دفاتر يسارية تقاوم السقوط بالتقادم (2) .. الجماهير تدخل الثكنات.. والجيش يحتكر السياسة!


سعد هجرس
2008 / 10 / 16 - 08:18     

الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى "حدتو" ليست المنظمة "الشيوعية" الوحيدة. فتاريخ الحركة الشيوعية المصرية حافل بـ "التعددية" المفرطة نتيجة التشرذم والانقسام والروح الحلقية التى تعد إحدى سماتها وآفاتها فى الوقت نفسه.
بيد أنها بلا شك واحدة من أكبر وأهم فصائل هذه الحركة الشيوعية، وأكثرها "جماهيرية"، ولا غرو فى أن تكون- بالتالى- أكثرها إثارة للجدل.
ولا يكاد يوجد يسارى مصرى لم يتأثر – بصورة أو أخرى- بأفكار "حدتو" .
فما هو سر هذه المنظمة؟!
يجيب الدكتور أحمد القصير على هذا السؤال فى كتابه المهم "حدتو .. ذاكرة وطن" الصادر حديثا عن "دار العالم الثالث" فى 223 صفحة من القطع المتوسط مقسمة الى سبعة فصول.
فى الفصل الأول "حدتو فى التاريخ عبر الوثائق وأرشيف مجموعة روما" الذى يقع فى ستين صفحة يتتبع "القصير" تأسيس "حدتو" فى أعقاب ظهور قيادات طلابية وعمالية جديدة فى الحركة الوطنية، الى جانب القيادات التقليدية التى فشلت فى تحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. وتمثلت تلك التيارات الجديدة فى "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال " التى تشكلت مساء يوم 17 فبراير 1946 فى اجتماع مشترك "للجنة الوطنية للطلبة" و "اللجنة الوطنية للعمال". وكان للشيوعيين وحلفائهم الدور الرئيسى فى تأسيس تلك اللجنة وفى قيادتها.
وفى هذا السياق تم تأسيس "حدتو" كمنظمة شيوعية سرية فى شهر مايو عام 1947.
وبالطبع لم تكن هذه أول منظمة "شيوعية" مصرية، فالحزب الشيوعى المصرى تأسس عام 1921، كما سبق تأسيس "حدتو" ظهور منظمات " شيوعية" متعددة منها على سبيل المثال منظمة "إيسكرا" اى الشرارة (باللغة الروسية!) كما مهدت لنشأتها "الحركة المصرية للتحرر الوطنى" التى كانت تسمى اختصارا "حمتو"، فضلا عن عدة مؤسسات ونوادى ثقافية عملت على نشر الفكر الجديد.
من بين تلك المؤسسات "دار الأبحاث العلمية" التى أسسها وقاد نشاطها عام 1943 شهدى عطية الشافعى وعبد المعبود الجبيلى اللذان وضعا عام 1945 برنامجا للحركة الوطنية فى كتاب " أهدافنا الوطنية". و"اتحاد خريجى الجامعة" ومجلة " أم درمان" التى صدرت عام 1944، ومجلة "الفجر الجديد" التى ظهرت عام 1945 و " لجنة نشر الثقافة الجديدة".
وقد افضى النضال الذى قامت به منظمة "حمتو" ومنظمة "الشرارة" الى خلق الظروف المواتية لتأسيس حركة جماهيرية تتسلح بتوجهات سياسية وفكرية "جديدة" تتجاوز توجهات القوى السياسية التقليدية.
كما شكل التعاون بينهما فى النشاط العملى الجماهيري دفعة قوية مضت بالقضية الوطنية الى منعطفات جديدة تتجاوز آفاق تفكير الأحزاب والقوى التقليدية وتطلعاتها. كما تغلغلت المنظمات فى مجالات جماهيرية مثل العمال والطلبة، واستطاعت أيضا تكوين تنظيمات نقابية عمالية " مستقلة".
ونتيجة لذلك ظهرت القيادة المشتركة للجنتى الطلبة والعمال التى تميزت قيادتها بالجمع بين القضية الوطنية والقضايا الاجتماعية. كما نجحت فى قيادة هبة شعبية واسعة هزت البلاد خلال فبراير – مارس 1946 استطاعت تحقيق جلاء القوات البريطانية من المدن الكبرى والتمركز فى منطقة قناة السويس، وإفشال مشروع اتفاقية صدقى- بيفن.
كما حدث خلال هذه الهبة تلاحم بين الجيش والحركة الوطنية . فأثناء تصاعد الحركة الطلابية أمرت السلطات الجيش بمحاصرة الطلاب فى جامعة القاهرة. ومن المفارقات ان المناضل جمال غالى – الذى كان وقتها عضوا باللجنة المركزية لمنظمة "الشرارة" والطالب بكلية العلوم- كان هو الشخص الذى تم تكليفه حزبيا بالاتصال بقوات الجيش التى تحاصر الجامعة ودعوتهم الى عدم ضرب الطلبة . وكان أحمد حمروش- الذى أصبح فيما بعد عضوا باللجنة المركزية لحدتو- على رأس قوات الجيش التى تحاصر الجامعة. وقد أعلن أحمد حمروش آنذاك ان قوات الجيش لا يمكن ان تضرب الطلبة.
