الحزب، السلطة، وأزمة الاشتراكية


سلامة كيلة
2008 / 10 / 20 - 09:03     

في تناولي لأزمة البنية التنظيمية للأحزاب الشيوعية(*) حاولت البحث في الشروط الاقتصادية الاجتماعية، وشروط التطور التاريخي الذي أنجب الظاهرة الستالينية المعممة في مجال تكوين الأحزاب والسلطة عالمياً. ولهذا فقد كنت أتناول ما أصبح يعرف بأزمة الاشتراكية، أي بالشروط الاقتصادية الاجتماعية التي أنتجت تلك الأزمة.
لقد عنيت أن «الاستبداد الستاليني» ليس منزعاً شخصياً لدى فرد، بل كان نتاجاً لشرط اقتصادي اجتماعي، فرض –ومن أجل تحقيق التقدم- وجود سلطة الاستبداد المستمِدَّة شكلها النظري وأساليبها العملية من التراث، تراث الإقطاع الشرقي المنغرز في وعي الفئات الريفية عموماً، والتي غدت هي عماد السلطة الاشتراكية. ولقد تحقِّق ذلك نتيجة التقاء حركتين أو منزعين، وجهات النظر المختلفة في الحزب السوفيتي حول مخططات تحقيق الاشتراكية، والتي كانت نتاج الظروف الواقعية بالتأكيد. وهنا يمكن القول أن الاختلاف نبع من تمسك قطاعات في الحزب بالحلم الاشتراكي المصاغ نظرياً منذ ماركس، حلم الاشتراكية الإنسانية المتمدنة والديمقراطية، التي تؤسس لما بعد الرأسمالية، ولا شك أن هذه القطاعات كانت منسجمة مع وعيها الماركسي هذا، ومؤسِّسة ممارساتها على ضوئه. وبالتالي بدت غريبة في مجتمع لازال يعيش –في غالبيته- القرون الوسطى، وهي التي انهزمت لهذا السبب بالذات. إنها إذن تعيش خارج الواقع، وتحلم بمجتمع لا تهيئ الشروط الواقعية أية إمكانية لتحقيقه. ولهذا ورغم أن هذه القطاعات كانت تشكِّل غالبية الحزب، إلا أنها بدت مشلولة وعاجزة عن تقديم حلول صحيحة أو قادرة على توحيد قواها في إطار تصوّر واضح.
وقطاعات أخرى تمسكت بالحاجة الواقعية لتحقيق التقدم والاشتراكية بغض النظر عن الصيغة الضرورية لتحقيق ذلك، وكان تحقيق التقدم يفرض التدخّل القسري للدولة، لأن الحركة العفوية لم تكن لتحقِّق تقدماً، حيث البرجوازية في إطار الشرط الدولي عاجزة عن تحقيق تقدمها، إنها عاجزة، مترددة وجبانة كما وصفها لينين سنة 1905 [«خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية»، دار التقدم –موسكو]. ورأسمالية الدولة –وهي الفكرة التي طرحها لينين سنة 1918- صيغة فارغة دون مسكها بكل ثروة المجتمع. ولهذا رأت هذه القطاعات، وأولها ستالين، أن تحقيق الاشتراكية أمر سهل ويفترض إلغاء الملكية الخاصة، ووضعها تحت تصرف الدولة ومن ثم تخطيط التقدم، أي تحويل التقدم إلى مسألة تقنية وعملية. إذن كانت الدولة الشمولية حاجة موضوعية، من أجل تحقيق الاشتراكية.
هذا المنزع توافق مع التكوين الاجتماعي المسيطر، توافق مع الوعي البطريركي الذي «يسكن» الريف، ويحتل وعي كل فلاّح، والريف في الإمبراطورية الروسية هو المجتمع،أما التطور الصناعي والحداثة، والثقافة فهوامش «جزر» منعزلة تلوّن بعض المدن.
