مقهى البوهة وحلزونية أزمات الرأسمالية !


سهر العامري
2008 / 10 / 6 - 09:49     

في ظل الأزمة العارمة التي تجتاح النظام الرأسمالي العالمي هرع الكثيرون الى كارل ماركس بعد أن كان النطق باسم هذا الرجل من المحرمات في مساجد وكنائس الرأسمالية قبل أن يكون محرما في مساجد وكنائس المتدينين من البشر ، لكن مقهى البوهة كانت من شواذ تلك القاعدة ، فقد عرفت جدلا ساخنا عن التطور الحلزوني للأزمات التي أصابت وتصيب النظام الرأسمالية وقت أن كان يزهو في تركيزه الصناعي للسلع في مطلع الستينيات من القرن المنصرم .
كانت مقهى البوهة تقع على ضفاف هور الحمّار من جنوب العراق ، وكان المتجادلون طلاب متوسطة الجمهورية ، وإعدادية الناصرية للبنين ، ودار المعلمين ، وذلك حين تضمهم تلك المقهى في جلسات تطول على مدى ساعات من أيام العطلة الصيفية ، وعلى الرغم من صغر سن هؤلاء ، فقد كانوا تواقين لمعرفة الكيفية التي ستموت بها الرأسمالية كنظام سائد في العالم ، مثله في ذلك مثل أنظمة اقتصادية-اجتماعية تخطتها البشرية في سيرها نحو آفاق العدل والمساواة والحياة الكريمة لجميع الناس .
في مقهى البوهة تلك تعلمنا التطور الحلزوني للأزمات الاقتصادية في النظام الرأسمالي التي ستلتف على عنق النظام ذاك وتقتله ، وكأنه رجل حفر قبره بيده ، وقد عرفنا ساعتها أن التطور الحلزوني يعني فيما يعني هو ضيق حلقة تلك الأزمة كلما تصاعدت مع مرور الأيام والى الحد الذي يتم به خنق النظام ذاك بفعل التناقض الطبقي الذي يفضي الى القضاء عليه بشكل تام شأنه في ذلك شأن النظام الإقطاعي الذي خنقه في نهاية المطاف ذات التناقض الطبقي .
كان النقاش في تلك المقهى يدور بعيد سنة 1963م وهو ذات التاريخ الذي الذي كان يلقي فيه ارنست ماندل ، أحد نشطاء الحركة العمالية الأوربية ، محاضراته في باريس أيام الآحاد عن أزمات النظام الرأسمالي تلك فيقول ( يمكننا أن نميز، في تاريخ الرأسمالية، إلى جانب الأزمات الدورية، التي تقع كل خمس سنوات أو سبع أو عشر سنوات، دورات طويلة المدى، تحدث عنها لأول مرة الاقتصادي الروسي كوندراتييف، ويمكن أن نسميها موجات طويلة المدى تتراوح من 25 إلى 30 سنة. إن موجة طويلة المدى تتسم بمعدلات مرتفعة في النمو تعقبها موجة طويلة المدى تتسم بمعدل نمو أدنى. ويبدو لي واضحا أن الفترة الواقعة بين 1913 و1940 كانت واحدة من هذه الموجات الطويلة المدى من ركود الإنتاج الرأسمالي، واتسمت كل الأزمات التي تعاقبت خلالها، من أزمة 1913 إلى أزمة 1920، من أزمة 1920 إلى أزمة 1929، من أزمة 1929 إلى أزمة 1938، بكونها أزمات كساد قاسية بشكل خاص بحكم أن الاتجاه الطويل المدى كان اتجاه ركود. إن الدورة الطويلة المدى التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية والتي ما نزال نعيش فيها – ولنقل دورة 1940-1965 أو 1940-1970 – اتسمت بالعكس بالازدهار " التوسع"، وبسببه اتسع هامش المفاوضة والمناقشة بين البرجوازية والطبقة العاملة. وهكذا وجدت إمكانية تدعيم النظام على أساس تنازلات مُنحت للعمال، وهي سياسة اتبعت على مقياس دولي في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وقد تتبع في المستقبل حتى في بلاد متعددة من أوروبا الجنوبية، وهذه السياسة هي سياسة الرأسمالية الجديدة، التي تقوم على تعاون وثيق نوعا ما بين البرجوازية الصاعدة والقوى المحافظة في الحركة العمالية، أساسه وجود نزوع لرفع مستوى معيشة العمال. )
وعلى هذا الأساس لم نكن نحن أبناء مدينة الناصرية وحدنا نناقش المصير الذي سيؤول إليه النظام الرأسمالية القديم والجديد منه ، وخاصة وأننا اكتشفنا عن طريق ماركس أن الربح ليس هو مصدر غنى الأثرياء من بني البشر ، وأن العرض والطلب ليسا هما من يحدد ثمن السلعة في السوق مثلما كان يقول كتاب الاقتصاد المدرسي للسنة الأولى من المرحلة الثانوية الذي استعرض بحماس النظريات الاقتصادية الرأسمالية عند آدم اسمث أو عند توماس مالثوس ، ولكنه سكت عن ذكر ماركس ، ولم يخصص لنظريته في الاقتصاد إلا حيزا صغيرا تحت عنوان : فائض القيمة ، وهو العنوان الذي قامت عليه النظرية الماركسية في الاقتصاد ، تلك النظرية التي فضحت السرقة الخفية التي كان يقوم بها رجال رأس المال بحق الملايين من البشر ، وذلك حين أعلن ماركس أن ثروة الرأسماليين مصدرها الفائض من قوة عمل العامل ، وهو الوقت الذي يكون خارج الوقت الضروري اجتماعيا لانتاج سلعة ما ، والذي على أساسه تتحدد قيمة السلعة تلك .
