البيان الشيوعي لمرحلة الاحتلال- الجزء الثالث


سلام عبود
2008 / 10 / 11 - 09:21     

من صراع الطبقات الى صراع الأديان
كانت اهتزازات الأرض محسوسة، لكنها لم تكن مدركة تماما، خاصة سرعة الانهيارات الأرضية في حلقات النظام الأشتراكي، التي أخذت طابع الطول والحدة الدموية في المواقع التي كانت أكثر استقلالا وبعدا عن النمط السوفيتي: رومانيا ويوغسلافيا. وكلما كان "الانحراف" عن الخط السوفيتي عميقا كان حظ البقاء أكبر: الصين ، فيتنام، كوريا، كوبا. بعض تلك الانهيارات جاء أسرع مما توقعه الأعداء، خاصة في الأجزاء الأكثر ارتباطا بالخط السوفيتي كألمانيا وبلغاريا. لكن الإحساس باهتزاز الأرض كان حقيقة ملموسة دفعت العديد من قادة أوروبا، من زعماء البدائل الرأسمالية المختلفة، الى الاستعداد لعملية التغيير، والتهيؤ الاستباقي لاستقبال عدو جديد محتمل ومتوقع الظهور، والتدرب على سبل تلقي عواقب الهزات السياسية، وعواقب تفجير الصراعات العرقية والقومية والدينية، كتحريك الاتراك البلغار (صراع ضد الشيوعية على قاعدة عرقية استخدم فيه الدين كهوية)، أو تمرد المسلمين اليوغسلاف (البوسنيين والألبان)، ومسلمي آسيا الوسطى والقوقاز، وحتى المسلمين القبارصة. وهي مناطق أحلّت، في أحوال عديدة، الهوية الدينية محل الهوية القومية أو اتحدت بها لتكون الطابع العام المميز لشعارات الحرب ضد العدو الرئيسي. في هذه الحقبة قام العديد من قادة الكتل السياسية الأوروبية بأدوار بارزة في تأجيج وتغذية وتسيير أوجه الصراعات العرقية والدينية، كالدور الكبير الذي لعبة رئيس حزب اليمين السويدي كارل بلد، الذي تولى في فترة رئاسته للحكومة، مهمة نقل الآلاف من العالقين في كماشة التصعيد العرقي الديني في بلغاريا وكوسفو والبوسنة، بصحبة أعداد كبيرة من الناشطين والدعاة السياسيين وحتى جماعات المقاتلين السرية، وصلت أعدادهم الى أرقام خيالية، قياسا بحجم دولة صغيرة كالسويد. ففي فترة رئاسة كارل بلد الأولى وصل عدد المهاجرين من منطقة البلقان ما يقرب من ثمانين ألف مهاجر. لقد أظهرت الأحداث اللاحقة أن كارل بلد أخذ بالتحول السريع- بالتزامن مع تغير هوية العداء من شيوعي الى إسلامي- من زعيم سياسي محلي لبلد صغير مسالم كالسويد الى وسيط دولي، ذي حياد خادع، كما يقر بلد نفسه، ثم الى وسيط أممي رسمي يتولى ملف البلقان. وفي غزو العراق ظهر اسمه مجددا ضمن فريق الخبراء الذين خططوا ورسموا الآفاق العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية للاحتلال، وظهر اسمه ثالثة في عقود النفط وفي أحداث دارفور، ثم ظهر مؤخرا في مؤتمر ستوكهولم 2008 كراع لإعادة إعمار ما خربته آلة الغزو. إن السياسة، حتى اللبرالية الأوروبية منها، ليست بريئة، كما يعتقد الناس الطيبون!