وإذا كانت إدارة الاقتصاد والسياسة في الدولة تفترض تعيين كادرات الحزب المتبقية، فقد أدى تشكيل الجيش وأجهزة المخابرات، إلى التحاق الفئات الفقيرة في الريف بها. وهي الفئات الفقيرة في الريف، التي لم تكن تملك، أو أنها تمتلك من الأرض ما لا يسدّ رمقها، وهي الفئات التي تسكنها القرون الوسطى، وتترسخ لديها قيم السلطة الأبوية (البطريركية) والوعي التقليدي الموروث، رغم نزوعها إلى المساواة، التي تعني بالنسبة لها الحصول على الملكية «التملك«، كما أنها تقتبس حالة «تمثُّل» مضطهديها (الإقطاع).
من هذه الفئات، ووفق هذا الوعي، واعتماداً على تلك المصلحة تأسست أخطر أجهزة الدولة الجديدة، وهي الفئات التي شكلت الأساس الاجتماعي للظاهرة الستالينية.
ومن هذا التكوين المتناقض، المتخلف، لكن الذي يحمل مشروع تقدّم صناعي وثقافي عام (وربما هذا ما زرعته النزعة الحالمة بتحقيق الاشتراكية، في الحزب، والحزب كله قبل استلامه السلطة عموماً، في التجربة الجديدة). من هذا التكوين نشأت أزمة الاشتراكية، التي قادت إلى انهيارها، لأنها أسست لنشوء نظام استبدادي شمولي، تحكمه فئة سعت إلى تحقيق مصالحها، لكن ضمن إطار إلغاء الملكية، حيث عززت من امتيازاتها، وأوقفت التطور عند الحدود التي تعيد إنتاج هذه الامتيازات، بشكل تصاعدي، مما كان يؤسس لبنية فوقية، لا تستطيع البنية التحتية تحملها، بمعنى أنه تأسست فئة غدت عبئاً على المجتمع، فكان لابد من تخطيها.
ولأنني كنت معنياً بالتكوين الاستبدادي للأحزاب الماركسية، فقد اكتفيت، حين البحث في الأساس الاقتصادي الاجتماعي لهذا التكوين، باعتماد فكرة اسحق دويتشر، حول تداخل الثورتين الديمقراطية والاشتراكية، واعتبار ذلك سبباً في نشوء المشكلات التي عانتها التجربة الاشتراكية، ومنها نشوء البيروقراطية كفئة متحكمة بالاقتصاد والمجتمع.
ورغم عمومية الفكرة، إلا أنها تشير إلى جوهر المشكلة، فالحزب الماركسي المعني بتحقيق الاشتراكية، كان يواجه بمشكلات ما قبل رأسمالية، وسعى لتحقيق التقدم في مجتمع يعيش، في غالبيته، في القرون الوسطى، في الاقتصاد كما في العلاقات الاجتماعية، والوعي والمؤسسات. وكان لينين يعي تلك المشكلة، لهذا حدَّد مهمات الحزب بتحقيق ثورة ديمقراطية الطابع، الثورة التي لم تنجزها البرجوازية،وكانت –حسب تحليله- عاجزة عن تحقيقها، لكن قيادة الحزب للسلطة، في إطار تنافس قطاعات اقتصادية مختلفة، ومنها رأسمالية الدولة المسيطر عليها من قبل الحزب [أي تنافس الملكية الصغيرة، والرأسمالية ورأسمالية الدولة]، لم تحقِّق التقدم الضروري من أجل إنهاض المجتمع، لهذا كان تحقيق الاشتراكية [إلغاء الملكية الخاصة على وجه التحديد] هو الشرط الضروري لتحقيق التقدم الذي يحضّر لتحقيق الثورة الديمقراطية.