ومنذ هذه اللحظة نلاحظ اهتماماً خاصا من "حدتو" بالجيش.
فلم تكن بعيدة عن تأسيس تنظيم "الضباط الاحرار" حيث كان خالد محيى الدين أحد الضباط الخمسة المؤسسين لهذا التنظيم كما تحمل هو وأعضاء آخرين فى حدتو من الضباط الدور الاساسى فى نشاط ذلك التنظيم، وفى كتابة المنشورات وتوزيعها.. وخلال الشهور السابقة على قيام الثورة تولت حدتو طباعة منشورات الضباط الأحرار فى جهازها الفنى الخاص".
كما " انفردت حدتو بتأييد الثورة منذ لحظة قيامها.. وفضلا عن ذلك أسهمت حدتو عن طريق خالد محيى الدين فى صدور بعض التشريعات بعد قيام الثورة مثل منع الفصل التعسفى والإصلاح الزراعى".
لكن عندما حاولت حدتو الاستمرار - بعد ثورة 23 يوليو 1952- فى مطالبتها بتأسيس اتحاد لنقابات العمال وتحديد الفترة 7-9 سبتمبر 1952 كموعد لانعقاد المؤتمر التأسيسى لذلك الاتحاد، جرى اجتماع مشترك بين قيادة الثورة وقيادة النقابيين فى حدتو وكان من بينهم أحمد طه سكرتير اللجنة التحضرية لاتحاد نقابات العمال. وحضر تلك الاجتماعات محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة وجمال عبد الناصر. لكن رجال الثورة قرروا من جانبهم تأجيل موعد انعقاد المؤتمر بحجة ان من الضرورى ان يتم أولا تعديل القوانين بحيث تسمح بتأسيس اتحاد عام لنقابات العمال. ومن الواضح ان عبد الناصر كان يعلم قبل ثورة يوليو أن لحدتو تأثيرها ونفوذها فى مجالات مختلفة بما فى ذلك المجال العمالى، ويبدو أنه أراد أن يقوم بنفسه بمعرفة ذلك الامر بعد قيام الثورة ووصوله الى السلطة. وهنا يكمن أحد اسباب حضوره تلك الاجتماعات مع القيادات العمالية بعد قيام الثورة بعدة أيام".
ويكشف أحمد القصير النقاب هنا عن واقعة مهمة هى أنه أثناء عودة نشاط اللجنة التحضرية لاتحاد نقابات العمال فور قيام ثورة يوليو عمل سيد قطب، الذى برز فيما بعد كصاحب فكر أصولى، مستشارا لعبد المنعم أمين عضو قيادة الثورة والذى ترأس المحكمة العسكرية الهمجية التى قضت بإعدام الزعيمين خميس وبفرى. وقد دعا سيد قطب آنذاك الى تأجيل تأسيس اتحاد نقابات العمال إلى أن يتم تطهير النقابات العمالية من الشيوعيين وقد تصدى له فتحى كامل رئيس نقابة ماتوسيان التى أصبحت فيما بعد الشركة الشرقية للدخان.. واوضح أن سيد قطب يستطيع ان يتحدث فى الآداب وليس النقابات العمالية، بل يجب أن يبتعد عنها.
وعلى اى حال فان الأوضاع سرعان ما تعقدت نتيجة أحداث كفر الدوار فى 13 أغسطس وإعدام خميس والبقرى زعيمى العمال فى 7 سبتمبر 1952 بعد محاكمة عسكرية إرهابية. وبعد إعدام خميس والبقرى بأيام معدودة قرر مجلس قيادة الثورة فى 12 سبتمبر 1952 تأجيل عقد المؤتمر التأسيسى لاتحاد نقابات العمال . وكان التأجيل هذه المرة الى أجل غير مسمى. ثم توقف كل ما يتعلق بتأسيس الاتحاد بعد صدور قرارات مجلس قيادة ثورة يوليو بحل الأحزاب السياسية وإلغاء دستور 1923 فى 15 يناير 1953 . وفى نفس اليوم تم اعتقال أحمد حمروش ضابط المدفعية والمسئول السياسى لقسم الجيش بحدتو".
وكنتيجة لذلك اتخذت حدتو فى الفترة التالية لشهر يناير 1953 " موقف المعارضة لسياسات مجلس قيادة الثورة التى ترتبت على حل الأحزاب السياسية وإلغاء دستور 1923، وواصلت المطالبة بعودة الحياة النيابية وإلغاء كافة الإجراءات الاستثنائية، ودعت إلى إسقاط الحكم العسكرى ، وشكلت جبهة من اجل تحقيق تلك الأهداف" لكن هذه الخطوة بين حدتو وثورة يوليو كانت عابرة ، لأن هذا الموقف المعارض لم يستمر طويلا حيث عادت حدتو الى تأييد عبد الناصر بعد مشاركته عام 1955 فى مؤتمر باندونج الذى دعا الى تصفية الاستعمار رغم انه لم يلبى المطالب المشار اليها آنفاً بأى صورة من الصور!
وللحديث بقية