من هذا العرض نرى أن الحروب العرقية، والصراع ضد العدو السابق في ثوبه السياسي والعسكري، ومشكلة الهجرة اختلطت جميعها بالموقف من الإسلام: الإسلام كحليف، ثم الإسلام كعدو. في هذه الحزمة المتشابكة من التناقضات، أضحى من المحتم على القوة الأساسية القائدة لعصرنا، الولايات المتحدة الأميركية، يشاركها بنسب متفاوته حلفاؤها الأوروبيون، أن تعجل في إعادة تأسيس خطابها السياسي الايديولوجي؛ لذلك ظهر الإسلام مجددا، ولكن ليس كعدو ايديولوجي وشعار سياسي فحسب، وإنما كعدو ميداني يجول في العالم مثل شبح، حاله كحال شبح ماركس الذي أقضّ مضاجع برجوازيي الحقبة الاستعمارية في مرحلة تقاسم العالم، وراح يضرب في غير مكان. وتم ضخ شحنات هائلة من شحنات العداء الحقيقي والمفتعل ضد الإسلام، كدين وتاريخ وهوية وليس كعقيدة فحسب، من أجل تمهيد الأرض نفسيا واجتماعيا لتقبل نتائج سياسة "الحرب العالمية على الإرهاب". فنشأت ما تعرف بـظاهرة "فوبيا الإسلام". ومن هنا نرى أن القوى السياسية الأوروبية وقعت في كماشة التغيير الدولي؛ فمن جهة استجابت الى نزعة تأجيج الصراعات ضد الشيوعية باسم الإسلام، ومن جهة ثانية حصدت نتائج عكسية حينما استقبلت وافدين من هذه البلدان في الوقت الذي اختفى فيه العدو السباق وأصبح الصديق السابق عدوا. هذا الانقلاب الحاد، الذي أفاد منه الأميركيون ( بسبب بعدهم الجغرافي)، كان وراء ظاهرة "فوبيا الإسلام"، التي أشاعها العرقيون الأوروبيون وأيدتها صمتا أو علنا الحكومات الأوروبية، كنوع من الدفاع الذاتي في مواجهة الإنقلاب الأيديولوجي والسياسي التاريخي، الذي خططت له الولايات المتحدة الأميركية وحققته بنجاح تام. ولم تكن أحداث 11 سبتمبر سوى عرض مسرحي مباشر، بالذخيرة الحية، لعملية تعميم الخوف. لكن هذا الخوف الذي أريد له صناعة مناخ نفسي وثقافي مساند للحرب والضربات العسكرية، التي وقفت أغلب شعوب أوروبا ضدها، نجح نجاحا تاما ليس في إشاعة الخوف وزرع عدم الثقة بين البشر، بل عمق الإحساس المقابل بالخوف وعدم الأمان وفقدان الثقة لدى المهاجر نفسه، الذي انكفأ، بقوة الضغط الخارجي، على ذاته، وأخذ يبحث عن ملاذات وحمايات من ظاهرة الخوف من الإ سلام، من طريق اللجوء الى الاسلام نفسه، وفي أحوال كثيرة البحث عن أكثر مظاهره تزمتا وتخلفا، لأنها الأيسر منالا، والأكثر أمانا. إن التحول السياسي – الايديولوجي الأميركي ولّد عواقب ثقافية عالمية عظيمة الخطورة، لا تشبها في تاريخ البشرية السابق، سوى نتائج الخطاب التعبوي العسكري الديني للبابا أوربان الثاني، مشرّع الحروب الصليبة.
باختفاء الشيوعية واندفاع أميركا السريع والمحموم في عمليات ابتلاع وإعادة تقاسم العالم القديم، اكتشف الأميركان بأنفسهم، أن قواهم ومقدرتهم الذاتية، كلاعب وحيد، لا تلائم حجم المهمات الواسعة المعروضة أمامهم؛ لذلك تطلب هذا المأزق منهم إعادة ترتيب الأدوار الدولية على عجل، من طريق إلغاء مبادئ ومواثيق ما بعد الحرب الثانية بإعادة اليابان وألمانيا الى الحظيرة السياسية العسكرية الدولية واشراكهما في غزو العراق، وجذب دول ُصنّفت لفترة طويلة على أنها دول محايدة كالدانمارك والسويد الى جبهة الحرب، وتنشيط عملية إعادة تأهيل اسرائيل إقليميا؛ رافقت ذلك كله إعادة صياغة جذرية لمبادي وثقافة الحرب وأخلاقها، وهو ما يعرف بالعقيدة القتالية، على قاعدة نظرية جديدة قوامها استئصال العدو وإعادته الى العصر الحجري، بكل ما تحمله هذه الشعارات من دوافع عدوانية