لكن إلغاء الملكية الخاصة، ومركزه الثروة بيد فئات ريفية في الغالب كان يفضي إلى تكوين تمايز «طبقي» من نوع جديد، نابع من ميل هذه الفئات إلى الحصول على الملكية، أو عمل بدائلها، التي تمثلت في سياسة الامتيازات التي بدأت محدَّدة، لكنها كانت تتوسع باستمرار. ولتحقيق ذلك كان الاستبداد ضرورة. ولهذا فبدل أن ينتهي الاستبداد بعد تجاوز مرحلة التطوير القسري، استمر رغم أن التطوير ذاته، الاقتصادي –الاجتماعي، والثقافي العلمي كان يؤسس الوعي المضاد له، ويوجد الفئات الساعية للتحرر منه. لكن الحفاظ على الامتيازات كان يفترض الاستبداد من أجل أن تعيد البيروقراطية الحاكمة تجديد ذاتها، وبالتالي كانت وهي تسهم في انتشار الوعي الحديث في كل ساحات المجتمع، وتوجد الفئات الساعية للتعبير عن ذاتها، كانت تكرس الوعي البطريركي، وعي القرون الوسطى، في مستوى مؤسسات الدولة، وفي تعاملها مع الشعب.
ومن هذا التراكب بين «الثورتين» بدا الطرح الاشتراكي كغطاء للتمايز «الطبقي«، أو بشكل أدق للامساواة في توزيع الثورة، وللاستبداد، وللتحكم المطلق لتلك الفئة البيروقراطية، صاحبة الامتيازات في المجتمع. مما كان يجعله متصادماً مع مطامح تحقيق الثورة الديمقراطية، في إطارها السياسي (مسألة الحريات، والمسألة القومية) وليقوّي النزوع الرأسمالي لدى فئات الشعب.
فكانت الديمقراطية البرجوازية البديل «المنطقي» للاشتراكية. بينما هي واقعياً البديل لاستبداد القرون الوسطى، للبنية البطريركية الحاكمة. رغم أنها ردة على صعيد الملكية والبنية الاقتصادية الاجتماعية عموماً، تبررها حالة التمايز «الطبقي» القائمة في المجتمع الاشتراكي.
ولأنني كنت أرى كل هذه التناقضات فقد أشرت إلى فكرة، لعل انهيار العديد من النظم الاشتراكية قد حدَّد معناها بدقة، أو أنه قد أبرزها كرؤية تنبؤية، رغم أنني لم أكن أقصد ذلك على الإطلاق. فقد حاولت انتقاد الرؤية السائدة التي صورت النظم الاشتراكية كجنّة، كفردوس خالٍ من المشكلات والتناقضات والصراعات، وغير قابل للانتكاس، ورأت أنها تسير في خط تطوري صاعد في خط مستقيم، أنها تسير «قُدماً إلى الأمام«، حيث أكدْتُ أنه يجب علينا أن نرى التجربة الاشتراكية في إطار تناقضاتها الواقعية، لهذا فيمكن لها أن تتراجع، وأن تنتكس، وقد تنهار، ولقد انهار العديد منها.
وربما لم أكن أتوقع ذلك فعلياً، لأن رغبتي كانت في أن تتجاوز الاشتراكية مشكلاتها، وأن تسير إلى الأمام، انطلاقاً من حلها لتناقضاتها الداخلية، لكن المنهجية الماركسية، الجدل المادي، كانت تفرض علىّ تأكيد هذه الصيغة، فالتراكم الكمي الذي يفضي إلى تغيير نوعي، لا يتحقِّق في الإيجاب فقط، بل يتحقِّق في السلب أيضاً. لهذا أفضى تراكم المشكلات إلى الانهيار، وبالتالي –ضمن ذلك- كان الانهيار محتماً. لقد تفاقم التمايز «الطبقي«. وبينما وسعت البيروقراطية من بذخها، من استحواذها على النصيب الأعظم من الثروة، استمرت قطاعات واسعة من الشعب تعيش ذات المستوى، دون أي تقدم لعقود، بينما انحط وضع قطاعات أخرى، وكانت هذه الحالة تفضي إلى التصادم، بين أقلية (السلطة) وأغلبية (الشعب).
