت مادية او غيرها كالخبراء وهذا ما جعل أعداء الدولة السوفيتية في حيرة من أمرهم تجاه ما حققتها في فترة قصيرة حتى في البلدان الشيوعية الحديثة في اوربا الشرقية والشرق الاقصى بعد انتصار الاشتراكية في الجزء الشمالي من الارض الكورية وظهور الصين الشعبية ...
لقد حوّل ستالين الدولة السوفيتية الى جسداً من فولاذ لا يمكن إختراقه وقام بتدريب العديد من قادة ومؤسسي الحركة الشيوعية في الكثير من بلدان العالم حتى جعل من الاشتراكية هدفاً ليس بعيد المنال عن الكثير من الدول التي تحررت من نير الاستعمار ...
نقاء الحزب الشيوعي والحفاظ على الثوابت الفكرية له كان هدفاً لم يتخلى عنه ستالين وهو ما برّر الى حد بعيد إبعادهِ لكل العناصر الانتهازية والوصولية التي كانت تريد ان يكون الحزب الشيوعي جسراً سهلا تعبر من خلالهِ الى عالم مصالحها الذاتية وفي نفس الوقت يحافظ على السياسة اللينينة التي دفع لينين حياته لاجلها ..
كانت المحاكمات التي جرت في عهد ستالين هي النقطة الفاصلة في إثارة الجدل حول شكل السلطة في عهدهِ حيث برز بقوة الى السطح سيطرة الحزب على المجالس العمالية بدلاً من حدوث العكس وكان التبرير دائماً هو إفتقاد قادة المجالس العمالية في أغلب دول الاتحاد الى الثقافة الماركسية التي تؤهلهم لتسيير عملية البناء الاشتراكي وأعتبر البعض انها حالة مؤقتة ستزول مع نهاية الخطة الخمسية الاولى بعد الحرب او الخطة الثانية على أبعد تقدير لكنها وسمت شكل الدولة السوفيتية بطابع دكتاتورية الحزب بدلاً من دكتاتورية البروليتاريا !!
إن سؤالاً مهماً يبرز دائماً أمام قارئ التجربة السوفيتية وهو هل تصرّف ستالين بمقتضى الثوابت الشيوعية ؟؟
ربما لو عاش لينين لبعض الوقت او كان محل ستالين لا شك انّهُ كان يتصرف بنفس الطريقة ...
لقد كانت عجلة البناء الاشتراكي تسير بطريقة مختلفة من دولة الى أخرى داخل الاتحاد السوفيتي نفسه فهي تختلف من حيث مراحل تطور المجتمع بين كل من روسيا واوكرانيا عن نظيراتها في جمهوريات اسيا الوسطى التي كانت غارقة في تخلّف كلّفَ الدولة السوفيتية طاقات جبّارة لجعلها تسير الى الامام متخطية حواجز تخلفها وجهلها ...
لذلك لم يجد أعداء الدولة السوفيتية ثغرات تمكنهم من وقف عجلة التقدم الاشتراكي منذ بداية الثورة وحتى وفاة ستالين فراحوا يتفننوا في ترويج الاكاذيب عن تلك الثورة وعن قادتها لكنهم في نهاية المطاف لم يتمكنوا من النيل منها بل كانت مصدر إشعاع للكثير من حركات التحرر وإستقلال البلدان وخروجهم من طوق الظلم والجور ..
لم تكن هناك أخطاء قاتلة في عهدي لينين وستالين لا في عملية البناء الاشتراكي ولا في طبيعة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية التي انتهجها كل منهما وفق المنظور الماركسي بل أسهما الى حد كبير في ان تكون على كوكب الارض اول تجربة عمالية ناجحة في الحكم ، لقد برهنت البروليتاريا الثورية انها قادرة فعلاً على القيام بمهامها في البناء الاشتراكي بسيطرتها على وسائل الانتاج وتغييرها لتحقيق النمو الكافِ في الانتاج وحسم الصراع الطبقي لمصلحتها لتسهم في نهاية الامر في تحقيق الاساس المادي لبناء المجتمع الاشتراكي ...