وعرقية، فظة، معادية للقيم الإنسانية، كشرعية القتل على الشبهات، وحق القتل عند الإحساس بالضيق وعدم الارتياح والارتياب، وحق ممارسة التعذيب والايذاء، وإقامة السجون الخاصة، والسجون السرية الدولية، وتبادل ومقايضة المعتقلين دوليا، وشرعية العقاب الجماعي، وحق تدمير المدن، وأخذ الرهائن، وتجريف الأراضي، وطمأنة المحاربين بوجود حصانات تكفل لهم ممارسة تلك الحقوق قانونيا، تبعدهم عن أية مساءلة قضائية وطنية؛ وإعادة ترتيب شاملة لبنية العمليات العسكرية، من طريق إشراك أكثر من طرف في حروب التقاسم الجديدة، جاعلين من الحرب شركة احتكارية عسكرية عابرة للقارات، تلعب فيها الدول الصغيرة والكبيرة أدوارا مختلفة، بحسب كبر وحجم اسهمها في هذه المؤسسة الحربية الاحتكارية، التي قد يصل عدد المساهمين فيها الى أكثر من ثلاثين مالكا للأسهم، كما في مثال الحرب على العراق وأفغانستان؛ كما جرى تغيير في بنية القوة المحاربة، بإعادة تغيير هيكلة الجيش الرئيسي، القوات الأميركية ذاتها، التي لم تعد قادرة على تحمل العمل في جبهات عديدة واسعة، من طريق خصصة جزء كبير من مهمات عمل القوات العسكرية، باستئجار فرق المرتزقة الدوليين أو المتعاقدين ( مثل هذه الظاهرة لازمت الحروب العالمية كلها، ولكن أشكال ظهورها تغيرت بتغير الأزمان) وباستئجار دول محاربة (اثيوبيا ضد الصوال وتشاد ضد السودان) أو جماعات محلية محاربة (الصحوات). إن تغييرا عميقا يشهده عصرنا، لم يكن سببه انهيار المنظومة الاشتراكية، كما يظن أغلب سكان الأرض، بل بسبب سرعة هذا الانهيار، وبسبب عدم مقدرة البديل على إدارة العالم بقواه الذاتية، لأنه لم يزل حتى هذه الحظة مجرد قوة منفردة، لم تصبح كتلة حقيقة واسعة، متماسكة بعد. هذا الخلل في البنية الداخلية للمنتصر الدولي هو مصدر الاضطراب في السياسة الأميركية الراهنة، التي لم تعد قادرة على التوفيق بين الخطط المباشرة والأهداف بعيدة المدى. فانفكاك التحالف مع الخطاب الإسلامي وتحول الإسلام الى عدو رئيس وهدف إعلامي شامل، ظهر في هيئة محاربة الارهاب كشعار، وفي هيئة تحالف دولي ضد الإرهاب كمنظومة عمل، لم ترق الى مستوى الحلف بعد؛ لأن أغلب أطرافها، الأوروبية خاصة، لم تزل تساير المنتصر القوي خوفا وترقبا أكثر منه إقتناعا. فأغلب هذه الدول لها مصالحها ورؤيتها الخاصة للصراع الدولي، لا تتطابق مع الرؤية الأميركية. ومنها ما يرى في أميركا جسما خارجيا لا يتأثر كثير، بشكل مباشر، بمتغيرات القارات القديمة آسيا وأفريقيا، المجاورتين لأوروبا. وهذا السبب كان عاملا إضافيا من عوامل النفخ في تفجيرات 11 سبتمبر وجعلها قضية كونيّة، تربط أطراف العالم ببعضها؛ وهو رابط واهن، مضخّم، تدرك الدول الأوروبية جميعها ضعف مبرراته وهشاشتها، حاولت أمريكا من خلاله تقديم خط جبهتها الأول الى خارج القارة الأميركية، وحفر خنادقها الدفاعية ( هجومها المموه) في شوارع كابول وبغداد ودول الخليج العربي وأفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية. مثل هذه الوحدة لا تقنع الأوروبيين عامة، على الرغم من أنها قد تجد من بعضهم أذنا صاغية، وقد تجد حلفاء حقيقيين، ولكن مؤقتين، تجمعهم مهمة الحرب على الإرهاب الإسلامي كالروس، الذين استغلوا شعارات الحرب تلك لتدميرمعارضيهم القوميين تدميرا بربريا. لكن ذلك الشدّ الدولي المصطنع لا يصمد كثيرا، فرغم نهوض الإسلام في غير موضع، إلا أن الإسلام لا يمكن أن يكون قاعدة مشتركة لجبهة عالمية حقيقية تشمل