ومن جهة أخرى كان الشعور بالغربة عن «صيغة الحكم«، والرفض لها، يتعاظم لدى شعب «دخل الحضارة«، وأصبحت معظم قطاعاته ذات ثقافة مرموقة. لقد تعاظم إذن التناقض بين الديمقراطية والاستبداد، بين الشمولي والفردي، بين نزعة المواطنة، ونزعة الرعايا. بين «الإله الواحد القهار» وبين البشر، البشر الواقعيين.
إن كل ذلك كان سيفضي إلى الانفجار، وبالتالي كان الانهيار محتماً، لذلك كانت كلمة «قد» التي وضعتها في النص لا معنى لها، وربما كان الأمل في تجديد الاشتراكية، هو الذي فرض عليّ تقييد توقع الانهيار.
ولاشك أن التحوّلات التي حدثت يجب أن تجعلنا نهتم في منطق الأشياء، وأن نتجاوز وعينا التقليدي القائم على أساس ثنائية الخير والشر، الصح / الخطأ، الأبيض/ الأسود، ولعل هذا الوعي هو الذي أدى بالذين تعاملوا مع الاشتراكية وكأنها «النقاء المطلق«، و«الجنة«، والتجربة الخالية من الأخطاء والإنحرافات، والسرمدية الباقية إلى الأبد، أدى بهم إلى الانقلاب المريع، بحيث أصبحت تلك التجربة «رجس من عمل الشيطان» [الشيطان لينين]، وأنها كانت خاطئة من الأساس، وأنها قفز من فوق مسار التاريخ...الخ، ومن ثم العودة إلى تقديس نقيضها: الرأسمالية، إن الوعي التقليدي هو الذي يحكم ماركسيينا، لهذا تعاملوا مع التجربة الاشتراكية وكأنها الخير المطلق، واعتبروا كل منتقد، أو مشير إلى الأخطاء أو إلى المخاطر، فوضوياً، إمبرياليا، وتحريفياً. وهاهم ينطلقون من ذات الوعي التقليدي ليصبحوا مدّاحي الرأسمالية ومقرظي الاشتراكية. لهذا أقول أن هؤلاء ليسوا ماركسيين، ولم يكونوا يوماً كذلك، إنهم قادمون من القرون الوسطى. لم يصل وعيهم حتى إلى مستوى الوعي البرجوازي الحديث، وبالتالي كانوا أبعد من أن يعوا الماركسية، لهذا حوّلوها إلى شعوذات وطقوس، تُتناقل ككل الشعوذات والطقوس شفاهة. ولا شك أن نقدي للبنى التنظيمية للأحزاب الماركسية كان بهدف توضيح مدى سيطرة القرون الوسطى على ممارسات هؤلاء. إنه الاستبداد الشرقي الذي أدانته الماركسية وهي تسعى لتمثيل كل الفكر الحديث، وخصوصاً فيما يتعلق بالديمقراطية. إنها وريثة كل ما هو ثوري في الفكر الحديث، وإذا كان لينين قد أشار إلى أن مصادرها هي الاقتصادي السياسي الإنجليزي، والفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية، فإن التراث الديمقراطي الأوربي عموماً والفرنسي خصوصاً مصدراً من مصادرها أيضاً.
والآن ماذا يمكن أن أقول، وأنا أقدم للطبعة الثالثة عن آفاق الاشتراكية بعد الانهيار؟
إذا كان التراكم الكمي (في السلب) قد أفضى إلى نفي الاشتراكية، فهذا هو –حسب المنهجية الماركسية- النفي الأول، وبالتالي فما هو قائم الآن ليس الخيار المنتصر، أي النهائي، إنه مرحلة بين مرحلتين، لكن ما هي طبيعة المرحلة القادمة إذن؟
إذا كان نفي النفي يحمل السمات الإيجابية للفرضية (الأطروحة، وهي هنا التجربة الاشتراكية) وللنفي الأول (وهو هنا النظام القائم راهناً)، فإن احتمالان يمكن أن يتحدَّدا:الأول يتمثل في اندماج (أو توحد، أو تلاحم) الديمقراطية التي هي سمة النفي الأول، والصناعة التي هي سمة (أو من سمات، لكنها كانت في جوهر عملية التقدم التي حققتها الاشتراكية) الفرضية لتأسيس نظام برجوازي ديمقراطي في إطار سيطرة الملكية الخاصة. وهو يختلف عما هو قائم راهناً في تشكَّل مؤسسات ديمقراطية مستقرة، وفي تجاوز نمط الرأسمالية التابعة (التجارية، النهّابة، الشرهة…) المسيطرة حالياً.