وعلى الضد من ذاك الكتاب فقد رأى مدرسنا في مادة الاقتصاد ، وكان نجفيا من بيت الصافي وذا ميول بعثية أن يقدم لنا شرحا وافيا لنظرية فائض القيمة في حصة دراسية خاصة بها ، بعد أن نقوم نحن بكتابتها من مصدر آخر وعد هو بإحضاره معه ، ولكن الكثير منا كان لا يؤمن بما يقوله هو بعد أن عرف طلاب تلك السنة ميوله البعثية ، وصار الكثير من هؤلاء يظهر له نوعا من أنواع المشاكسة ، فبعد أن شرح لنا عناوين اقتصادية من مثل : تعريف علم الاقتصاد ، السلعة ، العرض والطلب ، العمولة في البيع والشراء ، تمسك طالب منا ، واسمه : رياض حميد حميدي بكلمة : العمولة ! التي تعني كذلك عند أهل المدينة قطعة من الكعك ( الخبز ) فكان هذا الطالب يحرص على أن يخرج رأس من باب الغرفة الدراسية التي تضمنا جميعا ، وحين يرى الأستاذ قادما من بعيد يعود لنا مصفقا هاتفا : جعبوله لبو العموله ! فيردد معه الطلاب كلهم نفس الهتاف الذي تضج به غرفة الدرس ، وكثير ما كان هذا الهتاف يقع في أذني أستاذنا ، ولكنه يسكت لأنه يعلم أن هوى الطلاب ليس معه رغم أنه قدم لنا شرحا وافيا عن نظرية فائض القيمة لكارل ماركس ، والتي تعرفت عليها أنا للمرة الأولى في مقهى البوهة !
لم أكن أنا الوحيد الذي عاد لماركس ولنظرية تلك هذه الأيام بعد الأزمة الرأسمالية التي أصابت سوقها في الوول ستريت في مانهايتن من العاصمة الاقتصادية ، نيو يورك ، فهذا روان وليامز كبير أساقفة كانتربري يكتب من مقالة في مجلة : سبيكتاتور ( إن الأمر صار أشبه بما وصف ماركس بأنه نوع من الميثولوجيا " الأساطير ، حيث يستثمر الناس إيمانهم فيه مفترضين أن هذا العمل للصالح العام في حين أنه ليس كذلك في الحقيقة ) كما أن وكالة الأنباء الأمريكية CNN رددت هذه الأيام مقولة كارل ماركس الشهيرة : الرأسمالية مسؤولة عن جوع العالم . وهذا مصرفي بريطاني يعمل في الوول ستريت يقول : ( كلما طال بي الوقت في وول ستريت كنت ازداد اقتناعا ، بأن ماركس على حق ) ويتوقّع الصحافي والكاتب البريطاني فرانسيس وين ( بأنّّ ماركس (1818 ـ 1883) سيغدو المفكر الأشدّ نفوذا في القرن الحادي والعشرين.) فماركس هو القائل (إذا كانت الرأسمالية توجب التنافس فإننا إزاء نظام غير قادر على البقاء أصلاً ، شأنه شأن البهائم التي تلتهم صغارها )
من كل ما تقدم فأن العالم أصبح مشغولا هذه الأيام بماركس حتى أن رجال الثروة في الغرب صاروا يطالعون من جديد كتابه الشهر : رأس المال ، وذلك بعد أن ارتفعت أسعار المواد الغذائية ، ذلك الارتفاع الذي ألقت وسائل الإعلام ، التي تدور في فلك النظام الرأسمالي الغربية ، بمسؤوليته زورا على عاتق الطبقة الوسطى في كل من الهند والصين متهمة إياهما بزيادة استهلاكهما من المواد الغذائية . كما أنهم صاروا يطالعونه كذلك بعد أزمة ضياع الأصول المالية العقارية في المضاربات التي شهدتها البورصة في الوول ستريت ، تلك الأزمة التي لن يتعافى منها الاقتصاد الأمريكي على ما يبدو رغم النجدة المتجسدة في 700 مليار دولار التي بادرت بها حكومة جورج بوش من أجل إنقاذ المصارف المفلسة ، وهي نجدة يرى فيها الرئيس بوش نفسه أنها غير كافية وأن هناك تحديات كثيرة تواجه الاقتصاد الأمريكية ، ومثله قال باراك أوباما مرشح الرئاسة الأمريكية ( إنه يتعين بذل المزيد من الجهد لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي. وقال إنه حتى لو تم تطبيق الخطة بالكامل وحققت الأهداف المرجوة منها فهي " مجرد بداية " مشيرا إلى قضايا مثل البطالة والبيانات التي أظهرت أن زهاء 750 ألف أمريكي فقدوا وظائفهم منذ بداية هذا العام. )