البشر جميعا. فأميركا اللاتينة كلها، وأميركا الشمالية كلها، وجزء كبير من شرق آسيا وأفريقيا بعيد تماما عن تأثيرات الإسلام المباشرة. إضافة الى هذا إن الغرب مرغم على التعامل مع أكثر أشكال النظم الإسلامية تخلفا، بحكم كون الدين السياسي واقعا لا يمكن تجاهلة في مجتمعات تديرها حكومات حليفة كالسعودية وباكستان وأفغانستان مثلا. وفوق هذا وذاك إن مشكلات العالم الحقيقية أبعد كثيرا من كونها مشكلات عقائد دينية وصراع على العبادات. هذه واحدة من حلقات ضعف شعارات مبدأ محاربة الإرهاب الإسلامي وعولمته. إن توحيد كتلة الحلفاء السائرين خلف المنتصر الجديد تتطلب أيضا إعادة البني الاجتماعية الثقافية للجبهات الرئيسة، كبقايا وتوابع الاتحاد السوفيتي والشرق مثلا، التي تحتوى عددا غير قليل من المجتمعات الإسلامية، وتتطلب كذلك إعادة تركيب البنى الاجتماعية في دول الشرق الأوسط الإسلامية خاصة. والمهمة الأخيرة أهم حلقات تحقيق الهيمنة، لكنها أكثرها عسرا ومشقة. فمثل هذه المهمة الطويلة، المعقدة، تحتاج الى عقود مديدة لغرض إتمامها. بيد أن المنتصر الجديد قام باختصارها اختصارا كارثيا، بسبب نشوة النجاحات السريعة، غير المتوقعة، التي تم تحقيقها في مواقع الصراع الرئيسة المعلنة : السقوط السريع لطالبان والانهيار الأسرع لنظام صدام حسين. تلك المفاجآت أغرت الأميركان وجعلتهم يخلطون بين الأهداف البعيدة، المتمثلة في بناء مجتمع يطابق خطاب القوة المنتصرة، والهدف الآني المباشر: تدمير سلطة صدام أو طالبان. هذا الخلط انعكس انعكاسا مباشرا في اضطراب الخطاب الايديولوجي بشكل واضح وصريح، فراح يخلط بين الحرية والبربرية، بين الاستعباد والتحرير، بين التمدين والإفناء، بين الشراكة في المصالح والاحتلال. إنها فوضى تامة. ولا غرابة في ذلك. حينما نظر وزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد الى المشهد العراقي ابتسم وقال: إنها الفوضى الخلاقة، ضريبة التمرين على الحرية! إن الفوضى الخلاقة تعبير وصفي جيد تماما، وصادق، يتلاءم مع واقع المشهد الماثل أمامنا، المتمثل بالخلط بين الأهداف البعيدة والأهداف الآنيّة، الناشئ من عدم مقدرة الطرف العالمي المنتصر على إدارة العمليات المتغيرة الواسعة وحيدا، وعدم مقدرته على تجميع شركاء فعالين، نشطاء، من الدول الصديقة ذوات النظم الثابتة كفرنسا والمانيا وايطاليا (أوروبا القديمة!)، وحتى بريطانيا، المنعزلة أوروبّيا، بسبب تعارضها في المصالح والتوجهات مع الكثير الثوابت الأميركية. وفي مقابل ذلك وضعت أميركا ثقتها الكاملة واعتمدت اعتمادا مباشرا على دعم حلفاء قادمين من مجتمعات قام تأسيسها على الهجرات الاستيطانية، هي أقرب في بنائها التاريخي الى أميركا، كاستراليا وكندا واسرائيل، أو حلفاء شبه مستعمرين ككوريا الجنوبية؛ وضاعف من شدة أزمة المنتصر الجديد أنه لا يستطيع الاعتماد على الحلفاء الجدد، بقايا الاتحاد السوفيتي، لهشاشة وضعهم الداخلي وعدم استقرار بناهم السياسية الاجتماعية، وبسبب احتمالات قيام ردود فعل محلية واقليمية تصعّب مهام جرّ هذه البلدان أكثر نحو الحلف الأميركي والانخراط في الهدف الذي يريد هذا الحليف الوصول اليه. لذلك نرى بجلاء تام أن المنتصر يعاني أكثر من غيره من ورطة النصر. وهي ورطة عالميّة توجب على الجميع مسؤولية تحمل عبء نتائجها اليومية، والبحث عن حلول مشتركة للخروج من كماشتها القاتلة.
# يليه الجزء الرابع: المهمة اليوم: صناعة العدو، المهمة غدا: تدميره.