لكن أساس ضعف هذا الخيار يتمثل في غياب الطبقة البرجوازية، والصناعية تحديداً القادرة على قيادة السلطة، وإنهاض الصناعة، ثم في طبيعة السوق العالمي الذي لا يستوعب قوّة منافسة جديدة، وما من شك أن انتصار هذا الخيار يحتاج إلى السوق، إلى احتكار سوق عالمي لكي يستطيع الاستقرار داخلياً.
وفي هذا المجال لابدّ من أن يتبلور منزعان الأول «عدواني» يتطلع، قبل أو بالتوافق مع، ترتيب الوضع الاقتصادي الداخلي، إلى التوسّع الخارجي أو التهديد به، من أجل ضمان «مناطق نفوذ» تكوّن السوق الذي يسمح بتحقيق التطوير الداخلي. والثاني: الميل إلى سيادة شكل من أشكال رأسمالية الدولة، يحقِّق ضمان التطوير الصناعي، وفي نفس الوقت يسمح بنمو هادئ لطبقة برجوازية صناعية، وربما تحقِّق هذا الخيار في صيغة «الاشتراكية الديمقراطية» على الطريقة الأوربية، ولا شك أن هذا الخيار يحافظ على مستوى مستقر لمعيشة الشعب لأنه يطرح حلاً لمشكلات البطالة والتعليم والصحة، ولكنه يصطدم بالنظام العالمي الذي لا يسمح باختراق السوق العالمي، من أجل تحقيق التراكم الضروري لتنفيذ كل ذلك، كما يبقى غياب الطبقة البرجوازية مشكلة تعيق التحوّل الرأسمالي.
الخيار الثاني: يتمثل في اندماج (أو توحّد أو تلاحم) الديمقراطية التي هي، كما أشرنا سمة النفي الأول، وإلغاء الملكية الخاصة، وبالتالي نمط المعيشة الذي أوجدته الاشتراكية (العمل، التعليم الصحة، توازن الأجور/ السعار...) التي هي أيضاً سمة التجربة الاشتراكية لتتحقِّق اشتراكية المثال، وإذا كنت أسميت الاشتراكية في التجربة السابقة بأنها اشتراكية بدائية، (وأقصد بذلك معنيان الأول: أنها تجربة أولية وبالتالي كان لابدّ من وجود عيوب فيها، والثاني: أنها تمارس وفق أساليب بدائية (وأقصد أساليب الاستبداد والتخلف القادم من القرون الوسطى لهذا أسميتها في مكان أخر، إشتراكية الاستبداد الآسيوي) فإن اشتراكية التوقّع هذه فلا بد من أن تكون اشتراكية ناضجة، إنها تحقِّق الديمقراطية الحقة، التي هيأت الاشتراكية البدائية أساس وجودها، وجعلتها ضرورة، وهي أيضاً تحقِّق البنية القادرة على التحسين المطرد للشعب على أساس الملكية الاجتماعية، إنها باختصار الأقرب لتحقيق صيغة نفي النفي، خصوصاً أن الرأسمالية لكونها قائمة في المصالح لدى قطاعات فقط، ولكي تصبح طبقة، هي معنية بالنهب، وبالتالي لا تفعل سوى تعميق عدم الاستقرار، مما يجعلها تسعى لفرض الاستبداد (الديكتاتورية)، أكثر من اهتمامها بتحقيق الديمقراطية! إنها وريثة الاستبداد الستاليني بجدارة.
ولابد لنا أن نرى الإضافة التي أدخلت في مسار التطور التاريخي، نتيجة إلغاء الملكية الخاصة، فقد أوجدت «منطقاً» للتطور، فلابدّ من أن يكون إنغرس في وعي الشعب، بعد تجربة النهب الرأسمالي، الذي مورس منذ نهاية الثمانينات.
إننا معنيون بدراسة التجربة بجدية عالية من أجل وعي كل مشكلاتها،وتحديد الصيغة الأكثر مقدرة على تحقيق التطور الاشتراكي، لهذا أقول أن هذه السنوات ليست سنوات ندب وإدانة وندم، بل إنها سنوات دراسة جادة للاشتراكية. إننا أمام تجربة غنية استمرت ما يقرب ثلاثة أرباع القرن، ولا شك أن دراستها هامة، من أجل بلورة صيغة متماسكة للاشتراكية، وهذه هي مهمة الماركسيين حقاً، الواعين لها، ومعقتنيها اعتماداً على هذا الوعي، والحريصين على دورها الثوري الأول.
تحدثت عن «نزعة برجوازية» وربما أشرت أحياناً إلى «طبقة» (بين مزدوجتين)، في النظام الاشتراكي، وأنا في هذه النقطة لن أوافق الرأي الذي شاع في السبعينات، في أوساط اليسار الحديث ولدى العديد من المثقفين، بتأثير الماوية، والقائل بنشوء طبقة تحكم هذا النظام، هي رأسمالية، رغم ملاحظتي لطابع الفئات الحاكمة، وطريقة تصرفها في الاقتصاد والسياسة.
بالنسبة لي الملكية الخاصة أساسية في التحديد، وهنا أنا أرفض اعتبار «حق التصرف» كافياً لتشكيل طبقة، لأنه من صلاحيات أي جهاز إداري لأية دولة، والفارق في الكم، وانطلاقاً من هذا الحق يمكن اعتبار الفئات الحاكمة في فرنسا طبقة رأسمالية، هي غير الطبقة الرأسمالية المالكة، لأنها تتصرف ليس في موارد الدولة فقط، بل أيضاً في أرباح «القطاع العام» الذي شكل ثقلاً مهماً في الاقتصاد الفرنسي، وهذا خُلْف، لأن رأسمالية النظام الاقتصادي نابعة من تحكم طبقة مالكة في الاقتصاد، رغم أنها «تنازلت» عن بعض قطاعاته لمصلحة الدولة، لكن الدولة المدارة من قبل الطبقة الرأسمالية، وبالتالي فإن تصرف الجهاز الإداري في هذه القطاعات الاقتصادية لم يجعل من كبار موظفيه طبقة، إن الملكية الخاصة مسألة جوهرية لانقسام المجتمع إلى طبقات، ودون ذلك يمكن نشوء فئات ناهبة، لكن هذه الحالة مؤقتة وتفضي عادة إلى الانقسام إلى طبقات، بشكل طبقة مالكة عبر الدولة، حيث أنها حينما تملك تعيد تشكيل الدولة على هذا الأساس.
هذا هو شكل الانتقال إلى المجتمع الطبقي عبر ما أسمي «النمط الآسيوي«، في الحضارات القديمة، وهو شكل سلطة «حركة التحرر الوطني«. في الحالة الأولى لم تكن الملكية الخاصة قد تكرست، وبالتالي كانت مدخل تكريسها. وفي الحالة الثانية، كانت الملكية الخاصة مقدسة، رغم تحديد الملكية في بعض القطاعات (الزراعة) والتأميم (في الصناعة)، وبالتالي سرعان ما تحوّلت قطاعات من الفئة الحاكمة إلى جزء من طبقة مالكة. أما في الدول الاشتراكية فقد ألغيت الملكية الخاصة، وأصبحت كل القطاعات الاقتصادية (وغير الاقتصادية) «ملكاً للدولة«، تتصرف بها السلطة السياسية عبر الجهاز الإداري. وهنا يصبح النقاش منصباً على طريقة التصرف، لهذا أطلقت على هذا التصرّف بأنه يعبِّر عن «نزعة برجوازية» لأنه كان ينطلق من تحقيق مصلحة هذه الفئات، لكن دون أن يحوّل الرأسمال (الذي هو ملك الدولة) إلى رأسمال خاص، بل تحقّق نزوعها «الرأسمالي» عبر البذخ، والاستئثار، والتبذير وهذه الحالة هي ما أسميته «نزعة» لأنها تلمس ميول هذه الفئات وتلبيها، ولا تتعلق بتحوّلها إلى فئات مالكة. ولقد كانت هذه الحالة ضارة بالاقتصاد لأنها كانت تلقي بالرأسمال المتراكم إلى التهلكة، بإخراجه من «الدورة الاقتصادية«، أي دون إعادة توظيفه في الإنتاج عبر التملك الخاص.
ولقد أبان انهيار هذه النظم ذلك، حيث توضّح مدى الأثر الذي أحدثه «النهب» (إضافة إلى التوظيف في القطاعات العسكرية) في الاقتصاد، في تطور الصناعة والزراعة، وفي «سوء الوضع المعيشي للشعب«، كما توضّح أن هذا «النهب» لم يتحوّل إلى ملكية خاصة، حتى كأموال نقدية مودعة في البنوك الخارجية، لأن انتصار «الرأسمالية» على أنقاض الاشتراكية عانى من مشكلة كبيرة، هي غياب طبقة رأسمالية، أو حتى أفراد لديهم رأسمال نقدي، ولهذا كان الانتصار هو انتصار لنزوع رأسمالي وليس لطبقة رأسمالية، هذا النزوع المنتصر هو الذي فتح المجال للتملك الخاص عبر إقرار ذلك قانونياً، كما فتح المجال لبدء تشكَّل طبقة عبر النهب والسرقة، والمافيات، والسمسرة،وبالتالي فمنذ الانهيار أصبح ممكناً نهب الدولة لمصلحة الملكية الخاصة. وقبل ذلك كان البذخ هو البديل للملكية الخاصة مادامت محظورة. وهنا ألاحظ بأن «النزعة البرجوازية»، لعبت دورها في سعي أصحابها للتحوّل إلى طبقة رأسمالية في اللحظة التي أصبح فيها التملك ممكناً.
وبالتالي فإذا كان نشأ تمايز اجتماعي في النظام الاشتراكي، فلم يكن يعني ذلك نشوء طبقات، لأنه تمايز ناشئ عن الاختلاف في استحواذ الفائض عبر الدولة. لهذا كانت الفئات العليا في السلطة وفي الجهاز الإداري (البيروقراطية) أكثر استحواذاً من الفئات الدنيا، وهذه وتلك أكثر من باقي الشعب، إنه تقسيم تراتبي اجتماعي، نعم لكنه لا يعبِّر عن انقسام طبقي بأي حال من الأحوال، لهذا انهار حال انهيار النظام، وانتصار «النزعة البرجوازية»، أما بدء نشوء «الطبقة الجديدة»، فقد أبان أن «مصادرها» هي من مختلف «المراتب» السابقة، وليس من الفئة العليا فقط، حيث تحوّل موظفون صغار إلى رأسماليين كبار، مثلما أنحط وضع أقسام واسعة من الفئة العليا.
المسألة الأساسية إذن، هي: هل أن الطبقة تؤسس على أساس الملكية الخاصة، أم على أساس العلاقة بفائض الإنتاج؟ د. سمير أمين يعتبر أن العلاقة بفائض الإنتاج هي محدّد الطبقة، وعليه تتشكَّل الطبقة المسيطرة، إما بتملك وسائل الإنتاج (الملكية الخاصة) أو بالتصرف بفائض الإنتاج عبر الدولة، ومثاله الإمبراطورية العربية الإسلامية، لكن أيضاً الدولة الاشتراكية. لكن هذا الرأي يثير مشكلة في الماركسية حول أهمية نشوء الملكية الخاصة في تطور المجتمعات وكذلك في الانقسام إلى طبقات. كما يثير مشكلة تتعلق بالتطور المجتمعي ذاته، فهل غابت الملكية الخاصة في أيٍّ من المجتمعات (ومنها المجتمع العربي الإسلامي)؟ جوابي على هذه المسألة هو بالنفي. حيث أنني أعتبر بأن التأكيد على غياب الملكية الخاصة هو وهم، اختراع ذهني، لأن التاريخ الواقعي يؤكد وجودها، أكثر من ذلك قداستها. ولا أدري هل انطلق د.سمير أمين من التاريخ لتأكيد مفهومه حول حيازة الفائض، وبالتالي سحبه على الاشتراكية، أو فعل العكس؟ لكن في كلا الحالتين الأساس خاطئ، لأن الانطلاق من حيازة (أو التصرف بـ) الفائض، يتجاهل أساس نشوئه، ومنتهاه، أي طابع الملكية لوسائل الإنتاج، التي توجد الفائض، ومآل هذا الفائض. فإذا كان في الرأسمالية ينتج عن الملكية الخاصة ويصّب فيها، فإنه في الدولة الاشتراكية ينتج عن ملكية الدولة (الملكية العامة حسب ما أسميت)، ويصب في الاستهلاك عبر البذخ والتبذير، وهذا الشكل لا يؤسس لنشوء طبقة، عكس الشكل الأول. وكما قلت سابقاً فإن حق التصرف (المفضي إلى الاستهلاك) لا يهيئ لنشوء طبقة ولم يهيئ لنشوء طبقة.
أعتقد بأن الملكية الخاصة أساس حاسم في انقسام المجتمع إلى طبقات، هذه مسألة أساسية في الماركسية، لأنها أساسية في التاريخ، وأي تحديد لطبقات في غياب الملكية الخاصة هو تحديد وهمي. وهو في تحليل الدولة الاشتراكية تحديد مبتسر، ومتسرّع لأنه يختصر كل تعقيد التكوين بنشوء طبقة مسيطرة، وبالتالي لا يرى أهمية إلغاء الملكية الخاصة، ولا انعكاسها على التكوين الاقتصادي الاجتماعي، ولا يحدِّد أسباب الدور الهائل للدولة، فهو يرجعها لنشوء طبقة، بينما هي أعقد من ذلك.
الطبقة إذن، تقوم على الملكية الخاصة، ومن غير الممكن تشكَّل طبقات حيث لا تنشأ الملكية الخاصة. وحين نتحدث عن طبقة حاكمة فيجب أولاً أن تكون مالكة، وهنا يجب التأكيد على أن الخلط بين الطبقة والجهاز البيروقراطي ضار، لأن هذا الجهاز أداة الطبقة في السلطة، وحين لا يكون هناك طبقة، أو تكون الطبقة ضعيفة، يستقل هذا الجهاز، فيتصرف بالتراكم الرأسمالي، لكنه هو ذاته لا يتحوّل إلى طبقة، بل يمكن أن ينشأ منه فئات تنهب لتحقِّق التراكم الرأسمالي الخاص حينما تكون الملكية الخاصة مقرّة وسائدة، لكن حينما لا تكون مقرّة فإنه ينتج الاستهلاك فقط. وإلغاء الملكية الخاصة يلغي الطبقات (اقتصادياً) لكنه لا يلغي النزعات والميول الطبقية، التي تبدو على أنها غير مؤسسة اقتصادياً، رغم أنها تطمح إلى ذلك. هذه النزعات هي التي نشأت في الدولة الاشتراكية، وبدت أخيراً وكأنها حلم كل مجتمع.
________________________________________________
(*) النص هنا جزء من مقدمة كتبت لكتاب "نقد الحزب، المشكلات التنظيمية للحزب الشيوعي" الذي سوف يصدر في طبعة جديدة قريباً.